شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صوت من الخليج
هذا الطائر الجريح المغرّد (1)
بقلم: د. غازي القصيبي ـ لندن
منذ سنين طويلة، وأحسبني كنت في المدرسة الثانوية وقتها، قرأت في كتاب مثير من كتب الناقد الساخر مارون عبّود عبارة مثيرة نسبها إلى أديب فرنسي شهير. سقط اسم الكتاب، واسم الأديب الفرنسي، من ثقوب الذاكرة وبقيت العبارة ((الشعراء الكبار نادرون: بل إنهم أندر من العلماء الكبار)). وصف ((الكبار)) يخيفني، فالشاعر قد يكون كبيراً في الحجم، ولا مبرر للأمثلة!، وقد يكون كبير المقام، والأمثلة كثيرة. كما أن تعريف ((الشعراء)) قد يكون محل أخذ ورد، بالتعريف الواسع، لا توجد ندرة في الشعراء بين العرب. مؤخراً، أعلن القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية عن مسابقة للشعر فتقدّم إليها مئات الشعراء من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه. وعدد الأمسيات الشعرية في الأمة العربية لا يكاد يعادله إلا عدد المؤامرات على هذه الأمة. فلنعدّل، إذن، عبارة صاحبنا الفرنسي الذي ضاع اسمه ولنقل أن ((الشعر الحقيقي نادر)).
من هنا يجيء فرحي كمتذوّق يتوهّم أنه يستطيع التفرقة، عفوياً، بين النظم والشعر إذا إلتقيت ببيت رائع، أو مقطع مؤثر، أو قصيدة نابضة. ومن هنا يجيء حرصي على أن يشاركني الفرح أكبر عدد ممكن من الناس.
إليك إذن أيها القارئ العزيز باقة من الشعر، الشعر الحقيقي النادر، من بستان الشاعر العراقي المُشرّد يحيى السماوي:
ـ انظر كيف تتفجّر الغربة شعراً في قوله:
أكاد حتى رفات الميت أحسده
غداة يملك أرض القبر في بلدي
ـ وقوله:
وطنٌ؟ يُقال بأن لي وطناً فما
أبصرتُه.. إلا وقيدي في يدي
وأراه أحياناً ينام كطعنةٍ
فوق الخرائط.. أو بصوتِ المنشدِ
* * *
قال أبو سهيل: اذهب أيها السماويّ فلم يسبقك إلى ((طعنة فوق الخرائط)) أحد!
ـ وأسمع خوف الشاعر إذا عاد إلى وطنه في يوم لا ريب فيه، بإذن الله، فلم يعرفه أحد:
أتعرف عاشقاً قد كان طفلاً
غداة مضى.. وجاء به المشيبُ؟!
غداً آتي.. فلا شفة تغني
مواويلي.. وتنكرني الدروبُ
وتُطفأ ضحكة كحفيف زهريٍ
ويومئُ نازل ((هذا غريبُ!))
ـ وفي الغربة يقدّم الشاعر النازح أروع التحية إلى الوطن المعطاء الذي استضافه شقيقاً قريباً من شغاف القلب.
ـ يقول عن مكّة المكرّمة:
حجّت لها قبل الأنام سماؤها
بحجيج سجّيل على سُلاّبها
ارض تكاد لفرط عزة رملها
يروي عطاشى الماء وهجُ سرابها
قال أبو سهيل: ولم يسبقك أحد من شعراء أم القرى ولا من حولها في ((حجيج السجِّيل))
ـ ويقول عن أبها الحسناء:
نَسَلت من الشجر الوريق ضفيرةً
ومن الجبال الشاهقات سريرا
ومن النجوم قلادة بدويّة
ومن الغيوم الطيبات بخورا
قال أبو سهيل: لا يُقدّر الشطر الأول من البيت الأول قدره إلا أهل الخليج الذين يتحدّثون، حتى بلغتهم العامية، عن فتاة ((تنسل شعرها)).
ـ ماذا عن القلب العاشق في الغربة؟!
يدَّعي شاعرنا أنه لا يستطيع أن يحب امرأة ما دام بعيداً عن وطنه، وأنه سيؤجّل الحب حتى العودة:
لو كان لي بيتي ولي وطني
لم أتخذ غير الهوى نسبا
إلا أن إدعاء الشاعر يذكرنا بتصريح الأخطل الصغير:
كذب الواشي وخابْ
من رأى الشاعر تابْ؟!
وصدق الأخطل الصغير!
هذا هو شاعرنا ينظر إلى ابنة العشرين متحسراً:
جربت عاج الموسرين.. فجرّبي
طين الفقير.. وإن جفاه بريقُ
أغويتني بالحسن.. وهو طريدتي
فطرقتُ.. لكن صدّني المطروقُ
فَرَّقتِ ما بيني وبيني فاجمعي
بعضي إليّ.. أضرني التفريقُ
قال أبو سهيل: لا يلومن كهلٌ أحب ابنة عشرين إلا نفسه!
ـ وإليك هذا المشهد الطريف في الطائرة:
كَشَفتْ لترشف قهوة فإذا الدجى
صبحُ طريُّ الضوء غضُّ المنهل
وجهٌ يفيض عليه نهر أنوثةٍ
ونسيمُ غاباتٍ.. وشقرةُ سنبلِ
صرخ شاعرنا في المضيف:
بالله يا هذا المُضِّيف... لحظة!
زدني! ولا تبخل عليّ.. فأجمل!
لا لن أخضّ يدي.. سأشرب ((دلة))
إن كنت في فنجانها ستُصب لي
لا أدري ما فعل المضيف، ولا ما فعلت ((الدلة))، ولكني أعرف أن هذه الأبيات تكاد تكون الابتسامة الوحيدة في ((ليل الشجن)) كما يقول شاعرنا محمد الفهد العيسى.
وأوّاه كم يؤلم هذا الشجن هنا:
قد اعتنقت من الدنيا مباهجها
أما أنا فهموم الناس أعتنقُ
لقد شربتُ.. ولكن لا كما شربوا
وقد عشقتُ.. ولكن لا كما عشقوا
ـ وهنا:
فإذا اقتلعت الرمح من جسدي
غرس الأسى رمحين.. والوطنْ
أفكلّما نفَّضْتُ مركبتي
نفضت عليّ جراحها المُدُنْ؟!
وبعد:
ـ تحية شكر عميق للأديب الصديق عبد المقصود خوجه الذي نشر للشاعر مجموعة ((قلبي على وطني)).
ـ وتحية شكر عميق لنادي أبها الأدبي الذي نشر مجموعة الشاعر الأخرى ((من أغاني المشرّد)).
* * *
ـ أما أنت أيها الطائر الجريح فقد أوشكت عيني تدمع وأنا أقرأ:
غداً إذا غفوتُ.. من يا تُرى
يسقي حقول الورد من بعدي؟!
لا أدري يا أخي..
لا أدري!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :815  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 142
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.