شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(15)
مزنة
وهكذا وصلنا.. بين هذا الدفق الرقراق.. توشت روافده.. نبعاً وزهراً وعذارى وحقولاً خضراء انتشر بها كلها الحب والفتنة حتى شمل كلاب الحراسة ترعى خطوات دوابنا مهللة مرحبة بها.. وبنا بأسلوبها الحيواني الأليف.. حتى وصلنا إلى وادي الأعمق.
وما أن انتهينا حيث منزلنا في الوادي ـ واتجهنا صوب بيت الجدابية.. حتى كان قد تجمّع المستقبلون لولديهما من الأهل والجيران ـ محيين ـ في سماحة وود.. هذين الضيفين الحضريين.. فلم نعد نسمع إلاّ.. هلا.. وحياكم الله.. ويا مرحبا.. واتفضلوا.. جملاً فطرية الطبع.. صادقة التعبير رغم تقليدية أسلوبها الرتيب المكرور تفيض بمعنى الجود بالموجود سماحة نفس.. وفرحة بالفرصة الكريمة.. لإرضاء طبيعة الكرم العربي الأصيل..
واستقر بنا المقام داخل بيت حجري صغير الحجم أنيق الشكل ـ مرتب ترتيباً لطيفاً بما حواه من الشمل.. جمع شملة ـ أبسطة أرضية وطنية مزخرفة الألوان والأشكال.. ومجصصة جدرانه بالطين الأحمر ـ ترصّعت كلها للتحلية والتزيين ـ والديكور ـ بنقط مربعة ومثلثة من الطلاء الأبيض.. وأجمل ما عبر عنه هذا الديكور الفطري النشأة تعليق الطِّيران، والدُّفوف والأحزمة الجلدية.. والبنادق والحساكل المدندشة على الجدران تجاورها بعض الأواني الخفيفة من دلائل القهوة النحاسية الصفراء.. والمرابيع.. وللبيوت الطينية في ريفنا جمالها الشعري الحالم والمهدئ للأعصاب تهدئة تبلغ حد الإغراء لاتخاذ الكسل وظيفة بيتية فيها وبالأخص في الضحى.. ولهذا فإنني أعتقد أن وصف الشاعر لمحبوبته أنها نؤوم الضحى.. كان تعبيراً صادقاً عن حسن صادق.
ومن هنا ـ فإننا إذا أردنا أن نجبر البدوي على الحركة المستمرة لا بد في المستقبل القريب أو البعيد أن نصنع له دوراً عربية الروح لكنها عصرية الطراز تستحثه على النشاط المتصل.. على ألا ننسى كذلك أن نبدل من زيه ولباسه بما لا يخرجه كثيراً عن وجهه العربي الآبد فالقياس في الأثر بين الثوب المبحبح مثلاً وبين البنطلون خمولاً وانطلاقاً مقدر وملحوظ ولما سبق وبدواعي التعب الناشئ عن الرحلة فقد كان أوّل ما زاوله الوالد وتابعته عليه هو النوم في ركنين متقابلين من أركان بيت الجدابي حيث الهدوء والجو البارد بعد اللظى والسموم أيام الحج.
ومع أن الوالد قد منح جسده حرية النوم غير مشروطة.. بدليل أنه على خلاف عادته قد أخذ في شخير متصاعد تدريجياً حتى عم الغرفة.. فإنني قد كنت في حالة المتناوم تغلبني الأفكار والأحلام فأتقلّب ويشتطّ بي الخيال في ترتيب البرامج اليومية والتي سأقوم بتنفيذها للطواف بكلِّ جزءٍ من أجزاء الوادي الأخضر..
وأعتقد أنني منذ تلك اللحظات وما تلاها من أيام سعيدة قضيناها في وادي الأعمق وفي سواه من الأودية المجاورة قد استجبت بكل روحي ومشاعرها لنداء بلادنا الحلوة التي قالت لي: كُنْ شاعراً تتغنّى من اليوم فصاعداً بغير محاولاتك الشعرية العنترية المدرسية.. ببساطتي وبجمالي وبروحي المبثوثة في كل ما تراه من زرع وحجر، وماء، وطير، وإنسان وديع رقيق رقة جوى.. قاس أحياناً قساوة صخري.. ولسوف أكون لك ومعك في مستقبل زمنا ومرآى.. الطبع والانطباع.. وربما أطعتها وحاولت ما قالته لي تلك المرابع والأيام ما استطعت ـ وإن كنت أجهل مدى التوفيق أو الفشل في محاولاتي الشعرية النابعة من القلب.
ولحصر أفكاري نحو الهدف.. وعلى عكس أسلوبي السبهللي.. فقد أخذت أخطط لبرامجي لأقرر كيف أقضي النهار والليل في ألوان مختلفة ـ وفي أماكن متباينة.. واستطعت قبل أن يغلبني النوم أن أضع الخطوط العريضة كما يسمون أصول البرمجة لكلِّ شيء في هذه الأيام..
وأشهد أن الطبيعة في نفسي وفي ذاتها كانت أقوى ـ كما ظهر فيما بعد ـ من أي برنامج. فقد انطلقت على سجيتي وحسبما تجيء به الظروف والمناسبات الخاصة بي والمشتركة بين الجدابي المضيف.. والوالد الضيف إلا أن الحالة في صورتها العمومية كانت تسير تقريباً في حدود.. صلاة الفجر جماعة مع الوالد وأهل الدار ثم انطلاقي وحيداً إلى البساتين متجولاً فيها.. وقضائي جزءاً من الصباح الباكر ببستان المضيفين جلوس وبالذات لدى البئر أتملى بأجمل اللحظات التي استعرض فيها من قريب ومن بعيد حياة المزارعين يشقّون الأرض.. ويوزِّعون المياه.. ويجنون بعض الخضراوات والأثمار.. وبجانبهم النساء والبنات يساعدنهم في كل شيء.. بل إنهن في واقعهن العملي إنما يقمن بالقسط الأكبر في حياة البيت والبستان اليومية.
ولئلا أكون مغالطاً نفسي في حقيقة شعورها ومرده فإن اختياري للجلوس بجانب البئر بالذات إنما كان لاستجلاء جمال ودلال العذارى يردن الماء.. يملأن القرب ليعدن بها إلى الدور.. والبئر وجواره هو منتدى الفتيات القرويات يتناقلن لديه الأحاديث والأخبار مع لداتهن. وما كان، فإنهن بحكم الفراغ وفوران الشباب وناموس الاجتماع يتبادلنها في توثبات حلوة.. وتعليقات ساخرة.. أو ضاحكة.
وقد أصبحت أنا نقطة ارتكاز هامة في حياة البئر وقاصداته وجه الصبح، باعتباري غريباً عنهن ولدى الغريب دائماً جديد من الأخبار.. والروايات عن بلدان تعرف منهن بالسماع.. ويوماً بعد يوم كنت موضع أسرارهن.. ثم صرت محل معاكستهن المستترة في خفر مباح لا يتعدى القول الرقيق.. والدهشة يبدينها كلما أريتهن جديداً مما لدى من حاجات المدن البدائية كالمرايا التي ترتكز على قاعدتها وحلقات وحبات وعقود الخرز الملوّن.. وبعد أدوات وأمتعة الحضر المعلومة بما فيها الأقلام والمراسم والدفاتر والكتب والكراريس.. ومجموعات الصور والدمى المختلفة.. وكنت قد حملتها في حقيبتي الصغيرة الخاصة لمثل هذه الأيام..
وفي صباح يومٍ من أيام العمر التي لا تنسى.. جاءت مزنة التي حدثني عنها أحمد الجدابي رفيقي الغلام الحمَّار في سطور شعرية الألفاظ والتعابير.. مشحونة بحرارة الإحساس الفطري الشاب.. جاءت مزنة إلى البئر تحمل قربتها لتملأها.. دون أن تصوّب نظراتها إلى وجه معيّن من وجوه لداتها أو إلى وجه هذا الغريب الوافد.. ومن غير أن تفتح فاها إلا بتحية الصباح في صوت موسيقي لذيذ خافت.. قد تنحّت لها عن الدور للسقيا من سبقتها فملأت قربتها بخفة وحملتها في رشاقة.. وغابت بها في نشاط..
وما كادت تغيب عن أبصارنا ـ حتى وردت سيرتها نتفاً من هنا.. وهناك.. وأنا أستزيد الشرح واستحث على الإسهاب إلى أن تكاملت صورتها داخل إطار حياتها المستقلة.. ولقد رجعت يومها مبكراً للدار بنفس ما يشبه الزلزال فعلاً.. فقد سرت بدمائي حرارة مستحبة.. وفي قلبي وجيب جديد.. وبجسمي خدر حلو.. ولم يفارق عيني منظرها.. منظر مزنة.. هذه التي قال عنها أحمد الجدابي أنها الزهرة البرية الأولى في وادينا.. وادي الأعمق..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :771  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.