شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(18)
الشيخ عوده
أوده.. أوده
وهكذا.. فأنا لم أقنع ليلة الخليطي.. كما سميتها فيما بعد بما كان فيها.. وقد نبض شبابي وفار بهمهمات السمر.. ودمدمات الرقص العربي الساحر.. فقد حرّضني رفيق الضرب وسميي ـ أحمد الجدابي المكاري الصغير بأن أستأذن من أبي لأبقى معهم هم جماعة الشباب بعد انصراف الكبار لأستمع إلى دنيا الأسرار الشابة.. وقد كان.. فبقيت لأروي خيالي بما سمعته من قصص إنساني بعضها ما كنت حديث عهد بقراءته في روايات الجيب يقص واحدة منها شاب من هنا.. وثانية شابة من هناك.. حتى إذا تدلّت لنا خيوط الفجر لملمناها بأجفاننا في خدر لذيذ أسلمنا نعاسه بعد صلاة الفجر، إلى نوم عميق.. بعد أن اكتشفت أن هذا الشاب ابن الجبل ووادي الأعمق محدث لبق ساحر.. وشاعر فطري.. وكازانوفا يشار إليه بين لداته بالبنان.. فزادت الصفات الجديدة من توثيق الصلة بيني وبينه. وكما توثقت أواصر الزمالة والصداقة بيني وبين أحمد الجدابي الصغير.. فقد توثّقت الصلة في الأيام التالية وفي الوادي نفسه بيني وبين أكبر رجاله.. وهو الشيخ (عودة) فأصبحت أدمن الجلوس إلى هذا الشيخ أسمع منه عن ماضي عشيرته ـ وعن حاضرها ـ يروي فيصور ناطقة معبّرة عن سلوك ممثّلي السلطة البائدة من الأتراك ما يضحك ويذهل..وهي كثيرة معروفة في حينها للبوادي والحواضر.. وقد زالت بكل ما فيها.. من خير أو من شر.. وكان الشيخ عودة.. كثيراً ما يذكر مزاياهم بصدق وإخلاص ـ كما يتفكه بما عداها في فطنة وإدراك.
وكان راوية فناناً أصيلاً.. فقياس الفنان في نظري قدرته على التقاط الصورة ـ الصورة التي تليق وحدها بأن تكون قاعدة رواية.. أو مادة حديث.. أو أساس عمل فني رائع.. أما حين يتناول سير بعض الأتراك ـ سيرة الأشراف فقد لاحظت جفاف حلقة لدى سرد بعض معاملاتهم للوادي وأهله، بعد أن تحمرّ عيناه غيظاً وتغيم نظراته أسفاً، وتنتصب سبابته في الهواء تهديداً لأشباح تطارده ذكريات أهليها الذين زالوا عن دنياه. فيكون كطاعن دنكشوتي في الهواء.. وقد فاتته المعركة ذاتها.. فاستعادها خيالاً.. واجتراراً لما حفل به ماضيها.. مرضياً بما يعرب فيها يعرب عنه غريزة الخيلاء اليدوية ـ ألفت رؤية السراب.. الفتها رؤية المناهل والغدران.
ويبلغ الشيخ عوده من العمر الثمانين ـ تقريباً ـ فهو في ضواحيها القريبة بالتأكيد كما يظهر من تواريخ أحاديثه وحوادثها.. يؤرّخ بها ميلاده على وجه التقريب وليستعرض بعدها صباه.. ويفاعته وشبابه.. حياة حلوة حارة.. تهبه الحماسة والتدفق والانطلاق. حتى تنتهي به إلى التأوه متأففاً من كهولته.. كارهاً شيخوخته تمشي الهوينى في بطء.. وجمود وفراغ نفسي قاتل.
وأشهد أن تأففه العابر.. لا يطول.. لم يكن من ذلك النوع الذي عناه أبو الطيب المتنبي في بيته المعروف:
وإذا الشيخ قال أف.. فما مـ
ـل حياة وإنما الضعف ملا
وأؤكّد أن الشيخ عوده كان يعيشها ـ الحياة ـ بالطول وبالعرض دون حدود مرسومة لها.. حتى وإن كانت حياة تتناسب ومساحة الوادي نفسه بدليل أنه في هذه السن كان قد أعرس منذ شهور قليلة بزوجته الشابة زينة التي كان يتخذ كفنان بارع من شبابها مادة فكاهة وسخرية وتمثيل حين يقارن بينها ـ جديدة ـ وبين زوجته القديمة ـ في كل شيء؛ في النطق؛ في المشي؛ في النظرات.
وأغرب ما في أمره حينذاك ـ أنه يقرر في حسم وتأكيد أنه لم يخل قط بواجباته الزوجية والعائلية المتسلسلة الأداء حتى أيام أحاديثه المكشوفة معي.. وإن جاءت تلك الأحاديث في هيئات رموز.. واستعارات.. وكنايات بارعة.
وإياك.. وأن تتعرض بصفة خاصة لرجولة الشيخ عودة في هذا الميدان الجنسي.. فهو يؤكِّد لك بكل اهتزازات جسمه وانتفاضات شعرات لحيته أنه لم يزل فتى في هذا الميدان.. فتاه الحريص جداً أن يكونه حتى آخر قطرات حياته.. مما كان يدفعه تعزيزاً لما يدعى أن يتبسط في أحاديثه الخاصة معي بما قد لا يقال، أو لا يليق على الأصح أن يقال.. مما جعلني بما يشرح ويفعل أعتبره حينذاك ـ واعده فيما بعد ـ أحد كبار أدب الفراش كما يسمّى العقاد رواة ذلك النوع من الحديث، والرواية.. والأقاصيص..
ولقد علّمني هذا الشيخ من وقت مبكر أن من كبريات دعامات الحياة في الحياة الجنس ازّا عليها، وسعياً في مناكبها ـ ومهمازاً للرجل في كل تصرفاته الواضحة والخفية..
ومن الغريب أن يحتفظ الشيخ عودة رغم الثمانين عاماً.. أو ضواحيها.. بكامل أسنانه، وجميع رباعياته وأنيابه.. بيضاء ناصعة البياض بفعل السواك كما يقول.. فهو يقتني له مجموعة أنيقة من أعواد الأراك الرفيعة المهذبة يعتني برؤوسها المخمخة، عناية شباب هذا الجيل برؤوسهم في تواليتاتها المتنوعة التنسيق.. ومع نصاعة تلك الأسنان والأنياب فإنها قوية راسخة بفضل تناول اللحم نهشاً ومضغاً ومعاناة.. لا ينقطع عنه داعياً.. أو مدعواً.. لتناوله.. أو منفرداً وحده.. كما يروى.. بخيال طلي ـ رضيع.. يتسلّى بلحمه الطري تصبيرة الوجبتين الأساسيتين ـ يوم يعتكف في بيت الجديدة كما يسمي زوجته الأخيرة الشابة..
ولقد تذكّرت بعد أعوام طويلة أسنان الشيخ عودة وعامل بقائها كذلك ذات ليلة في جنيف حيث كنت مع أخي الصديق عمر عبد ربه رفيقي في الرحلة لسويسرا.. في عام غير بعيد بأحد أماكن السمر المحترم بها.. وكان جيراننا بالمائدة ثلاث نسوة من اللاتي تسمّى الواحدة منهن ـ نصفاً ـ ولما كان الصديق مشهوراً في ضحكه بقهقهاته المدوية التي لم يستلفت نظرهن منها إلا أنها عامل مباشر في إبراز أسنانه البيضاء الناصعة تشبه في بياضها شعر رأسه المبكر البياض.. فإنهن لم يطقن السكوت فقد بادرت إحداهن نائبة عن زميلتيها بسؤاله عما إذا كانت أسنانه طبيعية أم تركيبة؟ فأجابها بأنها طبيعية طبعاً وإن شاءت الوثوق منها فما عليها إلا أن تضع أصابعها فيما بينها.. وبالاستعلام عن السر في بقائها على حالتها شرحنا لهن أننا من أبناء الشيخ عودة.. في بلادنا.. التي أكل أبناؤها اللحم نتشاً.. ومشقاً.. ومضغاً.. ومعاناة..
وبامتداد الحديث ـ بواسطة مترجمتنا الكهلة ـ في تلك الليلة مع جاراتنا غير الحسناوات فقد اكتشفنا أن معظم الغربيات والغربيين.. وكل الأمريكيين ـ من قبلهم ـ والأمريكيات ذوو أسنان تركيبة.. بل أن كثيراً من شاباتهن يخلعن جميع الأسنان الطبيعية لعمل ـ طقم من البلاستيك ـ مزروعاً، أو تركيبه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :587  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.