شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(35)
النهاية السعيدة..
وبعد.. فلقد عاش هذا الجبل الذي صار سهلاً.. فقرة مهملة.. من سلسلة فقرات جبل السراة.. لا تومئ إليه إصبع مرتفعة.. ولا يجتذب إليه نظرة طويلة وامقة.. وربما زاد في تعاسته أن غطّت على ذكره جملة أو تفصيلاً ذكريات أجيال أخرى في بلاده قامت على مقربة.. أو مبعدة عنه.. وقد نالت ـ دونه ـ النصيب الأوفى من الذكر.. والتخليد.. والتمجيد.. ومنها.. وليس كلها.. حراء.. وثور خارج مكة.. وأبو قبيس بقلبها.. ثم أحد.. في مشارف طيبة الطيبة.. ترفرف حولها وحدها.. وتطوف بها جميعها.. هالات من نور.. وأرج من عطر النبوّة الفواح.. تبتلاً فيها.. أو معبراً لمنهج.. أو إعلاناً سافراً لدعوة التوحيد الكريمة.. أو حرباً دامية في الطريق الطويل العريض.. لنصرتها وأخيراً.. وفي سبيل ذكرى هذا الجبل.. ترديداً، وصدى.. تهيأ له الصيت البعيد.. بعد أن ناله جسدياً ما لم ينل سواه من جبال بلده.. على أيدي تلك المردة العملاقة الميكانيكية من دركترات.. وآلات ثاقبة.. وهراسات.. وروافع.. ومتفجرات.. وجف منها كلها قلبه ذعراً.. واضطربت بها أحشاؤه مزقاً.. وتهاوت تحت أقدامها عضلاته الصخرية أوصالاً متناثرة.. في حركة لا تهدأ وضجيج لا ينقطع.. فكان شأنه وشأنها ما كان.. مما سجلته عليه بعد إحرازها النصر النهائي الحاسم.. أرقام وإحصائيات شهرت به.. وإن كانت قد أشهرته علماً بارزاً في دنيا المواصلات وتواريخها الفذة.. وينطلق التاريخ ـ بعد هجوع وتثاؤب مقهقهاً.. يركب أكتاف الزمن البطيء السادر المهدور.. في قفزة عالية من قفزاته الرائعة.. فإذا هذا الجبل الأشم معجزة بمناهجه.. وبمنهجه الأبلج.
وأشهد أنني حين رؤيتي له.. بعد سنوات.. وسنوات.. كنت معه كما يكون المحب الواله تفجؤه رؤية حبيبه النائي في أحلى لقاء.. وفي أروع بهاء.. وقد أصابني البهر.. متمتماً.. هل هذا.. كرا.. كرا.. (؟؟) وأسمع بذات نفسي حسيسه الشعري الذائب بين جنباته وجنبات روحي.. أجل.. أجل.. أنا هو ذاك الذي عرفته صبياً بكر الصبابة والوجدان.
ولقد تداولنا في خشوع.. وخفوت ذكرياتنا لمحاً.. واستزادة.. ورضا.. حتى إذا رويت نفسانا.. وطاب باللقاء.. اللقاء لا يحدّده وصف، أو يقرره كلام مرسل.. عادت لكلينا طبيعته الشاعرة الساخرة.. فإذا الرواية فكاهة ضاحكة في فم اليوم الباسم.. وإذا أقاصيصنا عن الأيام.. أرقاماً تعد علينا مطبوعة في تقاويم لا نحس بها.. أعماراً من مراحل أعمارنا تتلاشى يوماً مؤرخاً مسجلاً علينا.. بعد يوم.. فضحكت وأومأت إليه.. قارئاً لرفيقي السائق الشاب الابن زهير عمر عبد ربه ما نطق به شيطاني الحلمنتيشي.. دعابة بريئة.. خالصة لوجه الفن.. وتحية أعلم مبلغ طرب كرا نفسه زميلي الصامت لها من كل قلبه:
إني طلعت على كرا ـ بالرجل ـ أيام الحمير
متشربطا.. مثل القرود به.. وقد كانت كثير
متشقق الكعب المنفنف.. كالحبقبق.. يا مجير
حتى وصلت إلى الهدا.. وأكاد من فرحي أطير
أقسمت أني لن أعود إلى كرا.. مهما يصير!
لكنني في اليوم.. في سيارة الجار الأثير
قلفطته.. نعسان.. منجعصاً.. كأني في السرير
فرنا إليَّ.. وقال: أهلاً بالحبايب.. يا جرير
ماذا جرى؟.. قلت ـ العجائب فيك ليس لها نظير
والله يا شيخ الجبال من السراة.. إلى عسير
لولا المخافة أن يدردب صخرك.. المطر الغزير
لسكنت فيك العمر.. جنب المعسل الحلو النمير
أرقيك بالحدرى.. أقول من الفؤاد.. من الضمير
قد صرت مفخرة الرجال من الكبير.. إلى الصغير!
* * *
ثم استأنيت.. وأطرقت واستأنى الجبل.. ولم يطرق.. وكان ذلك أول حديث لنا.. في أول لقاء جديد.. بعد عمر طويل ومرير..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :648  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج