شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(25)
بوابات.. ونوافذ..!
وأشهد لوجه الحق.. خالصاً.. أنني مع إعجابي الشديد.. وإكباري المتناهي لما رأيت عليه أم القرى ـ يعمرها الله ـ في أرديتها القشيبة العصرية فإنه لم تغمرني الجوانب المادية وحدها فتذهب بما في نفسي من حنين روحي جارف لمكة.. وقد جرى بطبيعته ـ كطبيعتي حين أتأثر شعراً.. أجد من اللازم عليّ هنا إثبات بعضه للتدليل على ما نوّهت، رغم ما قد يصيبني من رشاش القول الطائش بأنني إنما أثبته هنا رغبة التطاول أو التباهي أو التبجُّح بما لا مجال له في هذا المجال.. فقد قلت في قصيدة بعنوان.. في مكة.. مكة التي بعدت عنها متصلاً حوالي ستة أعوام..
حيى أم القرى أتينا إليها
خشعا.. خشعا.. نمد القلوبا
ظامئات إلى الجلال.. عليا
خافقات ـ مع الجمال ـ طروبا
حائمات.. كالطير للمنهل العذ
ب ترامت صوبا.. ورامت وثوبا
ترتجيه لدى المناهل رياً
تستقيه . فضل الدلاء . صبيبا
بعد نأي أذوى النفوس حنيناً
بعد لأي أذكى الحنين.. لهيبا
رب إيماءة أرق من الفجر
نسيماً.. ومن هواى.. دبيبا
جمعت بيننا الصباح.. محباً
قد تناهي غرامه.. وجيبا
في لقاء.. قد جمع الأمس.. والـ
ـيوم.. ضروبا من عمرنا، وضريبا
وأنا العاشق القديم.. جديداً
شفه الوجد.. غربة.. وغريبا
في هواك المكنون.. ما مسّه البعد
انتقاصاً.. ما نال منه نضوبا
إنما أنت مكة في مسمـ
ـاك.. بعيداً عن عيننا، وقريبا
أنت منا حياتنا صغت منها
حبنا البكر.. صيغ فيك ربيبا
قد ألفنا منك القديم.. تليداً
وعشقنا منك الجديد.. قشيبا!
إلى آخر تلك القصيدة صغت بها المشحون بروحي حباً وصبابة وشوقاً في شعور صادق برؤيتي إياها. كما صارت ـ وبأحساسي الدائم بها.. كما كانت؛ مهوى شباب.. ومسارب حياة حارة دافقة بين واديها ـ ومحلاتها ـ وفوق أجبالها المباركة رقرقت التاريخ في أصلادها.. ثم أباحته للدنيا نور هدى.. وهداية وإيمان.
وفي قصيدتي الحديثة (مكتي قبلتي) سيل تعبيري دافق عن ذلك من كل ذلك.
هذا.. ولقد أطمعتني سماحة الصديق محمد عمر.. ورحابة صدره بحكم زمالته لي في ذلك العهد.. فاغتنمت إصاخة سمعه جيداً لما أقول .. بعيداً عن مشاغله في شؤونها وشجونها.. وعن سرحانه المعهود وعلامات استفهامه الشبيهة برمي البنادق.. فسلسلت في ترسل.. وتدفق من ذكرياتي.. ذكرياته البعيدة.. ما كنت أرمي من ورائه إلى إبعاد شبح الحبيب.. كرا.. القديم.. القريب.. عن خاطري المتصل به.. لا تنفصم عنه مرائيه لتآلفه فيه.. وبحكم المجاملة.. وخشية من الرمي من جديد بتهمة ثقل الظل فإنني سوف أطوي كذلك ما نثرته عن ذكرياتنا في مراتع الطائف ومراعيه.. لأسجل غير ناسٍ بحثاً فكرياً شائقاً عرض أثناء الذكريات ووقف بنا النقاش بسببه حاجزاً دون تدفقها.. فقد جاء عرضاً ذكر الرشوة بمفهومها التقليدي الأصيل.. وبمفهومها.. العصري الطارئ.. وكان لي رأي معارض متصلّب حيناً كل المعارضة وكل الصلابة.. متخاذل أحياناً.. بعض التخاذل.. دون لزوم.. فذكرت ما قرّ في حافظتي مما قاله يوماً أحدهم.. في أسلوب سقراطي لئيم العرض.. ترى ما هو مقياس الفضيلة والرذيلة.. لدى المجتمع في واقعه العملي المتداول؟؟
على أساس من مقياسهما قديماً.. بحكم رئيسي.. هو حكم الإجماع؟.. لنفرض أن رذيلة ما من الرذائل القديمة أصبحت تمارس من مجموع من الناس تصل نسبتهم إلى خمسة وتسعين في المائة.. بحيث لا يعف عن إتيانها إلاّ الخمسة الباقية من المائة.. فما هو الحكم عليها اعتباراً لها من الرذائل.. أو الفضائل؟ وأحمد الله على السلامة من الزلل.. فقد اتفق رأيانا في الأخير أنا والصديق محمد عمر على أن الرذيلة رذيلة.. والفضيلة فضيلة بمؤدّى كل منهما في مجاله وبفعاليته فيه.. أداء للخير ـ أو تردياً في الشر ـ والخير والشر مفهومان محددان معلومان.. فلن تنقلب الرذيلة إلى فضيلة.. بمجرّد ممارسة الكثرة الغالبة أو المطلقة لها.. إطلاقاً..
وعلى ذلك. وبموجب القاعدة الراسخة السالفة فالرشوة رذيلة. رذيلة.. لا تزال.. ولن تزال كذلك مهما رمى معارضوها بالغفلة تارة.. أو بالحنبلة.. أو العجز عن ممارستها تارات أخرى.. ومهما قيل في تبرير سطوتها العالمية تقريباً، بنسبة ارتفاع النسبة العالية من ممارسيها.. أو انخفاضها.
كما جرنا البحث.. وللبحث كما للحديث شؤونه وشجونه.. إلى مناقشة موضوع السفور.. وكان ذلك بسبب مثال ماثل وحي.. حين مرّت أمام مجلسنا المكشوف تحت مجموعة من الأشجار العالية نفترش من بساط أرضها السندسي ـ مجلسنا.. فتاة من فتيات ثقيف ومن سكان الهدا.. وقد أقرأتنا السلام في فصاحة وشجاعة.. وببساطة تشبه بساطة جداتها العربيات المسلمات السافرات.. رانية إلينا بعينيها الدعجاوين تطلان في براءة من تحت شرفات جبينها الساطع دون أن تشعر بأن في إفشائها السلام على أبناء جنسها الذكور أية غضاضة أو أي خجل.. فطرة درجت عليها مثلما درج عليها الصبايا في أريافنا وبوادينا.. سافرات السفور المعتاد لا ينحدر به التقليد.. أو يجافيه العرف.
ولقد امتدّ نفس البحث مستعرضاً الأصل.. وهو السفور.. ورأى العادة.. والمتبع.. والاصطلاح فيه.. ممارسة طبيعية له.. ثم الفرع ـ وهو الحجاب ـ وأمر الشرع فيه بمسبباته وبدواعيه.. وما زلنا نصعد ونهبط مع تواتر النفس الطويل في البحث حتى قادنا إلى نقطة سوداء.. تتصل بموضوعه اتصالاً وثيقاً في تاريخ المتمدينين لم يرضهم السفور في كل درجاته حتى انتهوا فيه إلى أن جعلوا العري التام موديلاً جديداً له.. فأصبحت للعراة نواديهم.. وكان في وصولنا إلى هذه النقطة السوداء المخزية بالذات الدليل المادي الذي جعلنا نختم بالشمع الأحمر باب النظرية السفسطائية يختال بها أصحابهم في قولهم.. ترى ما هو الفرق في الجسد الآدمي بين الإصبع المكشوف وهو جزء منه.. وبين أي عضو مستور منه؟.. ومع التسليم بقيام السفور الريفي نشأة.. وتربية.. وعادة.. وحصره في المدن وحدها.. فقد طغت على ما عداها مزايا الحجاب.. بالنسبة للنكسة البشرية تغالت باسم السفور في إذلال الأجساد الإنسانية تتباهى ببذل اللحم الآدمي.. معروضاً على الأنظار الشرهة بالتمادي في كشف المساحات المصونات منه عاماً بعد عام بما سوف يفضي إلى العري التام..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :706  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.