شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الرسالة السادسة
ـ ((أول آهة في الحب.. هي آخر نطاق
في الحكمة))!!
ـ سيدتي:
عندما أوغلْتِ بزماننا في الرحيل.. جعَلْتني خلفك: حبة رمل في بيداء.. وقد احتجب عنها القمر!
كان الظمأ.. يُشعل ذلك النوى الغائر بين ضلوعي!
كان بحر مدينتنا زئبقيَّ الموج.. والعمر يتخبط بين موجة وأخرى.
وكنت أفتش عن عينيك: الليل... بعد أن صادرتا في عمقهما أجمل التذكارات، وأحلى اللحظات!
وما زلتِ - أيتها المثمرة - تقفين ((نخلة)) يتساقط نضجها فوق أرضي!
ولكن الحب... آه، الحب!!
لقد سرقته أخلاق ((الإسمنت)) وبعثرته المسافات الطويلة بين حيّ وآخر، واختصرته - في دقائق - المواصلات الحديثة!
أصبحنا نمارس الحب بالهاتف، وبالتلكس، وبالفاكس!
ما كان زمان - يا سيدتي - ذلك الذي سرقه الوقت منا..
لم تكن أيام.. تلك التي حاولنا ونحن ((نعيشها)): أن ((نحياها))!
الحياة التي نحب.. لا تخضع لتاريخ الأيام وتعاقبها.. ولا تخضع لورقة التقويم!
والأيام التي نحب.. لا تعترف بالوقت المتلاحق الذي يبدأ بطلوع الشمس، ويبدأ - ثانية - بسطوع القمر!
لكنها هي الحياة الحقة التي تبدأ مع خفقة القلب، ومع صفاء النفس، ومع الأمل دائماً.
فمن يمنح ((الأمل)) لأيام العمر.. إلا الحب؟!
* * *
وحين تلفتُّ حولي في غيابك... كانت ((النخلة)) تتساقط.. ورأيت ضلوعي مثلها تتساقط، ويبقى قلبي في العراء!
كنتِ أنت - بذلك الرحيل - قد حاولتِ اجتثاث نفسك من بين ضلوعي مثل ((النخلة)) تماماً.
وتحولتُ أنا.. مثل المدن الحديثة التي ارتفعت فوق أرضها العمارات الشاهقة، أو هذه الكتل الإسمنتية!
كأنّ أعماقي أصبحت مثل المدن الكبيرة، الصاخبة.. اقتلعت ((نخلاتها)) وتزاحمت في داخلها النوافذ المغلقة، أو المخبأة خلف الستائر!
صارت أعماقي تضج ((بالمدنية))!.. لكنها فقدت بكارتها، وعفوّيتها، ونخلتها، وعشبها!
ركضتُ في كل اتجاه...
ركضَتْ في داخلي: الألوان، والأضواء، والظلال، و((النيون))!
صرتُ هذا ((السفر)) الواقف على مشارف المدن..
أناديك.. وأرتقبُ أن تُطلِعي نفسك - مجدداً - من حنايا أضلعي.. أرتقبُ أن تُطلِعي نفسك - مجدداً - من حنايا أضلعي.. من أعماق تربة نفسي.
طوّفت ندائي على حدودك، ومناخك، وسمعك..
أخبروني: أنك ((مدنية)) تركض بمن يعشقها، وترميه - بعد ذلك - في ضياع الوقت، وضياع الأصداء!
نفيتُ عنك الخبر.. جادلت.
لا... بل أخبرتهم عن قراءتي لنفسيتك.. قلت لهم:
ـ أنت لم تكوني يوماً: قشوراً.. و((المدنية)) قشور!!
ـ قلت لهم عنك: إنها ((حضارة))... حافلة بالقيم، وبالجمال النفسي، وبملاحة الطلعة، وبالمضمون الإنساني، وبـ ((نوارة)) عقل!
* * *
فكرت في ذلك طويلاً... طويلاً!
هل كان ما قلته: صوت عاطفتي؟!
أم كان: واقع تجربتي مع أفكارك.. وسلوكك، وحضارتك؟!
ما زلتِ - أنت -: حضارة عشقي.. حضارة نبضي.. حضار إنسانيتي!
ضحكوا... حين قال واحد منهم:
ـ المجانين ثلاثة: مجنون ليلى، ومجنون ((إلزا))، ومجنون ثالث.. هو أنت!
هل رأيتِ.. كيف استخلصوا رأيهم عني؟!
إنني مجنون بكِ أنتِ!
لكنك ((النخلة)) التي نفت نفسها عن ((أرضها)).
أنتِ ((نخلتي)) التي اشتاقت إليها أرضي.
وانطلق المجنون في داخلي يزرع المدن المتمدينة، ويذرعها...
أعدو خلف تلك الألوان، والأضواء، والضحكات المؤقتة.. بحثاً عن بديل مفقود!
علّمتني قراءتي لنفسية المدن.. أن المفقود لا بديل له حتى يرجع.
المدن التي تزركش شكلها بالأصباغ، وبالمدنية الزائفة.. تبدو مثل أنثى، لا يظهر لها جمال إلا بالأصباغ!
احتميتُ داخل نفسي.. لأجدك باقية، رغم السفر، والتجوال، والتشرد الوجداني.
الحضارة لا تحتاج إلى ((ديكور))، ولا إلى أصباغ.
إنها تستمد قيمتها من العهد القديم: البناء الراسخ المتين.
* * *
بقيتِ في نفسي تلك الحضارة..
عميقة كالجذور.. ثمينة كالقيم.. جميلة بكل أبعادك، وبعدك.
اشتقت إلى ((قرية)) صغيرة.. تطلعين فيها: تلك ((النخلة)) الموغلة بجذورها في الأرض.
حلمت أن آخذك إلى ((القرية))... يعطّرك عبق العشب، ويدفئك طين الأرض، وتحميك طيبة العهد القديم!
سئمت من ضجيج المدن.. من ألوانها، و((نيونها)) وصخبها، وزحامها.
الزحام... هنا في قلبي لك!
الزحام... هنا - بخفقاتي ونبضي - ينشدان اسمك.
أنت... هذه النسمة الحنون التي تطوف بصدري،فتنعشه، وترقرق حدة الترقب فيه... لك!
أنتِ.. عاصمة مدني. عاصمة ((عالمي)).
هذه المدن التي تلاحقت عليها موجات الزحام.. فكنت أصرخ بحثاً عن أحضانك.. بحثاً عن حنانك.. بحثاً عن أمومة الأرض فيك!
كنت أناديك.. لأختبئ في صدرك، هارباً من الألوان والأصباغ والطلاء والأضواء.. من الكتل الإسمنتية.. ومن ركض أقدام البشر نحو مصلحة الذات!
* * *
ها أنتِ - يا نخلتي الأبقى - قادمة!
ـ صرتُ أردد: العودة... العودة!
ها أنت.. فجر يطل بعد كثافة الظلال، واصطكاك الرعود، وسقوط الشهب، واضطراب الأنواء.
ـ صرت أردد: المحبة.. المحبة. ليت الناس يتشبثون بها!
ها أنت.. وكفى!!
وتفرّ دموعي من حدقتيّ..
ترى.. هل أنا ((أحلم)).. بعد أن شرد بي التأمل وراء الأصداء؟!
ـ صرت أردد: الوفاء.. الوفاء. ليت الناس لا يسقطونه!
أهو الفرح؟!
أهو الخوف من وهم.. حسبته: أمل الانتظار؟!
هاأنت.. أجمل من الفرح. أعمق من الخفقة. أكبر من الخوف والوهم!
هاأنت تبدعين الضوء بطلوعك.. تنسكبين كالغيث.. تتفتحين كزهرة!
هاأنذا.. قادر - الآن - أن أبذرك من جديد في أرضي!
فتطلعين: سامقة.. شامخة. نخلة الزمان، وحضارة روحي!!
و... ((تنصت الأشجار)).. للفرح!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1102  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 206 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج