شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
( 26 )
ضدان...
في نفس المصري "فرعونية" تنتظر الفرصة للظهور بعد خفاء، والذوبان حال الاقتضاء.. مثله في ذلك مثل الطفل ينشؤه رب العائلة طويلاً، على الضغط، وسلب الحرية، والاستبداد.. فهو متحرق أبداً إلى الظهور على مسرح ربوبية العائلة لتمثيل الدور الذي عانى منه كثيراً.. لا للعمل الصامت على القيام بها ذاتياً لذاتها المجرّدة من التمثيل الحرفي.. أو العمل على عكسه. فهو لا يكاد يشعر بمغادرة الدار ربه حتى يعمد إلى التقمص به روحاً ومظهراً ينصبان على من هو أقل منه دائماً أبداً.. خادماً ضعيفاً، أو خادمة. أو كلباً، أو قطة، أو أثاثاً حتى، إذا أعوزه الأمر..
ولذلك.. فليس غريباً أن يكون القياس دائماً عند المصري الرسمي قيمة الشخص الرسمية منصباً، أو ثراء أو جاهاً، لا مؤهلاته، أو مزاياه الشخصية المجرّدة، والإنسانية البحتة.. وأن يختلف "كذلك" الحكم عنده، على شخص وهو نكرة لديه، ثم وهو معرفة مميزة أو مفزعة.. بحيثية الشخص وحدها في حاليه التنكيري والمعرفي.. لا بحيثية الموضوع من حيث هو خالصاً للحقيقة المجرّدة، ونفسه..
كما أنه ليس غريباً أن يحصر اتجاهه لشخص بذاته التفاتاً وتقديراً ورياء مجالس.. حتى إذا حضر من هو أعلى منه رتبة ومقاماً رسميين ماديين تحول عن القبلة الأولى للثانية.. في سرعة تولية الوجه الشريف من القدس إلى مكة مع الفارق الملحوظ في التشبيه، وأن يبرز كل سيطرته وسلطانه إذا انفرد كأعلى الممثلين للسلطة في قرم لها، وتمثيل هواية تامة.. حتى إذا حضر من يزيد عنه في المقام، درجة في الكادر، أو شارة على الكتف.. ذاب وتلاشى دون تدرّج أو احتفاظ حتى بما كتب له كحق رسمي محدود.. فإذ هو بخار، أو بخور من الأدنى حول الأعلى..
وفي نفس المصري العادي، إنسانية تبلغ حد السرف، ولا تحتاج إلى كشف غطاء.. فهي ممثلة فيه "سخسخة" في الحب والألفة، والعشرة.. و"نغنغة" في التلذذ، والبذل، والانشراح.. لا تخطئها في الفكاهة، وحب المشاركة، ولا تغيب في إكرامه عائلته، وتدليلها، ولا في المحبة، والإيثار..
فهو ذو مزاج في الفنية الإنسانية لا يساويه فيه مزاج، ولا يزال، حتى مع ثقافة المثقف منه، فطرياً، غيبياً، طليقاً.. الصخرية الطبيعية عدوه اللدود، والمرح السادر حبيبه الأوحد، والمعيشة بميزانية رقمية سجنه الموحش.. والمشاركات الإنسانية، وذبذباتها النفسية جوه الفسيح فإن رأيت ما خالف ذلك منه فأبحث عن الأجنبية فيه مستورة في العرق القريب أو البعيد. فإنها الجانية عليه.. تشطر طبيعته الواحدة في الأصل بمرور القرون والأجيال، فإذا هي فيه ضدان: طبيعة رسمية مشوّهة.. وطبيعة إنسانية خالصة..
يدفعني إلى هذا النبش الفكري العابر، ما ألاقيه، وأشاهده ـ والليلة على الأخص ـ من رسميته مع الناس، فقد رأيته بوليساً يطارد البائع ذا الجلابية واللبدة.. وينحني للخواجه ذي القبعة، أو للبك المطربش، أو الأسبور.. وشاهدته موظفاً ينظر إليك إن جهلك، من قمة الأهرام، وأن علمك ـ على خير علم منه ـ من تحت..
وقد جالسته، رقيقاً سمحاً، ومضيفاً كريماً، وفلاحاً رقيقاً، وناجحاً مرموقاً، ورب عائلة متلافاً، فإذا هو هو هذا الذي رأيت..
ولعلّ المصري، وهو المرجّح، إن نال الرسمية الكاملة مستقلة له، ومارسها حقاً شائعاً عاماً مبذولاً، فأشبع منطويات نفسه، وغرائزه المكبوتة طويلاً منها، وحداثته فيها.. آض إلى نصفه الأعلى، كمال إنسانية، ووحدانية مزاج.. فإذا هو ـ كأرضه وبلاده ـ من خير ما أخرج للناس..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :779  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 28 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج