شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات عن جَدة
... كلنا اليوم ينعم بحياة ميسرة، والشباب من أبنائنا أكثر سعادة وأمناً وراحة منا بالأمس البعيد.
لقد كان الأمس صعباً وكان شاقاً لكنه الآن وقد أصبح تاريخاً يتلى، وذكريات تثار نحسُّ به نحن الكبار الآباء ونفخر به يوم كنا نعيشه جهداً وكداً وحركة. إنه بالنسبة إلينا سر الحياة بكل سلبياته وإيجابياته لا لشيء إلا لأننا أسهمنا في الأخذ به إلى الأفضل والأحسن مما كان فيه أمس آباؤنا جدود أبناء اليوم.
أقول هذا وذكرى ما يدور في خلدي طريق المسير بين جدة ومكة قبل خمسين عاماً إلا قليلاً. فقد كان إصلاح طريق السير يحتاج إلى فرق من العمال والمهندسين والملاحظين وصادف هذا الاحتياج وجود الكثير من أبناء المدينة ومكة وجدة وبالذات من الشباب الذين تخرَّجوا من المدارس وكلُّهم يطلب عملاً ولكن أنّى له ذلك.. فقد كانت أيامهم تلك عام 1360هـ أي عام الحرب العالمية الثانية والتي كانت تدور رحاها بين الحلفاء والنازيين وكان البحر الأحمر شبه مغلق وقد توقف ميناء جدة عن استقبال البضائع حتى خلت جوانب الباعة في أسواق جدة وأصبحت خاوية من الأقمشة ومن المبيعات الأخرى.. وكان كل شخص يأتي إلى متجره ليقضي يومه في تفكير أو سماع لبعض أخبار الحرب من هنا وهناك أو تراه يراجع دفاتر المدانين لحسابه.
في هذه الأثناء كانت اللجنة المشكَّلة لتسلم إصلاح الطريق بين جدة ومكة قد اقترحت توظيف عدد من شباب البلاد يوزعون في المراكز التي أقيمت للعمل في الطريق بين جدة ومكة وكان أمراً صعباً لهم. وممن أذكر من هؤلاء الشباب الأديب عبد السلام طاهر الساسي ويوسف غزاوي وحسين قاري، وحسين فقيه، والسيد زين العابدين مشيخ من المدينة، ومصلح بكري من مكة. هؤلاء كانوا رؤساء نصبت لهم مخيمات كمراكز يسيِّرون منها توجيهات العمل. وقد أقيمت هذه المراكز في كل من جدة والرغامة كيلو عشرة في الوقت الحاضر، وبحرة وأم السلم وقبلها حدا، والمقتلة وقهوة سالم وأم الجود فباب مكة في مكة. وقد كان عملي سكرتيراً لمصلحة الطرق مما يقتضي عملي المرور بكل المراكز فأقوم صباحاً بتوصيل ما تحتاجه هذه الفرق بتعدد عمالها وأعمالها وذلك من زنابيل ومعدات وفواريع وكراكات. وموطن الذكرى هنا هو أن طريق جدة - مكة لا تمر به من فترة ما بين الظهر إلى العصر وأحياناً إلى المغرب غير سيارات معدودات. وكان البريد هو الوسيلة الوحيدة مع بعض سيارات الحكومة لموظفي المالية الذين ينزلون من مكة للعمل في جدة أو العكس وكذا سيارات معالي الشيخ عبد الله السليمان، ومعالي الشيخ حمد السليمان، وأخريات من السيارات التي كانت قد اشترتها الحكومة من مخلفات الحرب العالمية الثانية.
أتذكر بهذه الذكريات بدء طريق الإسفلت بين جدة ومكة وما كان قبله من وسائل النقل والانتقال على قوافل الجمال وعلى ظهور الحمير. فكانت القافلة التي تغادر جدة مساء أحد الأيام تأتي في اليوم الثاني إلى بحرة وتقضي نهارها لتصل إلى مكة في صباح يومها الثالث فتدخل مكة محملة بالأرزاق أو مراكب للحجاج من أهالي جدة أو بالعكس من أهالي مكة إلى جدة.
وكانت هناك اللواري التي تقطع الطريق في ست ساعات بما فيها ساعات الراحة. وأغلب ما يكون السير بين جدة ومكة بدءاً من آخر النهار. ثم تطورت وسائل النقل بعد إتمام خط السير المسفلت فوجدت تكاسي الأجرة وقام المرحوم أبو بكر باخشب بتسيير بعض الأتوبيسات بالساعة وفي فترات متعددة من النهار وزادت حركة الاتصال بين مكة وجدة والعكس.. هكذا كان البدء في حياة الطريق وها هي اليوم.
* * *
... أشرت في حديث سابق إلى أن كثيراً من أهالي مكة المكرمة ولاسيما الذين يشتغلون بمهنة الطوافة يسافرون إلى كثير من بلدان العالم العربي وآسيا بشطريها لاستقطاب حجاج بيت الله وللدعاية والدعوة بالنزول عليهم كحجاج.
ومن ذكرياتي الطريفة في مهنة الطوافة كنت أسافر إلى مصر وإلى بعض البلدان العربية الأخرى وقد جرت العادة أن من لم يسافر ليرتبط مع الأقوام الذين يلتقي بهم ويبذل في ذلك النفس والنفيس من الهدايا لا يرد إليه من الحجاج إلا قليلاً.
فكنت في مصر وذهبت إلى مديرية المنيا وقضيت فيها ليالي أتاحت لي التجوُّل في القرى والدساكر على ركايب حتى وصلنا إلى (بلدة أولاد علي) وهو اسم قرية فيها بعض من عرفناهم ممن سبق لهم الحج وقابلني الأخوة مقابلة حسنة واستجلبوا لي سيارة لتنقلني إلى بلدة أخرى وركبت السيارة ورافقني أحدهم مع السائق وكان خروجنا من القرية بين السحور والعشاء. وفي أثناء سيرنا فاجأتنا عصابة أرادت بنا شراً (وقد قيل لي إن هذه البلدة يرتادها كثير من اللصوص) ووقفت أمامنا ومنعت حركتنا حتى تفتش وتأخذ كل ما لدينا من مبالغ نقدية أو ساعات أو أقلام أو غير ذلك وهنا وقف السائق محتاراً وكنا في ظلام إلا شعاعاً مستطيلاً من واجهة السيارة وكان يقول هذه عصابات تخرج ليلاً لتؤذي المارة وقد تودي بأرواح البعض ممن يقاومهم في هذه الحالة واستغاث السائق بهم قائلاً: يا أخوان هذا ضيف من مكة حضر لدينا وقد توقفت عجلات سيارتنا ونحن نستنجد بكم في تقديم العون لإخراج السيارة من ورطة الرمال وإذا فعلتم ذلك استحققتم الشكر من الرجل وسيعود إلى مكة ويدعو لكم دعوة صالحة. هنا فوجئت وكانت لحظة غير منتظرة. الجميع رموا عصيهم التي كانوا يحملونها للشر وقالوا حاضر حاضر. يا مرحباً بضيف مكة. عندها اغرورقت عيناي بالدموع وتذكرت مكة وفضل مكة وفعلاً تصنَّع السائق أن السيارة خربت وطلب منهم أن يساعدوه في دفع السيارة وعندما امتدت أياديهم لدفعها شغَّل المحرك وبسرعة طار من بين أيديهم بعد أن نجانا الله من شرورهم.
ومن الذكريات ذكريات السفر للاستقطاب وللدعاية للحج كما أشرت وكنت حينئذٍ في مصر فقد بت ليلتي بالمنيا وكان الوقت شتاء ومن برنامج سيري أن يكون السفر في الصباح الباكر لأنني أحتفظ بتذكرة حجز في القطار والقطار له مواعيد محددة إضافة إلى أنه لا يأتي إلا مرة في النهار لأنه قطار الدرجة الأولى السريع.. وبزغ فجر الصباح وتهيأت للذهاب إلى المحطة لكن الأخوة الأصحاب أصروا على ضرورة تناول وجبة الفطور وشرب الشاي والقهوة وهذا يكفي لأن يفوتني القطار وامتثلت لأمر الأصحاب وكانت النتيجة مرة جداً إذ كدت أفقد حياتي فقد ذهبنا عجلين إلى المحطة وبيدي حقيبتي وعلى كتفي (العباءة) المشلح وعلى رأسي العمة الحجازية (الغبانة) وكان وصولنا ساعة بدء تحرُّك القطار فدفعني الأصحاب إلى السلم دفعاً وعندما هممت بدخول بوابة العربة فوجئت بالباب يغلق في وجهي بشدة وهو يغلق من الداخل وتحرَّك القطار بسرعته المعروفة وأنا معلَّق كالريشة في مهب الريح. كنت على عتبة سلم العربة والقطار يجري كالبرق الخاطف بين المزارع حيناً وعراء الصحراء حيناً آخر. كانت عبايتي مشدودة من الهواء إلى الخلف وحرت في أمري فأهون ما يمكن فعله لأقي نفسي قد يؤدي بي إلى وداع الحياة، كل ما استطعت فعله والقطار ما انفك يزداد سرعة هو أني استطعت بكل حذر أن أضع الحقيبة خلف قدمي على السلم وأن أقلب وضعي فيكون ظهري إلى القطار ووجهي إلى الأمام وبالرغم من ذلك فقد كان موقفي في وضع سيئ جداً بدرجة أن الهواء البارد الملافح وبالذات في الصباح الباكر كان يضرب وجهي وكادت يداي تتجمدان من شدة البرودة وقوة إمساكي بحديد سلم العربة وبدأت أشعر بدورة ودوخة، والأرض من خلفي وأمامي بطبيعة الحال تجري بحكم مجرى القطار السريع لتتساوي مع شعوري بالدوران وخشيت من كل ذلك فقد صوابي ومن بعده السقوط من على السلم إلى الأرض وكل العوامل التي كانت تحيط بي تستدعي ذلك وتستعجله إضافة إلى أن أتربة أرضية المزارع تصافح وجهي وأنا مغمض العينين خوفاً عليها من القش الذي تسفيه الرياح من المزارع وهكذا جرى القطار أكثر من أربعين كيلو وأنا أصارع الحياة والموت معاً حتى وصلنا إلى محطة محافظة بني سويف:
ولو كان أمراً واحداً لاتقيته
ولكنه ثان وثالث ورابع
فسبحان من بيده الأعمار وسبحان من رحمته بنا أكثر مما نعلم ومما لا نعلم.
... أعود بالذكرى إلى شباب الماضي. وهل لي أن أقارن بينه وبين شباب اليوم!! وبما يقول قائل إن وجه الشبه بين الاثنين غير بعيد غير أني ومن واقع التجربة أقول لا وجود للشبه في كثير من الطباع والصفات الخلقية بين أولئك وهؤلاء.. إن شباب اليوم يعتقد أنه ولد وفي فمه (ملعقة من ذهب). الشباب الآن بعيد كل البعد عما كنا عليه في الماضي أيام شبابنا من جَلَد وكد وجهد وتقدير وتحمُّل للتبعات والمسؤولية.
يقول لي أحد الأصدقاء إنه احتاج إلى بعض المطالب للبيت وهي في سوق قريب منهم فطلب من ابنه احضارها. - فقال له الابن: أين مفتاح السيارة؟ مع علمه أن المسافة لا تبعد عن البيت سوى خمسين أو ستين متراً - هكذا يستنكف شباب اليوم أن يذهب لجلب مطالب بيته ولو كانت بسيطة في ذاتها وقريبة التناول إلا بالسيارة!!
وفي ضوء هذه الواقعة أذكر أنني كنت مع مجموعة من أولياء الأمور وأصدقائهم في خرجة من خرجات مكة، كنا في الزاهر - أثر رحمة أمطار هطلت على مكة وضواحيها فسالت الشعاب ورقّ الجو وكان من عادات أهل مكة الخروج للتنفس والنزهة إلى وادي الزاهر الذي تخترقه الطريق المسفلتة حالياً - وكانت فيه يومها بئر الشهداء الذي كانت تغذي مكة بكاملها أيام انقطاع الماء بما تحدثه السيول الكبيرة من تخريب.
واحتاج القوم إلى شيء من التمر.. فقال لي وليّ أمري وكنت يومها يافعاً لا يتجاوز عمري الرابعة عشرة، اذهب إلى مكة وآتنا بالمطلوب - فمضيت ماشياً من منطقة الشهداء بالزاهر مروراً بأبي لهب فسيدي محمود فمستشفى الولادة الموجودة حالياً فجرول حتى وصلت البيت وأخذت من مخزن أدوات الحجاج سخان الماء لصنع الشاي وكان يعرف "بالسماوار البخاري" الذي كانوا يصنعون به الشاي تستنبطه صفيحة ماء - حملت كل ذلك على ثقله بدون ماء وفوق رأسي وكان الوقت ظهراً أي إن الشمس كانت على أشدها حرارة وقفلت راجعاً بنفس الطريق التي جئت بها وقد استغرقت الطريق ذهاباً وإياباً حوالى الساعة ونصف الساعة، لم أتأفف ولم أتضجر ولم يدر في خلدي قط أن أقول لمن أرسلني لا لا أستطيع بل امتثلت للأمر ونفذت العمل وأنا قرير النفس مستشعراً المسؤولية مؤدياً الخدمة كواجب علي.
ـ وعند وصولي قابلني بعضهم بفرحة قائلاً: "أبيض عليك" وهي عبارة تشجيع أو إعجاب بفعل ما وكان رد فعلها في نفسي كبيراً وكأنما أعطيت "نيشاناً" هكذا كنا.. نتعب ولا نبالي، نكدح ولا نتأفف، نقوم ونؤدي أي عمل يوجه إلينا، نطوف في الحرم فنجمع القروش ونبيع ما تعمله ربات البيوت من أنواع الحلويات مع شعورنا بأن كل ذلك رجولة لأننا لا نضيع أوقات فراغنا في اللعب واللهو ولأننا نستفيد من حصيلة ذلك ما نحتاجه من طلبات خاصة في الأعياد والمناسبات...
... وأخيراً أين وجه الشَّبَه بين شباب الماضي وشباب الحاضر؟!
* * *
وتتجدد في النفس ذكريات مكة كلما تجددت مكة في مظاهرها العامة ولعل أحلى الذكريات للمعاصرين منا ذكريات مكة قبل عام 1350 هجري حين كنا في دور الطفولة وكانت مكة شرَّفها الله بوضعها البسيط شوارع ضيقة وطرق جبلية وكان أهم الشوارع فيها الشارع الرئيسي وادي إبراهيم عليه السلام، نزولاً من المعابدة فالمعلاة فالقشاشية فالصفا فسوق الصغير فالمسيال فالمسفلة.. هذا شارع وادي إبراهيم.. تصوروا معي كيف كان وكيف هو الآن بعد النهضة الكبرى التي امتدت ظلالها فشملت السهل والجبل والربى والوهاد، شوارع ممتدة إلى منى وعرفات وجدة والطائف والمدينة. وأضيء الداخلي منها بالكهرباء بعد أن كانت أو كنا نستضيء فيها بما يعرف بالفوانيس والأتاريك. كل هذه الذكريات إذا رجع إليها الإنسان بدت له مكة يومها تحكي مجتمعاً يعيش بالتواد والتراحم وبالصلات التي كانت تجمع ما يعرف (بالبشك).
يجتمعون ليتدارسوا حالهم وحال مجتمعهم ويتعرفوا على كل ذي فاقة وحاجة.. فإذا علموا عن خلاف عائلي بين زوج وزوجته أو خلاف تجاري بين هذا وذاك أو أي نزاع أو صراع تدارسوه فيما بينهم حتى كان لهذه "البشك" أو هذه الجماعات النصيب الوافر في إزالة أسباب هذه الخلافات وإزالة سوء التفاهم وغالباً ما تكون هذه الجماعات متعددة منوَّعة أي إنها تجمع في مجالسها أنواعاً من الرجال شيباً وكهولاً وشباناً.
ولا أبالغ إذا قلت إنهم يعدّون كرجال قضاة. يحكمون بين الناس ويصلحون ويجمعون المتخاصمين أفراداً أو جماعات أقارب أو أباعد.. أحكامهم نافذة لعلم الناس أنهم لا يبتغون من وراء ذلك إلا وجه الله وإصلاح ذات البين.
وكانوا يحكمون على المخطئ - بالذبيحة - بعد أن يعتذر من خصمه.
هكذا كان المجتمع المكي إلى عهد قريب مجتمعاً يسوده التعاطف والتراحم والتصافي تتمثل كل هذه الصفات في وجوه القوم وقد جمعتهم أروقة الحرم للعبادة حيناً ولاستماع مواعظ العلماء حيناً آخر..
وما أروع الحرم وما أروع الكعبة وقد التفَّ حولها أجناس من البشر ما بين طائف وراكع ومستمع.. وقد كان الحرم بأروقته يغص بالعلماء الأجلاَّء من رجال المحاكم الشرعية والقضاة والأساتذة وعلى درجات كبيرة من العلم والمعرفة، أذكر منهم:
فضيلة الشيخ علوي المالكي وفضيلة الشيخ حسن مشاط وفضيلة الشيخ يحيى أمان، وفضيلة الشيخ عمر حمدان، وفضيلة الشيخ محمد العربي وفضيلة الشيخ عيسى رواس وفضيلة السيد محمد أمين كتبي. وكثير ممن لا تحضرني الآن مسمياتهم.
وقد كان لكل هؤلاء الفضل الكبير في نشر العلم الديني ليس لأبناء مكة فحسب بل لكل أبناء العالم الإسلامي فقد تخرَّج من يد هؤلاء وأمثالهم المئات بل الألوف من الطلبة حملوا العلم منهم بثَّوه ودرَّسوه في ديارهم النائية فعلى الجميع رحمة الله ورضوانه..
* * *
... عندما استشرفنا بهذه الذكريات لما قبل عام 1350 هجري نجد أبناء مكة والحجاز بصفة خاصة على جانب كبير من جدّية الدراسة للقرآن الكريم تلاوة وحفظاً، وقد أكسبهم ذلك دراية ودراسة للأدب العربي شعراً ونثراً. لذا كنت تجد المدارس "الأول" التي تحدَّثنا عن بعض منها فيما سبق كانت تقوم بدور كبير ممثَّلة في طلابها في إحياء الدراسات العربية على اختلاف فنونها فكان للطلبة مشاركات شعرية ومناظرات أدبية وعناية كبيرة ببعض العلوم الأخرى كعلم الحساب وغيره.
وما يجهله أبناء اليوم أنهم لا يعلمون من هم المدرسون في ذلك الوقت البعيد في مكة والحجاز؟!
نعم/ لقد كانوا علماء فحولاً، بحوراً في كل فنون العلم وبكل ما تحمله كلمة العلم من المعاني وقد أشرنا إلى بعض أولئك.
وكم أتمنى لو يتيح لي الوقت فراغاً - فأفرد كتابة عنهم بتحقيق وإسهاب - ولن نذهب بعيداً فمصادر البحث والحديث عنهم ما زالت غضة قريبة منا وقد حدد الكثير من معالمها الأساتذة الأجلاء - عمر عبد الجبار رحمه الله والشيخ محمد علي مغربي..
وقد اطلعت مؤخراً على كتيب قيِّم جداً للسيد البحاثة/ محمد بن أحمد الشاطري تحدث فيه عن مدرسة الفلاح بجدة نشأة، ونظارة ومنهج تعليم.
وعلى الرغم من وجود هذه اللمحات العلمية القيِّمة جداً، فإننا في حاجة وحاجة ماسة إلى دراسات أخرى لا تتناول الميلاد والوفاة وبعض المراتب وإنما تتناول التحقيق والدراسة لتلك الشخصيات الفذة بكل أبعادها العلمية ونتائجها الفكرية التي أحسب أن الكثير منها معطل في أرفف المكتبات الخاصة والعامة..
نعم لقد كانت مدارس، أذكر منها الفلاح والصولتية وهناك مدارس وكتاتيب معروفة مثل كتّاب الشيخ أمين الماحي ومدرسة الشيخ الغزاوي الخطاط وكتّاب الشيخ الحمام في حارة الباب وكتّاب الشيخ النوري في حارة الباب وكتّاب الشيخ العبادي في حوش الشريف بن يحيى في أجياد. وكانت المدرسة السعودية في المعلاه هي المركز الذي يقصده كل الأبناء من طلاب أعالي مكة المكرمة وما أروع الطلاب في صفوفهم المتراصة وقد خرجوا زرافات ووحداناً يستقبلون مع مدرِّسيهم جلالة المرحوم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود فأنت تجد مظاهرهم في المناسبات تغريك بما يشع من وجوههم من فتوة ونشاط ولاسيما وهم ينشدون الأناشيد في استقباله ويواكبون الموكب حتى دخوله المسجد الحرام حيث يبدأ بطواف الكعبة فالسعي بين الصفا والمروة، ومكة كلها ممثلة في أهلها مسؤولين ووجهاء وأعياناً وطلبة ومدرّسين تستقبله بحفاوة وتقدير باعتباره الحاكم العادل الذي وحّد الشمل ولمَّ الشعث وجعل مصلحة المواطن والوطن ورفعة شأنه ديدن نهجه في السير حتى اكتملت النعمة وأفاض الله على هذا البلد بمنّه وكرمه ما جعلها اليوم في مصاف الدول الحية رخاء وعلماً وأمناً واستقراراً.
* * *
لقد كانت مكة شرَّفها الله ونحن أطفال وفي سني الإدراك عبارة عن مجموعة من البيوت يلتف أكثرها حول المسجد الحرام ويأخذ بعضها شيئاً من الامتداد في وادي إبراهيم وقد ذكرت ذلك فيما سبق.
وكان أهل مكة في ذلك الوقت يعيشون حياتهم في كد وجهد. الأهل في المنازل من زوجات وأمهات وبنات وأخوات يعملن بالحِرَف المخوَّلة لهن، والأفراد من الآباء والأخوة والأبناء يتغرب الكثير منهم بالسفر خارج مكة فمنهم من يسافر إلى جنوب شرق آسيا أو إلى بعض الدول العربية أو الهند قبل التقسيم الاستعماري - بعضهم للتجارة وبعضهم للدعاية استقطاباً لاستقبال أكبر عدد ممكن من حجاج بيت الله -.
كانت مكة على الرغم من تعدُّد الأجناس بها تعيش أسرة واحدة تجتمع الأسر على اختلافها في كل المناسبات الاجتماعية أعياداً وأفراحاً ومناسبات عادية تتعرف الأسر فيها بعضها على البعض الآخر فيسود بينهم التسامح والتراحم ونكران الذات. وقد كان المكي شديد الحرص شديد الأخذ بالتقاليد الاجتماعية والفضائل النبيلة وكان الكبار يلقِّنونها الصغار وينشرونها بين أسرهم في البيوت والمجالس العامة والخاصة..
هذا ما كان عليه وضع مكة المكرمة قبل عام 1350 هجري، أرويها هنا للذكرى والتاريخ وللتأسي إذ لا بد من أن يتأسى الإنسان بالرجوع إلى محاسن ماضيه وفضائل أهله وقومه أو على حد قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
وإذا فاتك التفات إلى الماضي
فقد غاب عنك وجه التأسي
فما ألذ حقائق الماضي وما أحلى ذكرياته في بلد الله الحرام موطن القداسات ومهبط الوحي، رجوى الخائفين وملاذ التائبين.
وقد يتساءل سائل لماذا لا أتعرض في هذه الذكريات لذكرياتي الخاصة؟ فأجيبه أن ذكرياتي الخاصة عن مكة وما فيها هي ملتصقة بما يجري وما جرى فيها على ساحة الأحداث اليومية في عهد الطفولة والصبا ولا يمنع أن أتعرض لبعض المواقف الشخصية إذا جاءت عرضاً في ثنايا الذكريات العامة التي أنقلها إلى أسماع أبناء جيلنا الحاضر الذي يقف منها مواقف سلبية ولسان حالهم يقول "إننا لا نصدق ما نسمعه" لأن واقعهم والحمد لله ينعم بالعيش الرغيد والرخاء الفائض فأقول لهم "اجعلوا من ماضي آبائكم انطلاقة لحاضركم وما أعنيه هنا هو وضعنا من حيث التقارب والتراحم والفضائل. والماضي في هذا البلد الأمين ماضٍ شريف يتميز بالعلم ويتميز بالأخلاق والنبل ويتميز بالتعاطف وبأحلى الذكريات في المواسم الدينية إن كانت في رمضان أو كانت في أشهر الحج".
* * *
ومكة المكرمة شرَّفها الله هي:
مهبط الوحي وهدي العالمين
وبلاد الأنبياء المرسلين
وعرين الأسد جند الله للخلق
وللقوم الأباة الباسلين
حرم الله الذي حرمه
واصطفى جيرانه في العالمين
ودعا الناس إلى تقديسه
وإلى الحج دعاهم أجمعين
شع من بطحائها نور الهدى
فاهتدى الناس به دنيا ودين
ومشت ألوية الحق إلى
دول الأرض بأيدي الفاتحين
من بني زمزم ممن نشأوا
في حمى البيت وسادوا المشرقين
من إليهم أنتمي إن ذكروا
وبهم يفخر كل المسلمين
يا فتى البطحاء سر مستبسلاً
أنت شبل العرب المستعربين
كن كآبائك حراً ماجداً
عربياً في صفوف السابقين
واعشقنْ مبدأهم مسترشداً
بهدى السنة والذكر المبين
هذه أبيات لصديقي الشاعر الأستاذ عبد الله بالخير عن مكة المكرمة كنا نلهج بها ونرددها في عهد الدراسة منذ عهدنا بالفصل الابتدائي. وقد وردت في كتاب "سلم القراءة" للأستاذ أحمد السباعي يرحمه الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :985  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 330 من 414
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل

[محمد سعيد عبد المقصود خوجه (1324هـ - 1360هـ): 2001]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج