شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الضحية
للروائي الإسباني بلاسكوا بانيز. ولد بلاسكو عام 1867 وتوفي عام 1928. كان كاتباً وسياسياً. اشتهرت قصصه بمعالجة المشاكل الإقليمية ورواياته منتزعة من البيئة التي يعيش فيها.. وضع قصصاً عديدة.. ورائعة هذا المساء من أحسن ما كتب..
الراوي: عاد رافائيل إلى قريته ومسقط رأسه بعد سجنه للمرة الأولى في جريمة اعتداء اشتهر بعدها في أرجاء قريته حتى صار كل واحد فيها يردد:
أحدهم: لله در رافائيل من وحش عظيم..
فتاة: إن رافائيل مفتول العضلات له قبضة يد حديدية لقد سدد لكمة إلى من تحرش به فألقاه على الأرض والدم ينزف من فيه..
الفتاة: لقد نسيت يا (ماريا) إنه وسيم وفي مقتبل العمر وريق الشباب.
الفتاة الأولى: إذا كنت يا (لونا) معجبة بشبابه وجماله فإني معجبة بقوته وفتوته كما أني أخافه..
لونا: (ضاحكة) وللناس فيما يعشقون مذاهب..
ماريا: صحيح يا (لونا) تصوري أن أعضاء مجلس القرية يصانعون رافائيل ويتوددون إليه حتى أنهم وهبوه بندقية من بنادق الخفراء وصاروا يحرضونه على خصومهم متخذين من متوحش خلقه سلاحاً لهم في الانتخابات.
لونا: ياه.. أنت ملمة بكل دقائق وتفاصيل حياة (رافائيل) من يدري نتيجة هذا الإعجاب ولا سيما إذا كان متبادلاً ((تقهقه وهي تردد الجملة الأخيرة)).
ماريا: لن أقف في طريقك يا لونا إذا كنت تريدين ((رفائيل)).
لونا: مبروك عليك (يا ماريا).. إني لا أريد تحطيم أعصابي فالحياة مع (الفتوات) و (القبضايات) شاقة ومتعبة..
ماريا: ولكن ((رافائيل)) ينتصر في كل معركة.
لونا: مبروك عليك ألف مبروك يا ماريا..
الراوي: ومرت الأيام وتزوج ((رفائيل)) من ((ماريا)) أجمل فتاة في القرية.. وعاشت ((ماريا)) معه على أعصابها ومع أنها كانت تستمرىء هذه الحياة إلا أنها في بعض الأحايين حين تتجرد من إعجابها وخوفها تطالعها عبارة صديقتها (لونا): الحياة مع الفتوات والقبضايات شاقة ومتعبة. فتعض إصبعها ندماً حين لا ينفع الندم..
((تسمع طرقاً قوياً على الباب فتقول لنفسها)):
إنه هو.. إن خبطاته مرعبة لا شك أنه عاد من معركة جانبية..
رافائيل: لقد تأخرت في فتح الباب فأين كنت؟
ماريا: كنت في الغرفة الداخلية.. مالي أراك معصوب الجبين..
رافائيل: (ضاحكاً ومتفاخراً): لقد تشاجرت مع بعض الخصوم وكانوا ثلاثة وأنا وحدي وقد غافلني أحدهم فضربني بكرسي أصاب جبيني ولكن تمكنت من تحطيم أنفه ورمي رفيقيه أرضاً مغمى عليهما.. ولو لم يتدخل بعض أعضاء مجلس القرية لأجهزت عليهم جميعاً..
ماريا: أما لهذا الليل آخر يا رافائيل.. إن أعصابي تحطمت فلم أعد أتحمل هذه المفاجآت غير السارة كل يوم.
رافائيل: ولكن هذه المفاجآت غير السارة هي مصدر رزقي.. وإني آسف يا حبيبي أن يكون ذلك مصدر إزعاج لك خاصة ونحن ننتظر ميلاد طفلنا الأول.. ثقي إنني سأخفف من هذه المفاجآت مستقبلاً...
ماريا: إني أخشى عليك نقمة هؤلاء المغلوبين...
الراوي: وأصبح رافائيل الحاكم بنفسه مرة في القرية وبرم المغلوبين على أمرهم بهذه الحال فصاروا يحتمون وراء (فتوة) آخر حديث عهد بالخروج من السجن لكي يرد عنهم أذى رافائيل وشعر رافائيل بأن كرامته في المهنة في خطر وأنه لا مندوحة له من وقف هذا الند الذي يسلبه معاشه فكان الكمين الذي لا بد أن يكون، وطلقة النار المردية. ((ثم ضربات بمؤخر البندقية للإجهاز على الجريح إخماداً لأنفاسه إلى الأبد...
رافائيل: هذا مصير كل من يقف في طريقي.. في طريقي..
الراوي: ويضحك رافائيل بشكل هيستيري ثم ينصرف في طريقه وكان الحادث بالنسبة له أمراً عادياً وفي النهاية اعتقل رافائيل حيث التقى في السجن ببعض رفاقه القدماء.. ثم حانت المحاكمة وقد حضرها جميع من كانوا يحذرونه فشقوا صدورهم وأطفأوا غليلهم من منظر رافائيل في قفص الاتهام وصدر الحكم عليه بالإعدام وأرسلت الأوراق للتصديق عليها ومضت أربعة عشر شهراً ورافائيل منتظر ورود الموت من مدريد وكأنه لطول المدة كان يمشي مشية السلحفاة..
ماريا: صدقت يا لونا إن حياة الفتوات شاقة ومزعجة بل وقاتلة.. ها هي أربعة عشر شهراً تمر ورافائيل في غيابه محبسة الضيق دفين حي كالجثة إلا أنها مرددة الأنفاس في هذا التابوت المشيد من قرميد وإسمنت. وأنا أتعذب ليل ونهار في وحشيتي ولولا هذا الطفل الرضيع يؤانسني لمت كمداً في وحدتي..
لونا: لقد اخترت يا عزيزتي هذا الشراب فتجرعي كأسك حتى الثمالة.
ماريا: أجئت تشمتين يا لونا وكنت أحسبك مواسيتي في مصيبتي.
لونا: حاشا لله يا ماريا.. إنما أردت أن أقول إنك أخطأت في اختيارك فقد حطمت قلباً كان يهواك إلى درجة العبادة واستبدلت به رافائيل ذا القلب القاسي كالصخر الأصم..
ماريا: أما يزال (فريدو) على حبه لي.. مسكين لقد سحقت قلبه بيدي.. وبوحشية..
لونا: إنه أشد من ذي قبل.. إنه مستعد أن يتزوجك إذا تأيمت.
ماريا: إن فريدو فتى طيب.. إن الرجال كثيرون يا لونا ولكن اسمعي إنني مؤمنة شديدة التدين فإذا اتخذت رجلاً آخراً فإنما أريده على سنة الله..
الراوي: وبلغ برافائيل اليأس منتهاه.. حفظ عن ظهر قلب جميع ما في سجنه من شقوق وكوى وقضبان حديدية وأشد ما كان يضايقه النظافة وهذا البلاط المغسول المحكك كل يوم وهذه الجدران التي لا يسمح لذرة من تراب عليها.. لقد حرموا عليه حتى مصاحبة القذارة يا للوحشة المطبقة.. لو تطرقت الفئران إلى مكانه لعزاه أن يقاسمها طعامه الزهيد ويخاطبها مخاطبة الخلان، لو أنه وقع على عنكبوت في أحد الأركان لتلهى بتطبيعه وتألفه.. كان حسن الحياة الوحيد يأتيه من رفاقه المساجين وهم يرتاضون رياضتهم البدنية في فناء السجن وها نحن نسمع رافائيل يخاطب نفسه متبرماً..
رافائيل: يا إلهي.. إني أحسد رفاقي المساجين فهم على الأقل يبصرون السماء المجلوة فوق رؤوسهم ولا يتنفسون الهواء في خلال كوة، وأرجلهم طليقة فضلاً عن أنهم واجدون من يحدثونه.. يا إلهي حتى السجن طبقات وبلاؤه درجات.
الراوي: ويحاول رافائيل أن ينفس عن كربه فيغني فإذا بالحارس يقول:
الحارس: أسكت أيها الوغد.. إن صوتك يذكرني بحمار قريتنا..
رافائيل: يا إلهي حتى فمي يلجمونه وتفكيري يتسلطون عليه.
الراوي: وجاء يوم فإذا بالخبر الموعود ينزل به كالصاعقة ((لقد انتهى الأمر في مدريد فالمنية آتية آتية على جناح السرعة بأسلاك البرق.. وقد تأكد لديه ذلك حين أخبره الحارس بقدوم زوجته من القرية ومعها الرضيع الذي ولد له وهو بالسجن فقال يخاطب نفسه..
رافائيل: لقد قضى الأمر وحم القضاء.
الراوي: إن رافائيل القديم.. رافائيل الراغب في الموت تعجيلاً للخلاص مما هو فيه لم يعد باقياً منه إلا القشرة الظاهرة.. أما رافائيل الجديد المولود في غيابة هذا اللحد فإنه ليذكر مرتاعاً ونفسه ذاهبة أن أربعة عشر شهراً تصرمت وأن النهاية قريبة لا محالة ولعمر الله وأنه ليطيب نفساً لو أتيح له البقاء أربعة عشر شهراً أخرى في هذا الشقاء.. لقد تذكر أنهم حدثوه في التماس تأجيل التنفيذ فاستمسك متلهفاً بهذا الخيط الأخير من الأمل شأن المنكودين جميعاً ثم تساءل: أولم يفلح البعض؟ فلم لا يفلح هو؟ ثم صرخ:
رافائيل: أعطوني ورقة وقلماً..
الحارس: لماذا؟
رافائيل: أريد إرسال برقية التمس تأجيل التنفيذ..
الحارس: صح النوم... صح النوم..
رافائيل: أعطيني بربك.. أن أطلب حقاً من حقوقي..
الراوي: وأمر قسيس السجن الحارس أن يأتيه بورقة وقلم ففعل.. وأرسلت البرقية وكانت ((ماريا)) مرتاعة من وجودها في السجن وكانت نظراتها المشدوهة أقرب إلى الذهول وحذر الحس منها إلى الألم، وقد تناساها زوجها في غمرة تفكيره في التماس تأجيل تنفيذ حكم الإعدام.. ولاحظ قسيس السجن ذلك فأقبل على الزوجة يعزيها قائلاً:
القسيس: يا بنيتي ليس للمرء غير التسليم وتفويض الأمر لله..
ماريا: يا أبي وهذا الطفل من يعتني به بعد أبيه..
القسيس: إن الذي خلقه كفيل بإعاشته وتدبر أمره..
ماريا: فوضت أمري إلى الله..
رافائيل: أعطني ولدي أقبله قبلة الوداع..
الراوي: وأجهشت ماريا بالبكاء وهي تعطي الطفل لأبيه فقال لها:
رافائيل: أجئت يا ((ماريا)) تودعينني في رحلتي الأبدية بهذا البكاء والعويل.. كنت أظنك أكثر شجاعة وتحمُّلاً مني.
ماريا: وهل أطيق التصبر والتحمل وأنت تتأهب إلى رحلة لا عودة لها.
الراوي: وارتفع نحيب ((ماريا)) وعلا صوت بكائها وشاركها ((رافائيل)) وجاء الحارس يعلن:
الحارس: انتهى موعد الزيارة.
رافائيل: وداعاً يا زوجتي يا أعز إنسانة وداعاً لا لقاء بعده.
ماريا: وداعاً يا زوجي العزيز وداعاً.
الراوي: وانخرطت ((ماريا)) في البكاء وشاركها الطفل البكاء والصراخ طوال ممرات السجن حتى خرجا إلى الساحة العامة ولم يغمض ((لماريا)) الجفن في تلك الليلة التي سيشنق في صباحها زوجها بل ظلت ساهدة دامية العينين تفكر في مصيرها ومصير طفلها. وبزغ الفجر وطلعت الشمس وابتدأت خفقات قلب ماريَّا تزداد وتضطرب ثم تجلدت وارتدت ملابسها وانتظرت جثة زوجها فإذا بشرطي يقرع الجرس بشدة.. فنزلت ((ماريا)) وفتحت الباب فقال لها الشرطي:
الشرطي: هيا معي إلى السجن.. إن قسيس السجن يريد أن يراك حالاً.
ماريا: انتظرني ريثما أرتب شأن طفلي وأتبعك..
الراوي: ووضعت ((ماريا)) طفلها عند جارتها العجوز وعادت إلى الشرطي وسارا إلى السجن و ((ماريا)) نهبٌ لنوازع وأفكار لا حد ولا آماد وأبعاد لها وفي السجن وجدت القسيس بانتظارها الذي ما أن رأها حتى قال لها:
القسيس: ابشري أيتها المرأة.. سوف لا يقتلون زوجك.. وسوف لا تتأيمين..
الراوي: وبقيت (ماريا) في مكانها ساكتة، كأنها تغالب أفكاراً تتعاقب في موجات عاتية وتشيع في خاطرها وأخيراً ثابت إلى رشدها وقالت..
ماريا: حسن جداً ومتى يكون خروج رافائيل؟
القسيس: خروجه.. أمجنونة أنت.. لن يخرج.. وهو لا محالة يغبط نفسه لإبقائهم على حياته.. وهم سيرسلونه إلى افريقية ومن كان في مثل فتوته وقوته فإنه يعيش عشرين سنة أخرى.
الراوي: وفي هذه المرة انتحبت (ماريا) بكل جوارحها.. ولم تكن تذرف دموع الحزن بل دموع اليأس والسخط.. فصاح القسيس مغتاظاً:
القسيس: ما لك أيتها المرأة.. إنك تتحدين حكمة الله ورحمته لقد عفوا عن حياته.. أفهمت.. لم يعد محكوماً عليه بالموت أفبعد ذلك تندبين وتشكين؟
الراوي: وكفت ماريا عن البكاء والنحيب فجأة وأبرقت عيناها بريق الحنق والكراهية وقالت:
ماريا: حسن جداً.. ليعيش.. إني مغتبطة.. لقد نجا.. ولكن ماذا يكون من أمري أنا.
الراوي: ووجم القسيس وأطرق برأسه.. وبعد سكوت طويل رددت ((ماريا)) منتحبة بصوت يقطع نياط القلوب ودموع تنهمر كالمظهر مدراراً وهي تقول بصوت عالٍ حزين:
ماريا: ماذا يكون من أمري أنا.. أنا.. أنا الآن المحكوم عليها.. أنا ضحية القضاء..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1215  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج