شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الحب الخالد
ولد سامي لأبوين فلاحين كانا يكسبان قوتهما بالعرق والدموع والكد آناء النهار وأطراف الليل.
وأول ما تفتحت عينا سامي تفتحت على فقر مدقع. وحياة خشنة فكانت تحمله أمه معها إلى الحقل وترمي به على ترابه يلعب فيه ويلعق ما علق منه بين ثنايا أصابعه، وهي قريبة منه منشغلة عنه بمساعدة أبيه في عمله اليومي.
ولم تمرَّ طفولة سامي هادئة، لينة فقد كان لسوء التغذية وغبار الحقل وقذارة الماء عميق الأثر على صحته بصورة عامة، شأنه شأن غيره من أبناء هذه الطبقة الكادحة ولولا أنه كان في البلدة طبيب دائم ووحدة صحية متنقلة لكان سامي في عداد المرحومين.
ولما بلغ سامي الثالثة من العمر جاءت أمه بأخت له فزادت أعباء والديه ثقلاً على ثقل، بيد أنهما لم ييأسا بل قابلا الحياة بابتسامة المؤمن الصابر المستسلم لقضاء الله وقدره، الراضي بما قسم له ربه.
بهذا الإيمان العميق جاهدا وجاهدا، وكافحا وناضلا حتى أصبح حقلهما نموذجاً يحتذى به بين حقول البلدة جميعها، فظفرا بجائزة الدولة فوسعا بها عملهما فزاد درهما وكسبهما وتحسنت تبعاً لذلك حالهما وحال طفليهما وأصبحا على مر الأيام من الأغنياء المرموقين.
ولم يقنع والدا سامي بما وصلا إليه بل عمل كل واحد منهما من جانبه على النهوض ببلدهما صحياً وثقافياً وزراعياً فكافأت الدولة والد سامي بتعيينه حاكماً لبلدته، فأحسن المعاملة ونشر العدالة وبسط الأمن فأصبح محبوباً من جميع السكان على اختلاف طبقاتهم وميولهم ورشح نفسه في الانتخابات العامة ففاز بعضوية البرلمان بالتزكية عن منطقته.
ودخل سامي المدرسة الابتدائية فكان الأول بين طلابها في جميع مراحلها كذلك كان شأنه في الإعدادية والثانوية.
وقد أهله مجموعه العالي أن يتعلم مجاناً في الجامعة وأن يتخصص في الطب وفجع سامي - قبل دخوله الجامعة - في أخته فقد اختطفتها يد المنون فبكاها سامي وحزن عليها حزناً شديداً حتى خشي والداه على صحته بيد أن يد الزمان كفيلة بمسح الأحزان مهما جل شأنها وعظم أثرها وهكذا انتظم سامي في دراسته الجامعية وظل في الطليعة مبرزاً على أقرانه في خَلقه وخُلُقه وذكائه وفهمه وحسن معاملته فأحبه كل من اتصل به أو زامله في دراسته واستحكمت صداقة متينة بينه وبين زميل له في كلية الطب اسمه فؤاد... واشتركا معاً في جميع أوجه النشاط الاجتماعي في الجامعة.
وانتخب سامي رئيساً لاتحاد الطلبة في الجامعة بالتزكية وانتخبت سلوى سكرتيرة لهذا الاتحاد.
كانت سلوى في العشرين من عمرها فارعة الطول ناعمة البياض رشيقة القد والقوام يزين رأسها شعر أشقر ابدعت في تنسيقه يد الخالق والصانع وكانت على جانب عظيم من الجمال الطاغي الذي يشد الناظر إليه فيتسمر بصره على عتبة محرابه المقدس وكانت من عائلة كريمة تتمتع بنفوذ واسع وجاه عريض وثراء طائل وقد شغل والدها - بجدارة - مناصب رفيعة متعددة فأنعم عليه سلطان عصره بلقب (باشا).
ولما كانت سلوى وحيدة والديها فقد نذرا نفسيهما للعناية بها صحياً وخلقياً وثقافياً فنشأت نشأة كريمة صالحة ونجحت في جميع مراحل تعليمها ودخلت الجامعة للحصول على دبلوم التربية والتعليم واشتركت في كثير من وجوه النشاط الاجتماعي فيها..
وكانت انتخابات الاتحاد العام للطلبة أول معرفة سلوى بسامي.. وقد ربط الإعجاب المتبادل بينهما فتعاونا على النهوض بالاتحاد على خير ما يرام ثم انقلب الاعجاب إلى حب عارم اتفقا على كتمانه مخافة أن يؤثر على دراستهما ولاختلاف التخصص نالت سلوى دبلوم التربية والتعليم قبل سامي فأقام والدها سليم (باشا) احتفالاً كبيراً في داره بهذه المناسبة كان سامي نجمه وموضع إعجاب الحاضرين من رجال ونساء وعلى رأسهم والدا سامي. وفي هذا الحفل تعرف سامي ((بهند)) فأحبته حباً جارفاً من أول نظرة وأول لقاء كما يقولون..
كانت هند في الثانية والعشرين من عمرها ربعة القامة ميالة إلى الطول أكثر منها إلى القصر رياضية الجسم والتكوين بيضاء البشرة كستنائية الشعر متوردة الخدين يمرح الدل في أعطافها وتسري الأنوثة الصارخة في كل حركة من حركاتها توفي والدها عامر (باشا) ولحقت به أمها في فترات متقاربة وخلفا لهند ثروة كبيرة حام حولها فراش من الطامعين غير أن تربيتها القويمة وذكاءها الحاد الخارق فوتا الفرصة على الراغبين وجنباها شباك... الصائدين الماكرين...
واهتبلت هند فرصة تعرفها بسامي فحاولت القاء شباكها وأحس سامي بالحرج فأفلت بلباقة مذهلة وألقى بصديقه فؤاد في الشباك فكان صيداً هيناً ليناً غير أن طعمه كان من النوع الذي لا تستسيغه ((هند)) ومن سخرية القدر أن يقع فؤاد في حب ((هند)) فيجلس في شباكه الحبيب خاشعاً متبتلاً كالراهب أمام تمثال العذراء يتطلع إلى هند ثم يفرك عينيه وهو لا يصدق أنها خلقت من طينته... أنها - في نظرة - حورية هبطت بطريقة ما على الأرض لتملأها بهجة وحبوراً...
وقد لاحظت هند ما اعتراه من وجوم وذهول.. فرنت في زهو وكبرياء إلى ضحيتها الجاثية على أقدام سحرها وفتونها وابتسمت ابتسام الظافر ثم سارت تجر أذيال التيه والفخار على زفرات وآهات المعجبين المتصاعدة ودعوات المتيمين المتعالية تحرسها وترعاها...
وانفض الحفل وعاد سامي وفؤاد كل إلى سكنه وفي الطريق كان سامي يضحك ويغرق في ضحكه من المقلب الذي شربه فؤاد كلما رأى هذا ساهماً غارقاً في لجة حبه الجديد.. وكثيراً ما كان يحاول استشارته غير أن فؤاداً كان يستعذب هذه السخرية ويقابلها بابتسامة الواثق بانتصاره على ((هند)) في يوم من الأيام وأخيراً تهادئا وعادا ينتظمان دراستهما بما عرف عنهما من جد ومثابرة...
ونال سامي دبلوم الطب بامتياز لم تعرف له الجامعة مثيلاً من قبل وحصل فؤاد أيضاً على الدبلوم بدرجة جيد.. وانهالت التهاني والحفلات وأقام والد سامي حفلة ضخمة في قصرهما احتفاءاً بنجاح سامي وفؤاد ضمت عدداً غير قليل من صفوة المجتمع وزهراته وفي المقدمة سلوى وهند...
وبينما كان المدعوون ينتظمون الموائد المتناثرة هنا وهناك في أبهاء الحديقة الغناء فاجأت هند الحاضرين بدعوتهم لحضور الحفلة الساهرة التي ستقيمها في دارها للدكتور فؤاد وفي الوقت الذي كانت هند تخاطب المدعوين من خلف المذياع كان الخدم يوزعون الدعوة على المجتمعين.
صعق فؤاد من المفاجأة السارة غير المنتظرة ثم آب إلى رشده واندفع إلى الميكروفون يشكر ((لهند)) تلطفها بتكريمه ثم عاد إلى مكانه والدهشة ما تزال تسيطر على الحاضرين..
أما سامي فلم تذهله المفاجأة بل عرف أنها قناع يستمر وراءه خططاً جهنمية تدبرها هند لإيقاعه في حبائلها..
وقطع تفكير سامي ودهشة السامرين برنامج الحفلة الزاخر بألوان متعددة من غناء ورقص وملح وفكاهة..
وعاد فؤاد إلى منزله وهو نهب لأحاسيس متدفقة يزحم بعضها البعض.. إنه أصبح يفكر في هند أكثر من ذي قبل إنه مدين لها إنها طوقت عنقه بجميل أبدي إنها احتفت به وكرمته إنها شغله الشاغل إنها يومه وغده ومستقبله إنه وحيد لا والد ولا أم وأخ ولا عم إنها إذن والده وأمه وأخوه وعمه إنها كل شيء له في هذه الحياة أتراها تحبه أم أن هناك سراً تبطنه.. وظل فؤاد يتقلب على فراشه يصارع أفكاره وهواجسه حتى أنهكته وأنهكها فنام أخيراً..
أما ((هند)) فلم تيأس من إفلات الصيد من الفخ بل تفننت في ضروب الحيل للظفر به غير مبالية بما تلاقيه من إخفاق.. لقد أرادته لنفسها وفي سبيل ذلك استسهلت التضحيات.. ورأت في صداقتها المزيفة لفؤاد جسراً يسهل لها لقاء سامي.
وقاوم سامي بحذر وكياسة إغراء هند وأحبط مؤامرتها المتنوعة بقوة حبه لسلوى ومتانة صبره وجلده وكان أخشى ما يخشاه أن يطلع فؤاد على الأمر فتقتله الصدمة.. إن فؤاداً رفيق الصبا وصديق العمر، إنه مرهف الحس رقيق الشعور إنه يخاف أن تفاجئه هذه المعركة فتودي به حالاً.. ماذا عليه أن يفعل لقد فكر وقدر ثم فكر وقدر فهداه تفكيره إلى السفر للخارج للتخصص في طب أمراض البلاد الحارة فيضرب بذلك عصفورين بحجر واحد.. أجل هذا هو السبيل.. الوحيد لخروجه من هذا المأزق ولو إلى حين.. ولكن كيف يوفق بين هذا المخرج ووعده لسلوى بالزواج فور حصوله على الدبلوم.. مشكلة عويصة أخرى وراود فكره حل سريع لهذه المعضلة.. لم لا يتزوجها فتنتهي المشكلة.. وتجيبه كرامته لا.. يا سامي إنك ما زلت في أول الطريق لم تكوِّن بعد مركزاً أدبياً ولا مادياً أتريد أن تنفق عليك زوجك.. أتريد أن تعيش وزوجتك عالة على والديك.. إنك رجل والرجولة لا ترتضي ذلك..
وأخيراً وازن سامي بين المشكلتين فرجحت كفة تأجيل الزواج على السفر ففاتح سلوى فغضبت في أول الأمر ثم أذعنت للأمر الواقع وقالت:
سأنتظرك.. سأنتظر عودتك يا حبيبي.. موفقاً بإذن الله..
فشكرها وشد على يديها بحرارة فارتمت على صدره تبكي فراقه بمرارة فرفع رأسها وكفكف دمعها وقبلها قبلة أودعها ما يكنّه لها من حب وإخلاص وسافر سامي على بركة الله وكان في توديعه والداه وسلوى وهند وفؤاد.. وجمهرة من المعارف والأصدقاء.. وبدأت رسائل سامي تتوالى منتظمة على سلوى وهي ترد عليها بانتظام أيضاً وكان سامي يختتم تحاريره لفؤاد بإهداء تحياته لهند مكرهاً..
وبعد فهل رضيت هند بالهزيمة أو استسلمت للفشل.. كلا وألف كلا أنها طفقت تبعث لسامي برسائل يومية تفيض بحبها وآلامها ولما لم يجب سامي على واحدة من هذه الرسائل عزمت على أن تستعمل سلاحاً آخر تضرب به في صميم فؤاده..
سلوى.. أجل ومن غير سلوى.. إنها قلبه النابض.. فلماذا لا تفرق بين القلب والجسد..
واستراحت هند إلى هذه الخطة فاسترخت أعصابها المتوترة وشرعت تفكر في هدوء.. وتستعرض في تؤدة وصبر جميع أنواع أسلحة المكر والخديعة وتقلبها لترى أيها أشد مضاء وفتكاً.. وأخيراً وليس آخراً عثرت عليه فصفقت فرحاً ورقصت طرباً.. فما هو يا ترى هذا السلاح السري الجديد..
لقد أشاعت بواسطة أعوانها وعبيد مالها وجمالها أن سامي تقدم لخطبة سلوى وأن والدها رفض ذلك بحجة عدم التكافؤ بين الأسرتين.. فسامي من طبقة الفلاحين.. وصاحب الحسب والنسب والأصل الرفيع سليم (باشا) لا يمكن بحال من الأحوال أن يقبل مصاهرة شخص من هذه الطبقة.. ولذلك سافر سامي إلى الخارج متأثراً من هذا الرفض..
وسرت هذه الإشاعة سريان النار في الهشيم وتناقلها الرواة وبالغوا في تجسيدها وتضخيمها وحشوها بما سمح لهم خيالهم الخصب من إفك وبهتان..
وبلغت الشائعة والد سامي وكان مريضاً فتأثر منها وزادت وطأة مرضه شدة على شدة أما والد سلوى فصدمته الشائعة في كبريائه ومركز عائلته وحمد الله على تكشف هذه الحقيقة له قبل أن يتقدم لخطبة ابنته وأما سلوى فكان وقع الخبر عادياً في نفسها في بادىء الأمر ثم لم تلبث أن جاهرت بتكذيبه ذلك لأن سامي حدثها عن كل شيء إلا عن أصله وماذا يهمها من اصله وفصله إنما أصل الفتى ما قد حصل.. إنها وهي المثقفة لا تكترث لمثل هذه الشائعات فسامي يفضل الكثيرين من ذوي الحسب الرفيع ولذلك لم تكلف نفسها أخيراً معرفة مروجي هذه الإشاعة..
ولما علمت هند أن بذرة شائعتها قد وجدت تربة صالحة لدى والدي سلوى.. جندت أخلص أعوانها وأرسلته إلى بلدة سامي ليتقصى.. لينبش ماضي عائلته.. ويأتيها بالخبر اليقين.. فجاءها بعد أيام من البحث والتنقيب بصورة فوتوغرافية لوالدي سامي بلباس الفلاحين وسامي الطفل بينهما في نفس الزي عاري الرأس.. حافي القدم وأمه تحمل أخته على كتفيها..
قنبلة دونها القنابل الهيدروجينية وصاروخ يعجز عن صنعه عباقرة علماء أمريكا وروسيا أجل وجدت هند هذا السلاح المدمر فطبعت منه مئات النسخ ووزعتها بطريق البريد المقفل.. على معارف سلوى وأصدقاء والديها وخاصة تلك الطبقة منهم المحافظة على التقاليد البالية والعادات البائدة..
وفتح سليم (باشا) مغلفه فطالعته الصورة وبينما هو يتأملها مشدوهاً جاءته زوجه تسعى تلطم خديها وتقذف سامي وعائلته بأقذع الشتائم.. إذا.. بزوجها يحمل نفس الصورة فتبتدره قائلة:
يا للفضيحة.. يا للعار.. كيف كنا نداري وجوهنا عن الناس.. لقد فاتحتني سلوى منذ مدة عن عزم سامي التقدم لخطبتها وأنها ترى فيه فتى أحلامها ثم تخبط جانب فخذها وهي تردد..
يا للفضيحة.. يا للعار..
ويجيبها زوجها..
احمدي الله يا زينب.. واشكريه على تجلّي هذه الحقيقة لنا قبل الخطبة..
ثم يسألها:
أين سلوى.. ألا تزال نائمة..
لقد تركتها تتناول طعام الإفطار..
لا شك أن الصدمة ستكون جد قاسية على سلوى..
تعم لأنها - كما أخبرتك - تحبه وتجله منذ كانا في الجامعة..
وتدخل سلوى عليهما وابتسامة عريضة تشيع في محياها والصورة إياها في يدها.. وإذ بها تفاجأ بأن لدى والديها مثلها.. فيتقطب وجهها وتقول مخاطبة إياهما..
لا شك أنها مؤامرة دنيئة للإيقاع بيننا وبين عائلة سامي إن من فعلها يعتقد أننا ما نزال نعيش العقلية الرجعية القديمة عقلية الحسب والنسب والأصل... إن هذه الصورة - في رأيي - شرف ما بعده شرف لسامي ووالديه ثم ماذا يبغي فاعل هذه المكيدة من مكيدته..
وتقاطعها والدتها قائلة..
إن من فعلها يريد لنا الخير جميعاً.. إنه أراد أن يكشف لنا الحقيقة المؤلمة ثم تجد في كلامها..
إسمعي يا سلوى: ألم تقولي لي إنك وسامي قد اتفقتما على الزواج وأنكما أجلتما ذلك حتى عودته من رحلته الدراسية التي ستستغرق سنتين.. أليس كذلك..
وتجيبها سلوى وهي مغضية خجلاً..
نعم يا أماه.. نعم يا أبتاه.. لقد مضت السنة الدراسية الأولى وها هي السنة الثانية توشك أن تنتصف..
وتقاطعها أمها محتدة..
وتصرين على ذلك بعدما اتضحت لك ضعة أصله.. يا للفضيحة.. إنني ووالدك لا نوافق على هذا الزواج أبداً أبداً، ويومي والدها برأسه على كلام زوجته فتمتعض سلوى وتقول..
وهل في انتماء سامي إلى طبقة الفلاحين فضيحة.. من يدري يا والدتي إن جدّي الأول كان من هذه الطبقة التي تحتقرونها الآن إننا كلنا نعيش على.. سواعد هذه الطبقة الكادحة إننا نأكل نتاج كدها وعرقها ودموعها.. وإنه ليؤسفني أن تتمسكي ووالدي بهذه القشور الباهتة من التقاليد والعادات ويرتفع صوتها عالياً:
أروني بربكما فتى في ثقافة سامي وأخلاقه.. أروني بربكما أباً مثل أبيه نشأ نشأة عصامية وعمل لبلده ووطنه ما عمل والد سامي لبلده وقومه.
إن الجمعيات التعاونية الزراعية المنتشرة في طول البلاد وعرضها والتي إليها يرجع الفضل الأكبر في نهضة بلدنا هذه النهضة الزراعية العظيمة.. من أسسها.. من فكر فيها.. أليس والد سامي.. حرام عليكم تنسون كل هذه الفضائل وتتمسكون بنفايات الأشياء وتفاهاتها..
ثم تخفض صوتها وتقول والسخرية تملأ عباراتها:
ومع كل ذلك فلماذا تستبقون الحوادث وسامي لم يتقدم بعد لخطبة ابنتكم ثم تنهي حدة هذا الجدل قائلة..
والآن هل تسمحون لي بزيارة والد سامي فقد قرأت في جرائد هذا الصباح أنه نقل للمستشفى وحالته خطيرة جداً..
ويردان عليها مشفقين له متمنين له البرء والعافية..
وحم القضاء وتوفي والد سامي ولم يتمكن ابنه الغائب من الحضور.. وشيع جثمان الراحل الكريم تشييعاً رسمياً أشترك فيه كبار رجال الدولة ونواب الأمة وأعيانها ووجوه البلاد وزعماؤها وممثلو الهيئات والطبقات العاملة وجماهير شعبية غفيرة.
وقبل أن يوارى جسده مثواه الأخير ألقى رئيس الوزراء كلمة رثاء أبَّن فيها الفقيد وعدَّد مناقبه وأعماله وأعلن أن رئيس الدولة كان قد أنعم على الراحل العظيم - أثناء مرضه - بأكبر لقب في الدولة وأرفع وسام فيها.. وكان يرجو أن يمن الله عليه بالشفاء فيقلده ذلك بنفسه.. ولئن حال موته دون ذلك فلن يحول دون تقديره وهو مسجى أمامكم..
ثم أخرج الوسام وبراءته واللقب وبراءته ووضعهما على النعش فبكاه.. الحاضرون وترحموا عله وأبرزت الصحف في أعمدتها الأولى خبر نعيه ومناظر تشييعه وعددت خدماته الجليلة لأمته ووطنه..
.. ولبست سلوى وهند ثياب الحداد على الفقيد وأرسلت سلوى ووالداها وهند وفؤاد وغيرهم برقيات التعازي لسامي وتقبلنا - مع أقربائه تعزية المعزين وكان جزع هند على المتوفى بيناً وظاهراً لقد صحا - على ما يظهر - ضميرها فأنَّبها وأفحش في تأنيبها وتبكيتها حتى أنها لم تستطع تحمل هذا التعذيب فهجرت موطنها بغتةً إلى قطر مجاور فور انتهاء أيام العزاء وكان سفرها المفاجىء موضع تساؤل الكثيرين من معارفها ومحبيها وعلى رأسهم الدكتور فؤاد..
وفي صباح ذات يوم تلقى سليم باشا برقية من جلال ابن أخيه ينبئه عزمه العودة من أمريكا إلى وطنه العزيز ويحدد موعد وصول طائرته وقد فرح العم بهذا النبأ ولا سيما وأنه لم ير ابن أخيه هذا إلا عن طريق الصور الفوتوغرافية التي كان يبعث بها أخوه المرحوم..
وفي الموعد المحدد كان سليم باشا وزوجه وسلوى في ساحة المطار يستقبلون - جلالاً بحرارة واشتياق ونزل بالطبع في دار عمه ضيفاً مكرماً معززاً..
كان جلال في الخمسين من عمره قد خطّ الشيب فوديه وكان مديد القامة حسن المنظر متوقد الذكاء والمكر والدهاء خفيف الروح حلو الحديث سريع النكته حاضر البديهة مرحاً في غير تكلف.. أمريكياً في طباعه ومزاجه متأنقاً في زيه وهندامه.. كان زير نساء خبيراً مِفناً في معاملته لهن وكان محباً للتظاهر.. والمعرفة مولعاً بالخمر والميسر حتى أنه بدد ثروة أبيه الطائلة على موائدهما.
ومن العجب المستغرب قدرته الخارقة على التحكم في صفاته هذه وإظهارها أو إخفائها حسبما تقتضيه المواقف.. وتتطلبه المناسبات..
بهذه المؤهلات من المتناقضات سيطر جلال في سرعة فائقة على جميع من في الدار فأصبحوا لا يبتون في أمرٍ مهما ضؤل أو عظم شأنه إلا بمشورته وقراره فيه نافذ من دون أي تردد..
ووجدت سلوى في ابن عمها رفيقاً مؤنساً استطاع بمواهبه الخلاقة أن يكسب ثقتها ويملأ فراغها الموحش.. ورأى جلال في سلوى خاتمة المطاف ومنتهى الأمل والرجاء.
ورأى والد سلوى في جلال المخلص لهما من سامي ومن مشكلة عائلته وأصله فعملا - في حرص وحذر على تنمية الألفة بينهما فسمحا لها بالخروج معه فكان أين يذهب نراها معه في النوادي في السينما في المسارح وفي المنتزهات وقد زاد في تباهي سلوى استيلاؤه في كل مجلس على ألباب الحاضرين والحاضرات.. برصيده الذي لا ينضب من أحاديث وفكاهات وطرائف مستملحات وكانت طريقته في التعبير رائعة جذابة تسترق أسماع المجتمعين وأبصارهم وهكذا أصبح جلال - بين عشية وضحاها - دون جوان المجتمعات والأندية الراقية فتهافتت الفتيات والنساء على التعرف به وتوالت مهاتفاتهن له طوال النهار وبعد منتصف الليل مما أثار غيرة وحفيظة سلوى عليهن فكانت ترد على هذه المكالمات ببرود وأحياناً بحدة قائلة إنه غير موجود بينما هو جالس بجانبها أو قبالها وتناست سلوى في زحمة هذه الحوادث أن تجيب على رسائل سامي المتواصلة إلا فيما ندر..
وأدرك جلال - وهو العليم بقلوب النساء - أن سلوى بدأت تحس بوجوده.. فأخرج من جعبة أفكاره تكتيكاً نفذه على الفور فأنقطع فجأة عن ارتياد النوادي والمجتمعات وترك لسلوى - بدلاً منه - ترتيب برنامجهما اليومي فزاد التصاقه واحتكاكه بها وكثرت تبعاً لذلك أقاويل الناس وتكهناتهم وكلها كانت تجمع على مولد حب جديد بين سلوى وجلال..
وكتب فؤاد إلى سامي - بإسهاب عن علاقة سلوى بجلال وعن الشائعات.. المنتثرة في الأوساط على اختلاف طبقاتها فصعق سامي بهذا الخبر ولم يصدقه في بادىء الأمر غير أن ندرة رسائل سلوى إليه ورسالة والدته الأخيرة التي جاءت معززة لرسالة فؤاد جعلته يميل - باحتراس إلى تصديق الخبر وهكذا قلل سامي أيضاً رسائله إلى سلوى وهكذا بدأت الجفوة وهكذا نجح تكتيك جلال وعاشت سلوى في دوامة من الحيرة بين ماضي حبيب إليها وتباشير إشراقة حب جديد في قلبها..
وبينما كانت سلوى تتأرجح في حيرتها وقلقها أثيرت من جديد زوبعة عدم التكافؤ بين سلوى وسامي.. واحتدم الجدل في أوساط المعارف والأصدقاء ما رأى جلال - بثاقب بصره - إن الفرصة سانحة فرمى في الميدان بتكتيك ثانٍ.. فانطلقت.. الشائعات والهمسات تردد وتؤكد قرب زواج جلال بابنة أحد الوزراء وأشارت بعض المجلات الأسبوعية - بطريقة غير مباشرة - إلى هذا الزواج وأنه سيكون قنبلة الموسم..
وبلغت سلوى الأخبار فثارت ثائرتها وطلبت من جلال أن يكون صريحاً في إجابته لها فجنح للمراوغة فأصرت بشدة على الإجابة فاهتبل الفرصة الذهبية وقال..
ـ وماذا يهمك من أمر هذه الشائعة..
ـ إنك قريبي وأرجو - بهذه الصفة أن يكون لي رأي في زواجك فإنك لا تعرف بنات هذا البلد أكثر مني..
ـ أشكرك من كل قلبي على هذا الاهتمام واسمحي لي أن أسألك: هل في عروس.. الشائعة من عيوب..
وقبل أن تجيب على سؤاله تراقصت أمام عينيها في سرعة حلول مسائل كثيرة..مستعصية لقد باتت تعتقد أن قلة رسائل سامي مردها وقوعه في غرام جديد وأن قضية التكافؤ التي تبناها والدها ستكون حجر عثرة في سبيل زواجها بسامي وأن زواج جلال بابنة أحد الوزراء لا شك فيه وأن ما تعتد به من جمال وتثقيف قد فشل في التأثير على قلب جلال وأن قصة خيبتها سيتحدث عنها المجتمع بسخرية لاذعة وتهكم مريع..
وفطن جلال إلى ما يعتمل بنفسها فأمسك بيدها وقال:
ـ سلوى إني أحبك لقد أحببتك منذ اللحظة الأولى للقائنا هل تقبلين الزواج بي وقاطعته سلوى قائلة:
ـ وبنت الوزير؟
ـ ثقي إنني لا ولن أحب سواك وهاك البرهان على صحة قولي..
ثم رمى بعدة رسائل كان قد زيفها من قبل وأعدها لهذه الساعة فأخذت سلوى إحداها وفضتها وتطلعت للتوقيع ثم صرخت بلا شعور..
ـ إن هذه الرسالة منها إذن أنت تحبها وهي تحبك ولولا ذلك ما اجترأت على الكتابة إليك..
وأجاب في تضرع مصطنع..
ـ أقسم لك إنني ما أحببت ولن أحب أحداً قبلك ولا بعدك.. اقرئي هذه الرسائل بإمعان تري أن الحب من جانب واحد..
وشرعت سلوى تقرأ الرسائل بلهفة ظاهرة وهو يتقمص الإستكانة والخضوع ويختلس النظر إليها بين الفينة والأخرى..
وصدقت سلوى ذات القلب الطيب والنفس الطاهرة ما جاء في هذه الرسائل الملفقة والتفتت إلى جلال قائلة وهي خجلى:
ـ أعذر تسرعي في الحكم..
ـ لقد عذرتك حتى لو كان حكمك ضدي.. وها أنذا أضع حياتي ومصيري بين يديك وأتوسل إليك الإجابة..
فارتبكت سلوى وتفصد جبينها عرقاً ونهضت تقول وهي تتلعثم:
ـ سل قلبك.. أما المسألة الأخرى فاترك الحديث عنها إلى فرصة ثانية..
وأمسك جلال يدها يقبلها ويشكرها وانفلتت من بين يديه وأسرعت إلى حجرتها وهي تتعثر في خجلها وحيائها..
ونادى منادي الفرحة في قلب جلال مدوياً:
يا للفوز يا للنصر المبين:
واحتفل جلال بانتصاره في أحد النوادي الليلية وشرب حتى ثمل ثم انتقل إلى المائدة الخضراء وقامر وربح أولاً وثانياً وأستخفه الربح فجازف بجميع ما لديه فخسر وحزت في نفسه الخسارة.. فتطلع يمنة ويسرة ليستدين فبصر برجل واقف خلفه يسأله ماذا يريد.. فطلب منه أن يقرضه فأجابه إلى ما طلب ولعب جلال وخسر ثانية والتفت إلى الرجل إياه فأجاب سؤاله ولعب جلال ولكن الحظ خالفه للمرة الثالثة فتطلع إلى الرجل مستجدياً فأنهضه من كرسيه وأخذه وأجلسه إلى إحدى الموائد وطلب له كأساً وله أخرى فشربا نخب التعارف.. وفي أثناء ذلك عرف الرجل إياه الشيء الكثير عن جلال وعرف هذا أن جليسه يهودي اسمه ((رامات حاييم)) وأنه من عملاء هذا الكازينو ومن كبار الصرافيين في هذا البلد وتبسطا في الحديث حتى لاحت تباشير الفجر.. فنهض جلال بعد أن وقع على سند بقيمة ما استدان بفوائد جنونية وعاد إلى غرفته ودخل من دون أن يشعر به أحد واستسلم للنوم..
أما سلوى فارتمت على أحد المقاعد في حجرتها وهي نهب لتيارات متشعبة من الصراع النفسي.. ما الذي حملها على أن تقول لجلال ما قالت.. أتراها تحبه أم أنها نطقت بما نطقت لتتقي سخرية الساخرين وتشفي الشامتين..
أكانت تتحداهم بحبها الجديد فرمت بقفازها في وجوههم أم أن الخوف من ألسنتهم السليطة وقلوبهم المتربصة هو الذي دفعها إلى ذلك.. أم أنها... رضخت أخيراً لسلطان التقاليد المستحوذ على عقلية والديها فاستسلمت له بما فاهت وسامي أحقاً نسيته أأصبحت حقيقة في حلٍّ من وعدها له أم أنها تريد أن.. تداري سوءة فعلتها بما زينه واختلقه لها كبرياؤها وغرورها من حب سامي لغيرها إن رسائل سامي على ندرتها تفيض باسمي معاني الحب وأصدقه أكان هو البادىء أم أنها في لجة انشغالها بضيفها وقريبها المحترم.. تناست الكتابة إلى سامي وأنهكها هذا الصراع العنيف ولما تخلص منه فابتلعت قرصاً منوماً ورقدت في فراشها وراحت في سبات عميق وأفاقت متعبة مكدودة ومتأخرة عن عادتها في الاستيقاظ وكادت تعود للنوم ثانية لولا أن دق جرس التليفون فأخذت السماعة وإذا بهند تكلمها أنها رجعت من رحلتها الممتعة وأنها بشوق ملح للقائها.. فتهنئها سلوى على سلامة العودة وتقول لها إنها ستكون عندها بعد ساعتين..
وينتزع موعد هند سلوى من فراشها فتنهض لتستحم وتفطر وتأخذ في أسباب زينتها وقبل الموعد بنصف ساعة تنزل إلى الصالون فتسمع ضحكات والديها على نوادر جلال تجلجل أبهاء الصالون وتقبل يدي والديها وتصافح جلالاً فتسألها والدتها..
أراك في زينتك الكاملة فإلى أين..
إلى زيارة ((هند)) فقد هاتفتني هذا الصباح إنها عادت أمس من رحلتها الطويلة هل تسمحان لي بهذه الزيارة..
بكل سرور نحن بانتظارك على الغداء وسيكون معنا الدكتور فؤاد فهلا دعوت هنداً معنا..
سأجرب..
وتصل سلوى دار هند فتستقبلها هذه بالقبلات وبالأحضان وتستفيض هند في التحدث عن جمال البلاد التي كانت في زيارتها وتريها (ألبوم) الصور التذكارية التي التقطتها (بكامرتها) وأشترتها وبينما كانتا مسترسلتين.. ومنسجمتين في الحديث تدخل الخادم معلنة قدوم الدكتور فؤاد فيستقبلانه بترحيب حار وتنتهز سلوى الفرصة فتدعو هند للغداء الذي يقيمه والداها للدكتور فؤاد وتعتذر ((هند)) بانشغالها بترتيب دارها بعد الغيبة الطويلة وتصر سلوى على الدعوة فلا تجد هند مندوحة من القبول ويتطرق الحديث - طبعاً - إلى سامي فيبلغهم فؤاد أنه نجح بتفوق وأنه كان الأول بين أقرانه ثم يطلعهم على المجلة الطبية العالمية التي نشرت هذا الخبر ونشرت في نفس الوقت صورة سامي والبحث الطبي العلمي الذي تقدم به للحصول على درجة زميل في كلية طب أمراض البلاد الحارة..
فتشيع الفرحة في وجه ((هند)) صافية كالماء الزلال وفي وجه سلوى ممزوجة بكدرة من تأنيب الضمير..
وذهب الجميع بعد ذلك إلى دار سلوى وانتظموا مع المدعوين حول مائدة حوت ما لذ وطاب من أكل وشراب وبعد الغداء انصرف كل إلى وجهته ودخلت سلوى مخدعها لتجد رسالة من سامي ومجلة طبية كالتي شاهدتها مع فؤاد وتفتح الرسالة بيدين ترتعشان فإذا هي على قلة أسطرها تزخر بعواطفه وإخلاصه لها لقد كتب يقول إن لها الفضل الأول في نجاحه وأنه عما قريب سيكون لديهم وأنه سيبرق بموعد سفره.. وأعادت سلوى قراءة الرسالة وهي مستلقية على سريرها ثم طوتها ومسحت دمعتين تحدرتا من عينيها ولا تدري أهما دمعتا الفرح أم الندم وداعب النوم جفونها فاسترخت ونامت..
وأفاقت سلوى في العصر وارتدت ملابسها ونزلت إلى الصالون فوجدت جلالاً ينتظرها وذهبا معاً إلى الحفلة التي يقيمها نادي البريدج تكريماً لجلال بمناسبة إحرازه بطولة النادي في هذه اللعبة..
وبينما كان رئيس النادي يحيي البطل بكلمات مناسبة بصرت سلوى بغريمتها ابنة الوزير تتصدر أحد المقاعد الأمامية بالقرب منها فأربد وجهها واضطربت وشعر جلال بذلك فتلفتت يمنة ويسرة فرأى ابنة الوزير فأدرك السبب وأسر إلى سلوى.. يرجوها أن تتمالك أعصابها فنزلت عند رغبته..
وبعد انتهاء الحفلة خرج جلال يتأبط ذراع سلوى وساق السيارة بسرعة وهو لا يصدق نجاته من ذلك المأزق بينما استغرقت سلوى بجواره في تفكير عميق صحت بعده لتتأكد ميلاد حب جديد في قلبها.. حبها لجلال..
وعاد رنين التليفون يصم آذان سلوى وسؤال الفتيات المعجبات والماجنات منهن عن جلال يحطم أعصابها لقد بلغت القحة ببعضهن إلى حدّ الشتيمة وسلوى ترد عليهن بمثلها ووالداها تغمر الفرحة قلبيهما وهما يسمعان قذائف السباب المتبادل ويريان أعصاب ابنتهما متوترة مشدودة أنه بشرى لهما بحب سلوى لجلال أنهما لم.. يخلفا ولداً إنهما يريدان جلالاً وريثاً لهما بزواجه من سلوى فعليهما أن ينميا هذا الحب يباركاه..
ولا تسل عن سرور جلال بهذه المعركة على أنه كثيراً ما يطلب من سلوى أن تتدخل في المعركة ولكنها كانت تمانع لقد أصبحت نمرة تدافع عن حبها الوليد بكل ما أوتيت من قوة وشجاعة..
ومرت الأيام والوليد الجديد ينمو ويترعرع وجلال يغذيه بكل ما لديه من براعة ودهاء ووالدا سلوى يباركانه ويهدهدانه في حرص وحذر وشاركتهما هند العناية بهذا الطفل بطرقِها هي الأخرى بعد أن أطلعها والدا سلوى على موقفهما من علاقة سامي بسلوى وطلبا منها المساعدة بالنظر للصداقة الوطيدة بينها وبين سلوى ففرحت بهذه الثقة وعدتها فرصة العمر ودخلت في الميدان ومن أقدر منها في مثل هذا الميدان..
وأبرق سامي لسلوى وفؤاد بيوم وصوله وعلم والدا سلوى بذلك فدعوا هنداً وجلالاً إلى اجتماع سري يرسمون فيه الخطط لتدمير العلاقة بين سامي وسلوى وإعلان - حالة الطوارىء استعداداً للمفاجآت..
ووصل سامي وكان في استقباله والدته وسلوى وجلال وهند وفؤاد وغيرهم من المعارف الأصدقاء..
وحيا سامي مستقبليه وشد على يد سلوى بحرارة ظاهرة استرعت الأنظار ولما رأى هنداً وجلالاً بين المستقبلين غاضت الفرحة في وجهه وتعوذ في نفسه من الشيطان الرجيم ولكنه لم يلبث أن تمالك نفسه فعادت الابتسامة تشرق في محيَّاه..
وتوافد المهنئون على دار سامي ونشرت الصحف خبر وصوله ونوهت بنجاحه الذي رفع به رأس وطنه عالياً ولما انتهت مراسم التهاني والاستقبال اختلى بوالدته وبفؤاد وظلوا يتباحثون في الرسائل التي بعثوا بها إليه وقالت أمه.. إنما أرسلناه إليك قطرة من بحر..
ثم سردت له الشائعات والصورة التي وزعت بالبريد ولما جاء دور جلال تصدى فؤاد لذلك وأورد من الأدلة والشواهد ما لا يدع مجالاً للشك في وجود حب بين سلوى.. وجلال وقد تزود فؤاد بهذه المعلومات - بالطبع - من أستاذته هند.. وكان سامي يصغي بكل انتباه إلى ما يقولون ولما افرغوا ما بجعبتهم أجاب:
أشكركما من كل قلبي على اهتمامكما بأمري الخاص ومع ميلي إلى تصديق ما قلتم.. واحترامي لما أوردتم فإني أرى أن نترك البت في هذا الموضوع للأيام القادمة وكل آت قريب وأرفْضَّ الاجتماع العائلي وآب سامي إلى فراشه يفحص ويحلل ما سمع بيد العالم الخبير.. وكانت النتيجة أن تقنعه بإدانة سلوى.. ولكن حبه النابع من سويداء قلبه أتخذ موقف المدافع عن سلوى ففند ودحض ادعاءات الاتهام وحججه وإذا سلوى هي سلوى حبه الذي لا يفنى ولا يموت واطمأن سامي وهو يصل إلى هذه النتيجة فاستسلمت عيناه للكرى..
وتناسى سامي كل ما قيل له واستمر في معاملته لسلوى كما كان قبل سفره غير أنه انقطع عن زيارته لها في بيت والديها بعدما أنس منها بعض الجفوة.. وانتظرت سلوى تفسيراً منه لهذا الانقطاع ولكنه أعتذر بانشغاله في التفتيش على شقة تصلح لأن تكون عيادة يستقبل فيها المرضى وقد بدأ يحس بنذر العاصفة ولكنه كتم هذا الشعور وانصرف ينتظم عمله الجديد تاركاً للمستقبل تبيان المخبأ..
واستطاعت هند أن تجد لسامي طلبه في أحسن شارع بالمدينة فشكرها على هذه.. الخدمة التي لا تنسى.. وشرع فوراً في تأثيث العيادة وتزويدها بالآلات الطبية الحديثة التي جلبها معه ثم بنى مختبراً علمياً لأمراض البلاد الحارة المستوطنة على أحدث طراز من عدد وآلات وأدوات وأدوية وأشرك معه في العيادة زميله وصديقه الدكتور فؤاد ليكون في العيادة في الوقت الذي يكون هو فيه في المختبر كما أسكنه معه في قصر والده الفخم..
وأخلص سامي لمهنته ولمرضاه فأقبلوا عليه بالعشرات من كل حدب وصوب فذاع صيته وانتشر ولمع اسمه واشتهر..
كان الدكتور سامي إنساناً رحيماً بكل ما في الكلمة من دلالة ومعنى يواسي الفقراء والمعوزين يعالجهم ويصرف لهم الدواء مجاناً وينقذ المعدوم منهم ويعمل متبرعاً ساعة كل أسبوع في أكبر مستوصف خيري في بلده..
ولم يركن الدكتور سامي إلى شهرته كما يفعل بعض أطبائنا الشباب بل كان يعكف ليلياً على مطالعة الكتب والمجلات الطبية ليتزود منها بأحدث ما توصل إليه الطب وليظل وثيق الاتصال بكل مجهود طبي علمي وهكذا اتسعت آفاق مداركه ونمت.. فتمكن من مهنته وحذقها وازداد في نفسه حب الاستطلاع والبحث العلمي تمكناً وقوة فأقبل على تجاربه وأبحاثه بنهم وبعزم لا يعرف الكلل ولا الملل بل لقد انغمس في عمله كلياً حتى ينسى ما حوله وأشفق عليه معارفه وأصدقاؤه أن يصيبه مكروه من هذا الإرهاق فأسرعوا إلى الدكتور فؤاد يسرون إليه بمخاوفهم ووعدهم مفاتحة سامي في هذا الأمر فعلاً ذهب إليه في مختبره وبادره قائلاً..
دكتور سامي.. أراك منهمكاً بكليتك في هذا المختبر فالليل والنهار.. تساويا عندك من حيث العمل.. إن لجسمك عليك حقاً يا سيد العارفين وأنى يشاركني كثير من إخوانك وأصدقائك نخشى على صحتك من الانهيار إذا ما داومت على هذا الإرهاق..
ـ مرحباً بالآلام في سبيل تخفيف ويلات الإنسانية المعذبة.. ما أنا يا دكتور فؤاد بأول ضحية لهذا المبدأ السامي.. كثير من المخترعين والمكتشفين لاقوا حتفهم في هذا السبيل.. لن يهنأ لي بال حتى استحضر المصل الذي يقي الناس نوازل الشتاء وآلام الصيف.. كم يحز في نفسي وأنا أرى آلاف الناس يتوجعون فلا يجدون إلا علاجاً مسكناً لا شافياً..
ثم يتحمس في كلامه:
سأعمل جاهداً لتحقيق هذا الهدف فإن وفقت فذلك ما أبغي وإن هلكت كنت إلى جانب أولئك الشهداء على صعيد الإنسانية المقدس.
ولم يشعر الدكتور فؤاد إلا بلسانه ينطلق:
ـ وفقك الله وبلغك ما تصبو إليه..
ويدق جرس التلفون فيسرع فؤاد إليه..
ـ هلو من.. سلوى.. أهلاً وسهلاً..
ويتنبه سامي من استغراقه عمله على ذكر سلوى.. ويكمل فؤاد حديثه الهاتفي..
حسناً.. أنا بانتظارك.. مع السلامة..
ويضع سماعة التلفون ثم يلتفت مخاطباً سامي..
خبرتني سلوى أن قريبها جلال مريض.. وتدعوني لمعالجته وستمر بسيارتها لتأخذني إليه..
ثم يغير فجأة مجرى الحديث فيقول:
قل لي.. لقد انقطعت سلوى عن زيارتنا.. وكلما سألت عنها قيل لي إنها مع قريبها جلال في فسحة أو زيارة.. ألعلها أصبحت مفتونة به.. وإن قصة الحب بينهما أضحت حقيقة لا غبار عليها..
رمى فؤاد بقنبلته هذه وهو يعلم حب سامي الكبير لسلوى وإذا بسامي يجيبه:
ربما شغفها تفننه في الإغراء وأعجبتها عقليته الأميركية.. صدقني يا فؤاد إنه محدث بارع يخلب حديثه الألباب..
ـ ولكنه في سن أبيها.. إنه في الخمسين من عمره قد وسمت السنين في فوديه وخديه علاماتها..
ويقاطعه سامي:
ـ لا تنسى أن سن الخمسين هو سن النضوج في كل شيء على رأي بنات اليوم.. ويضيق فؤاد ذرعاً ببرودة سامي فيقول محتداً..
ـ ولكنك تحبها يا سامي وكيف تسمح لهذا الطفيلي بالتدخل..
ويحاول سامي أن ينهي هذا الجدل فيقول..
دعنا من فضلك والخوض في أحاديث الحب والغرام ولنلتفت إلى ما نحن فيه من عمل سيعود على الناس بالخير العميم إذا وفقنا الله..
ـ ولكن..
ويقاطعه سامي..
ـ إذا كانت أحاديث الحب تروق لك لأن حب هند يملأ كل شيء في حياتك فلتعلم أن سامي الأمس غير سامي اليوم..
ويقول فؤاد وهو يقهقه..
رمتني بدائها وانسلت.. اسمع.. أنا أحب هنداً وأموت في حب هند.. بالرغم من أني أشعر أنها لا تحبني فما كل ما يتمنى المرء يدركه..
وينسحب سامي ضاحكاً.. ثم ينكب على عمله فيضع سائلاً فوق آخر ويدون النتائج ويجلس فؤاد على أحد المقاعد يقرأ مجلة طبية ويستغرق كل منهما فيما هو فيه ولا يصحوان إلا على فتح الخادم للباب معلناً حضور سلوى تدخل سلوى فتسلم ويردان التحية بأحسن منها ويدعوانها للجلوس فتقول شكراً.. مستعجلة.. جلال مريض.. وبحاجة للعلاج والعناية..
ويسألها سامي:
ومم يشكو قريبك..
ذلك ما أترك للدكتور فؤاد تفسيره.. هيا بنا يا فؤاد ولنترك سامي في ابحاثه ومعادلاته الكيماوية فهي كل شيء عنده في الحياة.. أليس كذلك دكتور.. سامي.. باي.. باي دكتور..
تقولها وهي تضحك متهكمة ويجيبها سامي بكل هدوء واحترام..
باي.. باي.. سلوى إني أتمنى لقريبك الصحة والسلامة..
ويذهبان تاركين سامي يجتر آلآمه المكبوتة وتتصارع في فمه الشكوك والأوهام ومد وجزر من التخّيلات والأفكار أن منافساً خطيراً قد برز في الميدان يحتل المراكز الاستراتيجية في قلب حبيبته.. إن مقاومة سلوى لهذا الغازي بدأت تنهار بل إن هناك بوادر استسلام فما عساه أن يفعل وهو القابع بين بوتقات مختبره ومعادلاته الكيماوية كما قالت سلوى...
أسئلة جالت وصالت في خاطره واستولت على لبه وتفكيره ولم يصح من وعثاء تخبطه في ديجورها إلا على رنين الهاتف.. فيمسك السماعة ويقول:
هلو.. مين.. اسطى محمد.. تتكلم من العيادة..
العيادة بها مرضى كثيرون وفؤاد لم يعد بعد أنا آت حالاً..
ويضع السماعة ويرتدي جاكتته ويذهب على عجل إلى العيادة يستقبل المرضى فمن كان فقيراً منهم فحصه وأعطاه العلاج من صيدلية العيادة أو نقده ثمنه إن لم يكن بها الدواء وما كاد يفرغ من مهمته ويستريح على مقعد وثير في عيادته حتى دخل عليه التمرجي وهو في حالة وجل فسأله سامي.. ما به فأجاب: هند بنت عامر باشا في الصالون..
ويمتعض سامي ولكنه. لا يلبثان يذعن للأمر الواقع فيقول:
أدخلها وأمرنا لله..
وتدخل هند وآثار النعمة والفتنة تسربلها وتنطق في كل خطوة من خطواتها وفي عينيها تحدٍ وتصميم على وضع حد لعلاقتها بسامي..
بنجور دكتور سامي..
بونجور مدموزيل.. تفضلي.. خيراً إن شاء الله..
قالها بكل حذر وهدوء وحرص وإذا بها تحييه وهي جالسة على الأريكة بشكل مثير..
ـ أشكو من المرض القديم المزمن وفي يديك علاجه ولكنك تبخل به على ألعلَّك تعالج به مريضة غيري هي أحق بعطفك وعنايتك..
ويجيبها سامي ببرود:
ـ عدنا للنغمة القديمة يا مدموزيل..
ـ لا شك إنها نشاز في أذنيك يا دكتور..
ويضغط سامي على أعصابه بل يضعها في ثلاجة بتعبير أصح ويقول:
ـ هنالك من هو أحق مني بسماع هذه النغمة الحلوة فقد أحبها بكل جوارحه..
ثم يردف بحماس:
ـ دكتور فؤاد يا آنسة هند شاب في مقتبل العمر وسيم الطلعة من عائلة محترمة له مستقبل باهر في مهنته وهي الصفات التي تتطلبها كل فتاة عاقلة مدركة من كل من يتقدم لخطبتها..
وتقاطعه هند:
ـ في كل مرة تزج بفؤاد فيما بيننا..
ولم لا..
ثم تنهض هند وتقترب منه في حالة تضرع واستجداء وتقول:
ـ سامي.. تذللت فاستكبرت وتقربت فابتعدت والآن علام عولت..
ويرى سامي أن الفرصة مواتية لوضع حد لهذه المسألة فيجيبها بصراحة..
قلت لك مراراً إن قلبي كالزهرة لا يتفتح إلا مرة واحدة ولا يسع إلا حباً واحداً وأنت تعلمين من أحب..
وتقاطعه هند محتدة:
ـ كفاية.. ذل.. ومهانة.. هي المرأة لما تحب معناه أنها باعت عزة نفسها وكرامتها.. نعم تذللت واستعطفت أملاً إن لك قلباً ليناً لا صخرة صماء ومع كل ذلك فأنا لا يهمني ما دمت لي نفس كالأشعة تمر بالوحل لتعود صافية نقية كالبلور..
ويفلت زمام أعصاب سامي منه فيجيب:
ـ أشكرك على هذه الإهانة التي أتحملها إكراماً لصديقي فؤاد راجياً أن تكون خاتمة حضورك لهذه العيادة..
وتنفجر هند صارخة من قسوة الإجابة..
ـ تطردني يا قاسي.. ثق إني سأنتقم لنفسي.. فالمرأة إذا صدمت في حبها اندفعت في نقمتها كالبركان والويل لمن يقف في سبيل حممه..
وتترك العيادة في حالة جنونية ويجلس سامي على مقعده يتنفس الصعداء.. ثم يخرج من درج المنضدة دفتر مذكراته اليومية فيدون ويتلو ما يدون بصوت مسموع:
((مسكينة هند.. لقد كنت قاسياً في معاملتها وكان الأولى بي وأنا مصاب بنفس دائها أن أترفق بعواطفها وأحاسيسها ولكن كيف أستجيب لندائها وأنا العليم بحب صديقي فؤاد لها وضميري وخلقي وشرفي وعفتي وحبي لسلوى كيف أهرب من ذلك مسكينة هند لقد باحت لي بحبها.. أما أنا فأتألم من حبي وشكوكي وظنوني وهواجسي..
ما ذنبي لديك يا سلوى.. ما هذه السحب التي أراها تتلبد في سماء حبنا الصافية تقولين في كل مرة أراك فيها إن البحث العلمي شغلك عن مباهج الحياة ومتعها وأكسبك جمود العلماء وذهول الفلاسفة.. لعلَّ لك عذراً في تحولك الأخير عني وانشغالك بجلال فهو والحق يقال محدث بارع سريع النكتة حاضر البديهة ولكن هل اطلعت على قلبه كما اطلعت على قلبي إنني أخشى على قلبك الصافي ونفسك النقية الطاهرة من جلال وأمثاله..
إن نذر كارثة توشك أن تعصف بحبنا إنك لا تعلمين يا سلوى إن انصرافي للعلم وانكبابي عليه إنما هو من أجلك.. أريد الشهرة.. أريد المجد متى ما حصلت عليهما حق لي أنئذ أن أتقدم بطلب يديك.. آه يا سلوى ليس كحبك شيء ينير لي السبيل ويذلل لي الصعاب..
ويدخل فؤاد فيطوي سامي مذكراته ويضعها في درج مكتبه ويقفله ثم ينهض للقائه قائلاً..
ـ أهلاً فؤاد.. كيف مريضك..
ـ وعكة بسيطة لا تمنعه من الخروج..
ويستمر فؤاد في كلامه قائلاً:
ـ أوصلتني سلوى بسيارتها هنا وعادت لتكون بجانب جلال..
ثم يمسك بيد سامي ويجلسه على مقعد ويجلس هو قباله على مقعد آخر ويقول:
ـ أريد أن أتحدث إليك يا سامي بصراحة تامة.. سيكون آخر حديث لي معك في هذا الموضوع..
ـ تفضل..
ـ سامي.. أخشى سلوى تفلت من يديك.. إن ميلها لجلال - كما لاحظت - ميل الحبيب للحبيب لا حنو القريب على القريب وأنت منهمك في أبحاثك تاركاً لجلال المجال مفتوحاً يلعب فيه كما يشاء وقلوب العذارى كقلوب الأطفال تأسرها النكتة الحلوة والبسمة المشرقة والروح المرحة المتطلقة لا يهمها شكل ولا عمر من قالها.. أو أرسلها وأنت جلمود صخر تتكسر على جوانبه أمواج العواطف فلا تحركه أو تزحزحه..
ـ ولكن سلوى فتاة متعلمة لها من ثقافتها ما يجنبها جادة الخطر وشباك الصائدين.. أما جمودي الظاهر فمهام أبحاثي العلمية تفرضه..
أجل سيأتي اليوم الذي تنطلق فيه عواطفي من أسارها فيتحدث بها العالم ويقاطعه فؤاد ساخراً:
ـ بعد خراب البصرة كما يقولون يا سامي لا تنسى أن سلوى من فتيات اليوم لا تنسى أن أباها سليم باشا من الجيل القديم.. لا تنسى..
ويقطع سامي الحديث من فم فؤاد قائلاً..
ـ أبوها.. صدقت.. لقد لاحظت أنه يكرهني ولذلك انقطعت عن زيارة سلوى في دارها إنني أخشى أن تكون قصة عدم التكافؤ بين الأسرتين مستولية على عقله وربما على عقل سلوى ولكن سلوى لا أعتقد أن عقليتها تقبل أو تهضم مثل هذه الخرافة أنه ليشرفني أن يكون والدي من الطبقة الكادحة على كل حال.. أنا.. أشكرك وأعدك أني سأغير سياستي نحو سلوى.. لعلي أتدارك ما فات والآن هلم بنا إلى المختبر..
وانتظرت سلوى أن يتقدم سامي لخطبتها كما اتفقا عليه من قبل وكانت تتلهف على ذلك أن حبها لسامي من حب جذري لا يمكن اقتلاعه بسهولة وحبها لجلال لم ير النور إلا منذ مدة قريبة إنها كانت مستعدة لأن تئد هذا الوليد الرضيع في مهده ولكن سامي لم يخط أية خطوة في هذا السبيل.. إنه على العكس انقطع عن زيارتها في دارها ولم يعط أي تفسير يشفي غليل سؤالها أأصبحت حصيرة جامع تقادم عليها العهد فرموا بها من صدر المسجد إلى عتباته.. أكان انتظارها مدة سنتين انتظار أمل سراب. أصحيح إذن ما أشيع عن أنه وقع في حب أجنبية كانت تزامله في الدراسة بالخارج.. وتناست سلوى في عنفوان انفعالها وزحمة هواجسها وظنونها أن أقاويل الناس وأحاديثهم عن علاقتها بجلال وشائعات عدم التكافؤ بين العائلتين وجفوة والديها السافرة لسامي كلها مجتمعة كان تمنعه من الإقدام على عمل فاشل.. إن له كرامة يحرص عليها ويعتز بها ولا يريد أن يجازف بها وأنه لذلك أثر أن يتريث ليتبين مبلغ هذه الأقاويل والإشاعات من الصحة..
في هذا الهدير الصاخب من أمواج الظنون والهواجس وسفينة غرام سامي وسلوى تصارع هذه الأمواج المتلاطمة العاتية.. أذاع الحزب الرباعي إن انهماك سامي في بحثه العلمي مرده حب جديد وقع فيه وأن زواج جلال بابنة أحد الوزراء وشيك الوقوع فإذا بهذا الطوربيد يغرق السفينة فيبتلعها بحر الريب والظنون وإذا بصبر سلوى ينفد وإذا بها تخشى قوات القافلة وإذا بها تشير إلى جلال بطريقة غير مباشرة أن يتقدم لخطبتها من والديها فيسر هذا كالبرق فيوافق الوالدان. ويباركان هذا الزواج والدنيا لا تسع أفراحهما..
ويجتمع الحزب الرباعي - بعد هذه المفاجأة السارة ويوكل إلى هند - ومن أقدر منها على تحمل مثل هذه المسؤولية - العمل على استعجال سلوى لتحديد موعد حفلة الخطبة والزفاف معاً والتأكد من حقيقة نوايا سلوى جرت كل هذه الأحداث وسامي وفؤاد مستغرقان في عملهما بالمخبر يحلل الأول ويدون الثاني نتائج التحليل وبينما هما كذلك يدق جرس التلفون فيهرع فؤاد إليه قائلاً:
ـ هلو.. جلال.. خيراً إن شاء الله..
ـ فاتني يا دكتور أن أدعوك للوليمة التي سأقيمها يوم الجمعة القادم لأصحاب سلوى وأصحابي في حدائق الأقمار السبعة ويسرني حضورك إياها..
ـ يسعدني الحضور ولكن يجب أن تحتاط من تقلبات الجو على صحتك..
ـ ما دمت معنا فلا خوف سنمر وسلوى بك لننال شرف صحبتك.. قل لي هل الدكتور سامي بجانبك..
ـ نعم..
ـ دعني أكلمه من فضلك..
ويدعو فؤاد سامي فيأتي ويأخذ السماعة ويقول..
ـ صباح الخير جلال.. الحمد لله على السلامة..
ـ شكراً الله يسلمك..
ويوجه الدعوة إلى سامي فيجيبه..
ـ أشكرك وأعتذر لأني مرتبط بمواعيد في مختبري وعيادتي..
ـ لك ما تقول مع السلامة..
ـ مع السلامة..
ويرمي بالسماعة ويعود إلى مختبره وفؤاد يقلب بصره ويحرك يديه متعجباً من برودة أعصاب سامي الذي ينصرف إلى متابعة تحاليله في مثابرة وجلد غريبين يتحطم أمامهما صبر الدكتور فؤاد فيستأذن ويذهب للعيادة..
ويظل سامي غارقاً في عمله طوال ذلك النهار ويشاء ربك أن يكافئه على جهده وجهاده فيكتشف سائلاً له لون قرمزي فيتهلل وجهه بشراً وحبوراً ويمسك بالأنبوبة ويرقص فرحاً ثم يضعها في مكانها ويهاتف فؤاد ليحضر على عجل فيجيء هذا ويدخل والاضطراب يغمر محياه قائلاً:
خيراً يا سامي:
ويمسك سامي بالأنبوبة ويقول:
ـ فؤاد.. هذا السائل هو العنصر الهام في تركيب المصل الواقي.. لقد بدأنا نمسك بطرف الحبل.
ثم يسبح سامي في تأملاته غير ملتفت إلى مباركة فؤاد له بهذه النتيجة فنراه يخاطب نفسه في ذهول المخترعين والفلاسفة:
ـ آه يا ربي متى اكتشف العنصرين الباقيين.. آه عندما أتقدم بطلب يديك.. ويقاطعه فؤاد والدهشة تهدر في كلامه فقد ظنه جن فيصرخ:
ـ تتقدم بطلب يدي من يا دكتور..
ويحاول سامي أن يصلح غلطته فيقع في أعظم منها إذ يقول:
ـ الإنسانية المعذبة..
فيضحك فؤاد ملء شدقيه ويربت على ظهر سامي قائلاً:
ـ هل الإنسانية ذكر أم أنثى..
ويثوب سامي إلى رشده فيقول متصنعاً الجد:
ـ دعنا من مزاحك يا فؤاد..
ويجيب فؤاد على عادته من السخرية والمرح..
ـ أمرك يا إنسانية معذبة.. قم بنا فقد أرهقك عمل اليوم وما وصلت إليه من نتائج يتطلب الراحة لاستئناف نشاطك..
ـ وهو كذلك.. هيا بنا..
وتبدأ هند في تنفيذ المهمة التي ألقيت على عاتقها فتهاتف سلوى عصارى ذات يوم ويرن الجرس فتأخذ سلوى السماعة قائلة:
هلو.. مين.. هند.. مساء الخير..
ـ مساء الخير سلوى..
ـ كم أنا مشتاقة إليك..
ـ إنك تتكلمين بلسان حالي.. سلوى.. هل لديك مانع من حضوري الآن..
ـ أهلاً وسهلاً.. أنا بانتظارك..
وتضع السماعة وتدير الراديو فتنبعث منه أنغام ساحرة جميلة.. ثم تأخذ من مكتبتها كتاباً اسمه ((فلسفة الحب)) وتجلس تقرأ بإمعان وتستمع بلهفة للموسيقى.. ثم ترن الجرس فتأتي الخادمة فتقول لها:
هند بنت عامر باشا آتية الآن.. أدخليها عليَّ هنا حال وصولها..
حاضر يا ستي..
وتنصرف الخادمة وتستمر سلوى في إصغائها وقراءاتها ثم تقوم للمرآة وتصلح من هندامها وتعود إلى كتابها وتصل هند ويفتح الباب فتدلف وتنهض سلوى لاستقبالها بالأحضان ويجلسان وتقدم لها سلوى سيجارة وتشعلها وهي تقول:
بأشد الشوق إليك هند..
وأنا والله كذلك.. كم من مرة سألت عنك فقيل لي إنك في زيارة أو فسحة لم يقل لي أحد أنك سألت عني..
الحق عليَّ لأنني لا أخبرهم باسمي..
ثم تغير مجرى الحديث وتسأل مازحة:
قولي لي.. زيارات وفسح مع مين يا عفريتة.. طبعاً مع الدكتور.. سامي.. وتنفجر سلوى ضاحكة.. حتى تكاد تستلقي على قفاها وتقول:
وهل لدى سامي وقت لحاجات كهذه.. إنه مشغول بمختبره وأبحاثه غارق فيها إلى ذقنه..
وتتجاهل هند - وهي العليمة بكل شيء - فتقول وهي تصطنع الغباء:
إذن مع من..
مع ابن عمي جلال..
وتهتبل هند الفرصة فتقول:
سمعت الشيء الكثير عن ابن عمك هذا في المجتمعات الراقية..
وتقاطعها سلوى قائلة بتلهف.
ـ وماذا يقولون عنه..
ـ يقولون إنه مثقف حلو المعشر سريع النكتة حاضر البديهة خبير بالقلوب تتمناه كل فتاة زوجاً لها بالرغم من أنه جاوز الأربعين..
وتشد هند على عبارة بالرغم من أنه جاوز الأربعين فتفيض ابتسامة كانت تسطع في محيا سلوى فتنتزع الكلام من هند وتجيب بامتعاض:
هذه فلسفة أنصار الحب الجنسي وهو أحط درجات الحب إسمعي سأقرأ عليك فقرات من كتاب (فلسفة الحب) وهو أحدث كتاب ظهر في هذا الموضوع..
وتتناول الكتاب من جانب مقعدها وتقرأ:
((يجمع فلاسفة الحب على أن الحب الجنسي هو أحط أنواع الحب ذلك لسهولة الحصول عليه لإشباع الرغبة البهيمية.. أما الحب المثالي فدوافعه: صفات ومميزات ومؤهلات تتوفر جميعها في شخص ما ولا تتوفر في غيره وهذه الخصال تستهويك فتنجذب إليها وأصحاب هذا المبدأ لا يقيمون لفارق العمر وزناً)).
ثم تتوقف عن القراءة وتتطلع في وجه هند لترى تأثير ما قرأت فيه فتتظاهر هذه باستيعابها كل ما قرأت وتقول مستفهمة في خبث ومكر:
ـ وما هي هذه الصفات والمميزات والمؤهلات..
ـ إليك يساق الحديث.. لم أنته بعد من قراءاتي.. وتستمر في القراءة:
((أما هذه الصفات والميزات والمؤهلات فهي: اللطف والظرف والرجولة الكاملة البديهة الحاضرة النفس المرحة المنطلقة إذ ليس الشيب شيب الرأس وإنما هو شيب النفس..
وتصرخ هند متصنعة تأثرها بما سمعت وتردد:
ـ ليس الشيب شيب الرأس وإنما هو شيب النفس.. الله.. الله.. فلسفة عظيمة رائعة..
وتشيع البسمة ثانية في وجه سلوى فتقف عن القراءة وترمي بالكتاب جانباً وتقتنصها هند فرصة للتعرف أكثر على ما تبطنه سلوى فتقول:
ـ ولكن سامي يتمتع بكثير مما قلت..
ـ لا أنكر أن سامي كان في نظري الشاب المثالي عندما كنا طلاباً في الجامعة وكانت مفاهيمي للحياة بدائية أما الآن وقد اتسعت مداركي وآفاق تجاربي فقد تغير رأيي في سامي وصرت بعد انصرافه الكلي للبحث العلمي - أنظر إليه نظرة الزميل الصديق لا نظرة..
وتقاطعها هند قائلة:
ـ لا نظرة الحبيب المثالي..
ـ هو كذلك..
قالتها سلوى والألم يعتصر فؤادها.. وإنها كانت تحب سامي حباً تحدثت عنه ردهات الجامعة ودور الأقارب والأصدقاء الذين ما يزالون ينتظرون أن يتوج بالزواج لا شك أن قرار سلوى هذا يحز في نفسها ولكنها كانت ضحية مؤامرة محكمة الحلقات..
وتنتهز هند وقوع سلوى في زحمة هذه الدوامة فتقول وهي تريد أن تنتزع تأكيداً آخر من سلوى:
ـ إذن فجلال هو - في رأيك - الرجل المثالي.
وتجيب سلوى ذات القلب الطيب بكل صراحة وبراءة:
ـ هذا ما بدأت أحس به أو قولي هذا هو الواقع..
وتؤمن هند على كلام سلوى بقولها:
ـ أرى أنك على حق في الموقف الذي اتخذت فيه بالنسبة للدكتور سامي.. فهو على غزارة علمه.. تنقصه الصفات التي ذكرتها إني أهنئك من كل قلبي على النتيجة التي وصلت إليها..
لقد كشفت سلوى أوراقها ببساطة لهند فلم تجد هذه أية مقاومة تذكر في معرفة نوايا سلوى ومع أنها أي هند تعرف أكثر ذلك من والدي سلوى ومن جلال إلا أن المهمة التي أنيطت بها هي تحديد موعد الخطبة والزواج معاً فلتزحف - وقد انهارت الحصون الأمامية - على الهدف الرئيسي.. فقالت بابتسامة مصطنعة:
ـ على فكرة.. متى ستعلن خطبتك من جلال لا شك أنها ستكون قنبلة الموسم.. ويهز هذا المديح والإطراء سلوى.. والغواني يغرهن الثناء وترقص الفرحة في كل جانحة منها فإذا بها تقول في غرور يحجبه التواضع المصطنع.
ـ لا شك أنها ستكون مفاجأة..
وتتوقف قليلاً ثم تردف في استحياء:
ـ لم نحدد بعد موعد الخطبة ونحن بانتظار بعض الحاجات التي أوصى بها جلال من اوروبا وأمريكا..
ولم تستطع هند أن تكتم فرحة حقيقية انفجرت في قلبها وشاعت في وجهها فإذا بها تصفق بيديها وعقلها وتقول:
مبروك يا حبيبتي.. مبروك.. ألف مبروك..
ثم تنهض وتقبلها قبلة عميقة وترمي بآخر تكتيك في جعبتها قائلة بلهجة فيها الرجاء والتوسل..
ما رأيك في أن تكون الحفلة الساهرة السعيدة في داري.. إنه رجاء أرجو ألا يخيب.. إنه واجب أقوم به غير مشكورة نحو صديقة العمر وأعز إنسانة لدي..
وينطلي هذا الرياء على قلب سلوى الطيب فتجيب:
هذا كرم منك يا هند وفضل لا أنساه.. سأستشير والدي وجلالاً وأخبرك برأيهم في الوقت المناسب..
ـ سأكون جد سعيدة إذا نلت هذا الشرف..
ـ العفو يا هند..
ثم تضرب سلوى كفاً على كف قائلة..
لقد أنساني حديثك اللطيف شيئاً هاماً..
وتقاطعها هند:
ـ وما هو..
ـ بعد غد سيقيم جلال حفلة غداء في حدائق الأقمار السبعة دعا إليها شلة من أصدقائه وأصدقائي وأنت بالطبع في مقدمتهم وكنت على وشك أن تفتك لو لم تكوني أنت السابقة لكل مكرمة ويسعدني أن تقبلي دعوتي هذه وتصفحي عن تأخري في تبلغيك إياها..
عفواً يا عزيزتي.. بكل سرور أقبل الدعوة وأعدها فرصة ذهبية للتعرف أكثر.. بصهرنا العزيز جلال.. استأذنك في الانصراف..
مع السلامة يا هند..
وتشيعها سلوى حتى الباب الخارجي وترجع هند إلى دارها وليس هناك من بيان أو يراع يستطيع وصف فرحتها وسرورها ثم تنام نوماً عميقاً حافلاً بأعذب الأماني والأحلام.
أما جلال فنراه جالساً في شرفة دار صديقه اليهودي وأمامه مائدة حوت.. أطايب الطعام والشراب أعدها صديقه هذا احتفاء بنجاح جلال في مهمته وكان الحديث يجري بينهما على النحو التالي:
جلال يا لك من صياد ماهر.. لقد أوقعت سلوى في شباكك بطريقة فنية هائلة.. ويقاطعه جلال معتداً:
ليست سلوى أول فتاة تقع في شباكي.. كم من فتاة قبلها وقعت في حبائلي فتمتعت بها وبعدما أشبعت نفسي منها رميت بها عرض الطريق..
لكن سلوى تختلف عن غيرها إذ هي بالإضافة إلى قرابتها تعد من أجمل فتيات هذا البلد خَلقاً وخُلقاً.. ولا تنسى أنها الوريثة الوحيدة لوالدها المليونير ولهذا أعتقد أن معاملتك لها ستختلف عن سواها..
ويحاول جلال أن يداري تبجحه فيقول:
بكل تأكيد ستكون معاملتي لسلوى مختلفة كل الاختلاف عمن سبقنها خاصة أني بحاجة للمال بعد أن بددت ثروتي على موائد الملذات.
ومتى ستعلن خطبتك..
هذا ما سنتفق عليه غداً أو بعد غد على الأكثر..
أرى أن تكون الخطبة والزفاف في ليلة واحدة لأني أخشى أن تتكشف لها أوضاعك المالية السيئة أيام الخطبة فيطير الصيد من يدك..
ويقول جلال والنشوة تسري في عروقه فيتمطى كلامه وتتلوى عباراته وتتعثر ألفاظه:
رأي سديد.. برافو.. برافو.. حاييم.. كأنك تقرأ آرائي وأفكاري.. لقد اتفقت مع والديها على ذلك.. ولم تبق إلا موافقة سلوى يا عزيزي..
المدهش المدهش جداً..
العفو يا اكسلانس.. فما ارتأيت مستمد من بعض ما عندك.. يا أستاذ..
ويضحك جلال حتى يكاد يقع أرضاً من شدة ضحكه وبينما كان جلال وصديقه اليهودي يتأمران ويحتفلان بانتصارهما ويهيئان أنفسهما للثروة المنتظرة كان الدكتور سامي يتقلب على فراشه يحاول أن ينام فلا يستطيع فينهض ويرتدي ملابسه وينسل في حذر إلى مختبره يشتغل بنهم ويدون النتائج وأخيراً يوفق إلى اكتشاف العنصر الثاني في تركيب المصل فيمسك الأنبوبة في يده ويقول:
الحمد لله على نعمتك يا رب.
وبينما هو يقول ذلك سمع صوت المؤذن يؤذن لصلاة الصبح فيضع سامي الأنبوبة في مكانها ثم يتوضأ ويصلي ويحمد الله على توفيقه.. وبعد الصلاة يترك المختبر ويعود إلى داره لينام ويصحو في الساعة الثامنة فيرتدي ملابسه وينزل إلى الصالون ليتناول القهوة ويقرأ جريدة الصباح.. ويأتي له الخادم بالقهوة وفي أثناء ذلك يدير قرص التلفون فيدق الجرس في غرفة فؤاد فيصحو هذا من نومه ويتناول السماعة وسامي يخاطبه:
صباح الخير دكتور فؤاد.. هل نسيت موعد سلوى..
آه شكراً.. سرقني النوم.. لا تنتظرني على الإفطار طالما أنت على موعد من مرضاك..
ويضع سامي السماعة ثم يذهب إلى غرفة الطعام.. وبينا هو يفطر يدخل الخادم قائلاً:
الآنسة سلوى في الصالون بانتظار الدكتور فؤاد..
أذهب وادعه إليها..
ثم يسرع سامي لمقابلتها ويقول:
صباح الخير يا آنسة سلوى..
صباح الخير دكتور.. أين فؤاد..
بعثت أدعوه..
أنا مستعجلة لأن جلالاً ينتظرني في السيارة..
ثم تقول مجاملة:
لم اعتذرت عن قبول الدعوة..
خشيت أن يكون في حضوري ما ينقص من بهجة الحفلة..
وتتجاهل سلوى ما يرمي إليه فتقول ببرود ظاهر:
بالعكس وجودك يسرنا ويسعدنا..
ويرى سامي أن الفرصة تتطلب أن يبت في موضوع علاقته بسلوى وأن يضع النقط على الحروف كما يقولون فيقاطعها قائلاً:
أراك تتكلمين بصيغة الجمع..
وتتمادى سلوى في برودها فتجيب..
نعم يسرني أنا وجلال حضورك..
وتسري الحدة قليلاً في كلامه فيقول:
إذن فقد كنت على حق في اعتذاري عن الحضور طالما أنت وجلال شيء واحد وأنا أصبحت على الرف..
وتحاول سلوى أن تلطف جو الحديث فتقول:
أنت ما زلت الزميل والصديق الذي أجله وأحترمه..
وتعلو الحدة والجدة في كلامه وعباراته وصوته حين يقول:
كنت أطمع في أن أكون أكثر من ذلك ومن حقي أن..
وتقاطعه سلوى وقد فهمت أنه سيفاتحها في موضوع الزواج وأنه سينكأ الجروح جروح حبها التي بدأت تبرأ، فتقول في سخرية وفظاظة وقسوة فغر سامي فاه أمامها ولم يصدق أن سلوى.. سلوى زمان هي التي تقول:
حلم قد مر في نوم القدر يا دكتور: لقد بدأت أصحو وأتفهم الحياة على وجهها الصحيح فتبين لي إنني وأنت على طرفي نقيض في كل شيء ولذلك أرجوك يا دكتور أن تعتبر كل ما بيننا من آمال منتهيا وأن تنظر إلي نظرة الصديق للصديق وكفى..
ويتحمل سامي الصدمة بتؤدة العاقل ويقول وهو يلوك جراحات فؤاده:
أشكرك يا آنسة سلوى على صراحتك التي إن دلت فإنما تدل على كرم نجارك ونبل أخلاقك وأنه ليسعدني ويشرفني اعتبارك لي صديقاً وهو اعتبار سأظل أرعاه بعين الأمين المخلص مدى الحياة.
واسمحي لي يا صديقتي العزيزة أن أهنئك على الطريق التي اخترتها متمنياً لك التوفيق في كل خطواتك..
ويتندى جبين سلوى خجلاً وتتمنى لو غاصت في مقعدها على أن تقف هذا الموقف وتسمع هذا الجواب الفياض بأروع ما يسمو إليه الأدب من عبارات وأساليب ويبكتها ضميرها أسفاً وندماً أكثر فأكثر تجمل سامي بالصبر واعتزازه بصداقتها ومباركته خطواتها المستقبلة كل ذلك كان له أبلغ الأثر وأعمقه في نفسها فترتبك ويتورد خدها ولا تشعر إلا ويدها تمتد إلى سامي تصافحه وهي ترتعش وتقول والألفاظ تتدحرج في لسانها والجمل تتحشرج في مخارج صوتها:
ألف شكر يا سامي.. سأبقى ما حييت مقدرة هذا الموقف النبيل.. وإني لأعتذر عن قسوتي في التعبير عن رأيي وأستمحيك العفو..
ويدخل الدكتور فؤاد قائلاً.. وكان خلاصاً ونجاة لسلوى مما كانت فيه..
صباح الخير سلوى.. صباح الخير سامي.. تأخرت فأرجو عدم المؤاخذة وتريد سلوى أن تداري الموقف فتقول:
لقد أنساني الدكتور سامي بلطفه هذا التأخر..
ثم تنهض وتشد على يد سامي بحرارة تسترعي انتباه فؤاد وتقول:
ـ استودعك الله دكتور سامي..
ـ مع السلامة آنسة سلوى.. مع السلامة فؤاد..
ويذهبان ويستلقي سامي على أقرب مقعد يلملم أشلاء قلبه وآماله المتناثرة ويمضغ آلامه وعواطفه على أنه لا يلبث أن يحبسها - كعادته - في قمقم من صبره وجلده.
ويسير رتل من السيارات تتقدمه سيارة سلوى ويصل الموكب حدائق الأقمار السبعة وينتظم الجمع حول مائدة نسقت أبدع تنسيق ووضعت عليها أشهى المقبلات وتوابعها..
ويرى فؤاد هنداً بين المدعوين فيسلم عليها وتدعوه للجلوس بجانبها.. فيجلس وقد أذهله هذا العطف وتستفيض هند في الحديث معه وهي تستهدف أن تقف على أحوال سامي بعد الصدمة الأخيرة.. وتحل هند بحذقها وكياستها عقدة فؤاد فيتبسط في حديثه معها ويعطيها أكثر ما تطلب من تفاصيل وحقائق من دون أن يفطن للفخ المنصوب ويقطع حبل حديثهما إعلان المفاجآت السارة التي أعدها جلال لمدعويه من ألعاب خفيفة ونكات بارعة وحيل مبتكرة.. وأحاديث شيقة وقصص رائعة استولى على ألباب المدعوين والمدعوات وأثار إعجاب سلوى وزهوها حتى كاد المجتمعون من فرط سرورهم ينسون موعد الغداء لولا أن الشخص المكلف بذلك تدخَّل يدعوهم إليه..
وبعد الغداء يتنحى جلال وسلوى جانباً وعلى انفراد يتباحثان في التحضيرات اللازمة لحفلة الخطبة وموعدها.. وأثناء الحديث تخبره سلوى بطلب هند أن تكون حفلة السهرة في دارها ومن قبيل التغطية والتعمية يقول لها جلال:
أرى أن نترك هذا الموضوع لوالديك يا سلوى.
وتؤمن سلوى على كلامه ثم تسأله:
هل لديك مانع من مشاركة هند لنا في الرأي.. كما أحب أن تسمع منك الجواب على طلبها..
بكل سرور ما دمت ترين ذلك..
وتدعو سلوى هنداً فتقبل على عجل وتجلس معهما وتبادرها سلوى قائلة:
أنت بمثابة أخت لي ولجلال وقد أردنا أن تشتركي معنا في الرأي.
أشكركما على هذه الثقة وأرجو أن أكون عند حسن الظن..
ويقول جلال:
لقد وصلت الجمرك الحاجيات التي أوصينا بها وغداً أو بعد غد ستكون في (فيلتنا) التي استأجرناها لهذه الغاية كما أن بقية الأشياء قد تم تحضيرها من هنا ولم يبق إلا أن تحدد سلوى موعد يوم الخطبة..
وتغضي سلوى برأسها استحياء ويغمز جلال هنداً لتضرب ضربتها المتفق عليها من قبل. فتنتهز هذه الفرصة وتقول:
طالما أن جميع الأشياء جاهزة فلماذا لا تحددان ليلة الجمعة القادمة موعداً للخطبة.. أليس كذلك يا سلوى..
كما يريد جلال..
وهو كذلك ليلة مباركة.. غير أني أرى - والرأي لسلوى - أن نأخذ موافقة عمي وزوجته على ذلك.
وتوافق سلوى على رأيه وتسألهما هند:
هل وافقتما على أن تكون الحفلة الساهرة في داري.. إن هذا اقل شيء أقوم به تجاه أخلص صديقة لي..
ويرد جلال:
وهذه أيضاً نتركها لموافقة والدي سلوى..
وترمي هند بورقتها الأخيرة وقد رأت أن الجو ملائم لها فتقول:
ما رأيكما أن تكون الحفلة خطبة وزفاف معاً..
ويقاطعها جلال قائلاً لئلا تشعر سلوى أنه ضالع مع هند أو أن هناك سابق اتفاق:
وهذه أيضاً نوكلها لرأي والدي سلوى..
وتظهر هند شبه امتعاض تغطية للموقف أيضاً إلا أن شعور الفرحة الذي يغمرها وقد تخلصت من منافسة خطيرة يدفعها - بلا وعي - لأن تنهض فتقبل سلوى قبلة حرَّى وعميقة ثم يعودون إلى ضيوفهم..
ويؤوب فؤاد إلى سكنه فيجد سامي في انتظاره فيسلم ثم يسترخي على أحد المقاعد والبشر يسربل محياه فيسأله سامي:
أرى وجهك مشرقاً يا فؤاد.. لا شك أن هنداً كانت مع الشلة.
كانت يا حبيبي ولا تسل كيف كانت.. لم أرها في يوم من الأيام مشرقة ومبتهجة كما رأيتها اليوم. لقد كانت معاملتها لي تختلف عن كل الأيام التي سبقت وفي الحقيقة كانت الحفلة ناجحة جداً.
ربما يسعدك ويوفقك يا فؤاد..
ويسعدك أنت ويوفقك يا أعز صديق.. بشرني..
هل تمكنت من مفاتحة سلوى هذا الصباح بما اعتزمت عليه فقد رأيتها منشرحة الصدر معك على غير عادتها..
ويجتر سامي جراحه فيقول:
نعم يا فؤاد.. لقد كانت معي في غاية الصراحة..
ويقاطع سامي فؤاداً متلهفاً:
ها.. وماذا قالت:
قالت.. أرجو أن تعتبر كل ما بيننا من آمال منتهيا.. وأن تنظر إلي - بعد اليوم - نظرة الصديق للصديق.. وكفى..
ويصعق فؤاد فينتصب واقفاً قائلاً:
وبماذا أجبت..
بماذا أجيب.. أجبت أني سعيد جداً لاعتبارها إياي صديقاً وتمنيت لها التوفيق في كل خطواتها..
يا للقلب الطاهر الكبير لو كنت مكانك لأمسكت بخناقها ولم أتركها إلا جثة هامدة.
أنت عاطفي يا فؤاد لا تحتمل الصدمات..
ويرتمي فؤاد على مقعده وقد ران الحزن والغم عليه فيقول والحسرة تعتصر كلامه:
إذن ستتزوج سلوى جلالاً.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. ويمسح دمعة ترقرقت من محاجر عينيه فيبتدره سامي قائلاً:
فؤاد.. ما هذا كنت أنتظر منك تضميد جراحي إنك بعملك هذا تزيدها نزيفاً فوق نزيفها.. لا.. لا لقد كنت عوناً لي في كل مرافق حياتي واليوم وفي هذه الساعة بالضبط - أنا بحاجة إلى عونك ومساعدتك على رأب الصَّدع ثم يقول وقوة الجلد ومتانة الصبر تتجلى بأجمل معانيها وأبدع مواقفها..
ـ لتتزوج سلوى جلالاً.. وليكن مباركاً عليها.. وسأحضر حفلة الخطبة والزفاف إذا دعيت إليهما..
ويطير صواب فؤاد فيصرخ:
ـ أجاد أنت في كلامك.. لا. لا.. إنه هذيان محموم..
ـ لا يا فؤاد.. إنه ليس هذياناً - كما تظن - سأحضر الاحتفال فالمحب المخلص يحب أن يتحمل التضحية.. يحب أن يشرب الكأس حتى الثمالة.. إن سلوى أرادت غيري وعليَّ وأنا المخلص الأمين أن أرضى بمن ارتضت وأن أهنأ من اختارت.
ـ أعصابك حديد.. لا.. بل فولاذ.. أنا لا يمكن أن أتحمل شيئاً كهذا.. ويغير سامي مجرى الحديث فيقول:
ـ ما لنا ولكل هذا.. فالحديث عنه قد انتهى.. هات البشارة..
ـ على أي شيء.. على حب هند لغيري.. هذه مصيبة وليست بشارة.. ويقهقه سامي ملء شدقيه قائلاً:
ـ كل شيء عندك هند..
ـ نعم.. هي كل شيء عندي.. حسناً وما هي البشارة.. هات وأصدقني..
ـ لقد اكتشفت العنصر الثاني من مركبات المصل الواقي ولم يبق إلا العنصر الثالث وما أظن اكتشافه صعباً..
ويقبله فؤاد قبلات الصديق المبتهج بهذا الاكتشاف..
ويشكره سامي قائلاً:
ـ وقد أزمعت - بعد اكتشاف العنصر الثالث - أن افتح مختبراً صغيراً في الريف أنقل إليه أدوات ومستحضرات ومستلزمات المصل الجديد لأقوم بتجربته في موطن الداء فسكان الريف - كما تعلم - معرضون للإصابة بهذا الداء أكثر من سكان المدن.
ـ وأنا سأذهب معك..
ـ لا.. أنت ستبقى هنا في العيادة من جهة وبقرب هند من جهة أخرى.. ولأني أحتاج إلى أشياء كثيرة من المدينة ومن غيرك يمكنه تأمينها وإرسالها إلي..
ـ حسناً توكلنا على الله:
أجل.. لقد تقبل سامي الصدمة بيقين المحب المؤمن المخلص لحبه بكل ما في هذه الكلمة من معنى وارتضى قلبياً بما ارتضت سلوى وأنك لتعجب أيما عجب بكلمة (قلبياً) فالمحب المخلص في رأي سامي يحب أن يكون شعاره الرضاء بما يرتضي حبيبه ولو كان فيه ضرره وتبنى ما يتبنى حبيبه وحب ما يحب حبيبه لو كان عدوه أن اليأس والتذمر والبكاء والتفجع وغيرها من الأمور التي يلجأ إليها المصدومون في حبهم.. إن دلت فإنما تدل على أنانيتهم وحبهم لأنفسهم أنهم لا يحبون لذات الحب للمعاني السامية التي تحملها كلمة الحب أن هؤلاء وأمثالهم تجار حب لا فرق بينهم وبين تاجر بصل أو تاجر أقمشة وخردوات.
أجل.. لقد ارتضى سامي وهو المحب المخلص الأمين بما ارتضت به سلوى.. واعتبر كل شيء طبيعياً كأن لم يكن فانصرف - في الأيام التالية لحادث الصدمة إلى عمله بشغف وهمة ودأب متواصل. ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يجزيه على تعبه وإخلاصه في عمله وفي حبه فيكتشف العنصر الثالث من مركبات.. المصل ويمسك بالأنبوبة ويهتف من فرحه قائلاً: حمداً لك يا رب على ما أنعمت.
هذا هو العنصر الثالث ولم يبق إلا مزج هذه العناصر الثلاثة وتجربة هذا المركب. وتجري مراسم عقد الزواج في قصر سليم باشا ويحضر سامي وفؤاد الحفل..
وتنزل سلوى بملابس الزفاف ويدها في يد جلال وقد أحاط بهما والداها ومن خلفهم الأصدقاء والصديقات والعوالم يزفن ويدقن وتصل سلوى إلى القاعة الكبرى المزدانة بأجمل ما يمكن أن يتصوره المرء وتجلس وبجانبها جلال على المقعدين المختصين لهذه المناسبة ويدار شراب الأفراح وعلبه الفاخرة على المدعوين وكان سامي فرحاً جذلاً بقدر ما كان فؤاد متقطباً عابساً ينظر في حنق إلى جلال وفي دهشة وتساؤل إلى سامي.
ويهنىء سامي - مع المهنئين - سلوى التي تشكره على حضوره وترجو أن تراه في الحفل الذي تقيمه هند الليلة في دارها.. فيعدها بذلك وقد أكبر الحاضرون الروح الرياضية التي تحلى بها سامي وأثنوا عليه بما هو أهل له..
وحضر سامي - بعد ذلك - الحفل الفخم الذي أقامته هند وأنفقت عليه بسخاء حتى صار حديث الناس ومضرب أمثالهم في تلك السنة. وبدأ البرنامج بعزف موسيقي راقص أفتتحته سلوى وجلال.. وبينما هما يرقصان بصرت سلوى بسامي وفؤاد جالسين معاً وفؤاد مكفهر الوجه وسامي ممتلىء بهجة وحبوراً.. ولما التقت عينا سلوى بعيني سامي ابتسمت وابتسم هو رفع رأسه محيياً فابتدأت همسات الحاضرين والحاضرات فقالت إحداهن لجارتها:
أين سامي من هذا الخليع الماجن.. أين شبابه من شيب هذا..
وأجابتها جارتها:
الزواج قسمة ونصيب.
وقالت أخرى لرفيقها:
لا شك أن سلوى مجنونة أو مسحورة إذ أن فارق السن بينهما كبير..
وأجاب رفيقها متحمساً:
أراهن أن سلوى مسحورة إذ لا يقبل مثل هذا العريس زوجاً إلا من كان مسحوراً أو به جنة..
وتنتهي الرقصة الأولى.. فتعود سلوى وزوجها إلى مكانهما وهند من ورائهما وتمر سلوى بجانب منضدة سامي وفؤاد فتسألهما:
لِمَ لم ترقصا..
ويجيب فؤاد..
ـ لم نجد من نراقص..
وتلتفت سلوى إلى هند وتقول:
ـ هند ترقص مع فؤاد وأنا مع سامي..
وتفاجأ هند بذلك فلا ترى بداً من قبول الأمر الواقع وتعزف الأركسترا ويرقص كل مع رفيقته.. وتبدع كل من سلوى وهند في الرقص مع صاحبها ويلتهب الحفلة طرباً ونشوة ويتفنن العازفون في عزفهم حتى لتكاد الآلات نفسها ترقص مع الراقصين وتنثال الهمسات بين الموجودين فيقول أحدهم لجاره..
انظر إلى سلوى وسامي.. لقد خلقا لبعض حتى جاء هذا العجوز ودخل بينهما كالشيطان..
ويجيبه جاره:
ـ أقسم أن زواج سلوى من جلال لن يعمر طويلاً..
وتضحك إحدى الحاضرات وقد رأت جلالاً يكاد يتميز غيظاً وكمداً فتسر إلى جارتها:
ـ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ.
ويغرقان في الضحك ويشعر جلال أنه هو المقصود فيسكت على مضض.. وتنتهي الرقصة فيصفق الحاضرون تصفيقاً متواصلاً زاد في غيظ جلال وغمه وأدخل في روع سلوى أن المدعوين والمدعوات كن يردنها لسامي لا لجلال..
ولكن بعد فوات الوقت وتعود سلوى إلى مقعدها والناس ما زالوا يصفقون وتجلس وقد رانت على محياها سحابة غم أحس بها جلال وأعضاء الحزب الرباعي فهرعوا لتبديدها وكان في البرنامج الممتع الذي تلا الرقص ما ساعد على زوال الغمة فعادت البسمة تعلو وجه سلوى.
وينفض الحفل ويبتدأ الناس في الخروج وحينما يودع سامي سلوى تقول له:
أرجو أن أسمع قريباً نجاحك في اكتشاف المصل يا دكتور..
ويرد سامي بقوله:
شكراً أرجو لك ولجلال حياة زوجية سعيدة حافلة بأعظم الأماني والآمال.
ويجيب جلال:
شكراً يا دكتور..
وينصرف سامي وعينا سلوى تشيعانه كأنهما لا تريدانه أن ينصرف ويغيب سامي بين المنصرفين فتغيض البسمة والفرحة في وجه سلوى.
ويشرع سامي في نقل مختبره إلى الريف ويشرف بنفسه على التحميل بينما فؤاد ما يزال يغط في نومه ولا يصحو منه إلا على رنين قوي فيمسك السماعة ويقول:
ـ هلو.. مين هند.. يا صباح الفل والياسمين والورد.. أمر مدموزيل..
وترد هند:
ـ آه يا عفريت.. قل لي صحيح أن الدكتور سامي يعتزم نقل مختبره إلى الريف؟..
ـ ومتى سيكون ذلك..
ـ اليوم.. وإني أكلمك وهو من دون شك في ساحة القصر يرشد الحمالين إلى طريقة التحميل..
ـ أنا قادمة إليك حالاً..
بالانتظار على أحر من الجمر..
ويرمي فؤاد السماعة ويسرع في الحلاقة والاستحمام واللبس وينزل إلى الصالون لاستقبال هند ويدخل عليه الخادم ويناوله ورقة من سامي إليه ينبئه أنه ذاهب على عجل لزيارة مريض ويرجوه عدم مغادرة الدار قبل عودته ولم يدر سامي أن فؤاداً متسمر في الدار ينتظر قدوم الحبيب الموعود.
ويعلن الخادم وصول هند فيهرع فؤاد لاستقبالها.. وتدخل فتجلس على أحد المقاعد ويشعل فؤاد سيجارتها ويدق الجرس فيأتي الخادم فيسألها فؤاد ماذا تحب أن تشرب فتطلب قهوة وينصرف الخادم لشأنه فيخاطبها فؤاد قائلاً:
كم أنا سعيد ومسرور بهذه الزيارة اللطيفة وجزى الله الأسباب خيراً.
صدقني أن الزيارة لك ولسامي.
ويشرق البشر جالياً في وجه فؤاد فيقول:
شكراً جزيلاً على تكرمك بالزيارة. وتهانيَّ القلبية على حفلتك الساهرة أمس تلك الحفلة التي ستبقى حديث الناس للسنوات القادمة..
وتجيبه هند ضاحكة:
إنك تثير غروري بتحيات المجاملة.. شكراً على تهانيك.. قل لي.. أين سامي..
ذهب لعيادة مريض وسيعود حالاً للإشراف على تحميل أدوات مختبره..
ألا يحتاج إلى أية مساعدة مني ولو في التحميل مثلاً..
ويجيب فؤاد ضاحكاً:
أنت تعلمين أن سامي حريص جداً على أدوات أجهزة معمله. إنه يحب أن يتولى بنفسه توضيبها وترتيبها بدون مشاركة أحد إنه لم يمكني أنا زميله وصديقه من مساعدته في أي شيء..
وتغير هند مجرى الحديث فتقول:
ـ هل قرأت جرائد هذا الصباح..
ـ لم اقرأها بعد.. وماذا بها..
ـ لقد ذكرت كلها خبر سفر سلوى وجلال إلى أوروبا لقضاء شهر العسل.
ويجيب فؤاد بتكلف ظاهر:
أرجو لسلوى حياة سعيدة مع من اختارت.
ويعود سامي ويدخل إلى الصالون فيرى هنداً وفؤاد فيقول:
ـ بونجور مدموزيل هند.. بونجور فؤاد.. زيارة لطيفة.. ومفاجأة سارة كانت حفلتك البارحة رائعة جداً.. هائلة. كلها ذوق.. كلها متعة وسرور.. أهنئك من كل قلبي.. وأتمنى أن أهنئك بالساعة السعيدة.. التي تترقبها كل فتاة مثقفة مهذبة عاقلة مدركة مثلك.
ويجلس بينما هند تقول:
ـ أخجلتني يا دكتور - حتى أن لساني ليعجز عن شكرك على هذا التقريظ.
ـ العفو يا آنسة.. ها.. قولي لي.. هل هناك من خدمة أستطيع أنا وفؤاد تقديمها:
وتجيب هند:
ـ علمت بعزمك الرحيل إلى الريف فأتيت لمساعدتك لعلمي أن النساء اقدر على القيام بهذه المهمة من الرجال. ولو أن البركة في والدتك.. ولكني علمت أنها تسكن داركم في الريف منذ مدة للإشراف على إدارة أراضيكم الزراعية..
ـ هذا لطف وكرم منك يا هند.. لقد حزمنا كل شيء والحمالون ينقلون الآن.. على كل حال أنا شاكر يا مدموزيل.. وتلتفت هند إلى فؤاد قائلة:
ـ فؤاد: ألم يكن بوسعك إقناع الدكتور بعدم الرحيل في الوقت الحاضر على الأقل..
ويجيب سامي مستغرباً:
ولماذا يا هند..
أخشى أن يفسر الناس رحيلك على عدم تحملك البقاء هنا بعد زواج سلوى.. ورحيلك هذا يناقض ما تحليت به البارحة من متانة أعصاب وروح رياضية عالية كانت حديث الحاضرين والحاضرات..
ويقاطعها سامي متمثلاً:
ما لي وللناس لم يلحونني سفها
ديني لنفسي ودين الناس للناس
ثم يخاطب فؤاد قائلاً:
فؤاد هل تسمح لي بالتحدث إلى هند على انفراد..
وينسحب فؤاد قائلاً:
بكل سرور..
وبدون أية مقدمات يقول سامي لهند:
هند اسمحي لي أن أرفع الكلفة بيننا وأن أخاطبك بدون أية ألقاب أو مراوغة أو مفاجأة.. وأرجو أن تجيبيني بصراحة وشجاعة كما تقضي به الروح الرياضية التي تتحلين بها.
ـ تفضل سامي.
ـ هند أنا أعرف لماذا أتيت هذا الصباح.. وماذا تهدفين من وراء هذه الزيارة..
وتسكت هند وقد أذهلتها المفاجأة.. فيقول سامي:
أأستمر في كلامي أم أقف حيث انتهيت:
قل بربك فإني أشعر أني سأكون صريحة معك بكل ما في هذه الكلمة من معنى..
ـ أتيت يا هند تجسين نبضي بعد زواج سلوى..
فاسمعي: لقد آليت على نفسي ألا أحب أحداً بعد سلوى وأن أبقى على هذا العهد حتى يختارني المولى إلى جواره فأرجوك وألح في رجائي بأن تطرحي جانباً كل تفكير فيَّ وأن تنظري إلى مستقبلك فأنت ما زلت في ربيع العمر وريق الصبا والشباب والراغبون فيك كثيرون.. ونصيحتي لك إن كنت على استعداد لقبولها أن تفكري في فؤاد كما يفكر فيك فهو كفؤ لك وأنت أهل له..
ويستيقظ ضمير هند من طول سباته وينبعث من مرقده فإذا بها تنخرط في البكاء فتنشج نشيج الثكالى.. وتعول عويل الأيامي وإذ بالموقف يفاجأ سامي ويذهله وإذا به ينهض فيمسك بيدها ويجس نبضها وهي تهتزَّ وترتعش بين يديه كالعصفور بللَّه القطر وإذا به يسألها وقد أخذه الموقف:
هند.. هند.. ما بك يا هند.. أتشعرين بأيّ ألم.. قولي بالله.. هل جرحتك بكلامي.. هل أساءك تعبيري.. إني أستمحيك العفو عن كل ما صدر مني.. تكلمي هند.. أأدعو فؤاد..
وتثوب هند إلى نفسها.. وتكفكف عبراتها.. وتقول وصدرها يعلو ويهبط وكلامها ينضح بالتوبة والندم:
سامي لا تدع أحداً إنني بخير.. لقد وعدتك أن أكون صريحة معك.. وها أنذا عند وعدي لك فقد آن لي أن أستجيب لنداء الضمير.. سامي لقد أكبرت فيك أنا وغيري تضحيتك ونكرانك لذاتك أمس فقد سموت في مثاليتك وبلغت أعلى مراتبها وستظل حديث الأجيال المقبلة.. وعليَّ عهد الله أن أطرح جانباً ما كنت أهدف إليه منك وأنَّى لإنسانة مثلي أن ترتفع إلى درجة مثاليتك وسأظل أنظر إليك نظرتي إلى ملاك رحيم..
تم تعتدل في جلستها وتستمر قائلة:
وإذا كنت قد أوفيتك وعدي لك بالمصارحة التامة من دون ريب أو تزييف فإن لي أكثر من رجاء آمل أن تلبيه..
ويقاطعها سامي وقد هدأ روعه قائلاً:
ـ وما هو..
وتدني هند كرسيها من كرسيه حتى لتكاد تلاصقه ثم تقول:
ـ هل تقسم بألا تطلع الدكتور فؤاد أو أي أحد غيره على ما جرى بيني وبينك في الماضي والحاضر..
ـ أقسم بالله العظيم أن أكتم ما جرى بيني وبينك في الماضي والحاضر.
ـ وأن تعفو عن أية إساءة مني إليك سواء أطلعت عليها أم لم تطلع..
ـ لك ما تقولين لقد عفوت عن أي شيء صدر منك ضدي سواء أطلعت عليه أم لم أطلع..
ـ وأن تعتبرني أختاً لك بكل ما في هذه الكلمة من معنى سام.
ـ يا أختي هند ستكونين عندي أغلى وأعز من أختي التي افتقدتها وحرمت من عطفها.
ـ حسناً ما دمت اتخذتك أخاً لي فقد أصبح لك حق الولاية علي بعد أن افتقدت أبي وأخي في حرب فلسطين. وإنّي منذ هذه الدقيقة تحت تصرفك ولن أعصي لك أمراً.
وتغمر عيني سامي دموع الفرح فتقترب هند منه تكفكف دموعه وتسأله:
ـ لم تبك يا أخي..
ـ أبكي من فرحي لقد عوض الله بك كل شيء فقدت يا أختي..
ما أعذب هذه الكلمة وأحلاها على قلبي..
ثم يسرع ويفتح الباب ويدعو:
ـ فؤاد.. فؤاد تعالى..
ويدخل فؤاد قائلاً:
ـ لقد طالت الخلوة.. لعلَّ لي فيها نصيب..
ويجيبه سامي:
ـ لقد كنا نتحدث عنك..
ـ لا شك أنكما (آجرتما) فيَّ..
ويضحكون جميعاً.. ثم يلتفت سامي لفؤاد قائلاً:
اسمع يا فؤاد.. أريد أن أعرفك بهند الجديدة فقد أصبحت أختاً لي وأعز من أختي..
ويجيب فؤاد مندهشاً:
تشرفنا.. مبروك..
ويسكت قليلاً ثم لا يلبث أن يقول:
أتهزءان بي..
وترد هند قائلة:
استغفر الله يا فؤاد.. صدقني لقد اتخذت سامي أخاً لي بكل ما في هذه الكلمة من معنى ومبنى..
عظيم.. وإذا كان حقاً ما تقولين. فمعنى هذا أنك لا ترفضين أي شيء يراه خيراً لك..
بكل تأكيد.
وبحركة مضحكة يزرر فؤاد جاكتته ويصلح رباط عنقه ثم يتقدم من سامي قائلاً:
سيدي الدكتور العظيم.. يسعدني أن أنال شرف القربى منك.. فأطلب يد هند وقد أصبحت أخاً لها وولياً..
ويلتفت سامي إلى هند قائلاً:
ما رأيك يا أختي..
وتجيب هند باستحياء:
أقبل من تقبل وأرفض من ترفض.
يا أختي أنا لا أريد أن امتدح فؤاداً في وجهه وأمامك لأني أعتقد أن المدة التي تعرفت فيها بفؤاد كانت كافية لك لتطلعي على دخيلته وحقيقته.. وما دمت علقت مسألة القبول عليَّ فأنا من جهتي أقبل والرأي الأول والأخير لك.
وتغضي هند رأسها خجلاً وتقول وهي تتلعثم:
وأنا.. قبلت..
مبروك يا فؤاد.. مبروك يا هند..
ويجيب فؤاد:
ربنا يبارك لنا فيك..
ثم يسرع فيقبل سامي والدنيا لا تسع أفراحه وسروره.
ويقترب سامي من هند ويشد على يدها قائلاً:
أكرر تهنئتي لك ولفؤاد وأرجو لكما حياة عائلية سعيدة ومستقبلاً حافلاً بالسعادة والرفاهية.. والآن دعونا نذهب لنرى ما تم بشأن التحميل.
أما سلوى فقضت شهر العسل الأول مع جلال في زيارات لأجمل مدن أوروبا وفي مطلع الشهر الثاني حطا رحالهما في الريفييرا ليستمتعا بجمالها وجوها اللطيف وهنا بدأ جلال يتغيب وينتحل لتأخره أعذاراً بعضها سليم وبعضها واه.. وكانت سلوى ذات القلب الطيب تتقبل أعذاره، إنها لم تدر أن كباريهات الريفييرا وموائد مونت كارلو الخضراء قد أهاجت في نفس جلال حباً قديماً وذكريات له فيها لا تنسى.. فإذا بعواطفه الحبيسة تنطلق من اسارها فتقبل بنهم وشغف على ارتياد هذه الأماكن.
وإذا بجلال يعود إلى سابق إدمانه من سكر وعربدة وقمار وإذا به وقد أشبع رغبته في شهر العسل الأول ينغمس بلا وعي وشعور في مراقص علب الليل وحاناتها وإذا به يجد بقايا من زملائه القدامى فيلتفون حوله وقد رأوا جيبه منتفخاً عامراً بالمال. لقد سلمته سلوى عن طيبة قلب وخاطر جميع ما لديها من مال.. ولم لا أليس زوجها؟!.
ألم يصبحا الآن روحاً واحدة وجسداً واحداً وقلباً واحداً إن ما لها ماله وحالها حاله فلماذا تخشى عنه ما تملك بهذا المنطلق وضعت سلوى بيدها مركزها في بيت الزوجية وبنت سياستها على هذه القواعد ورسمت خططها على ضوء هذا الاتجاه في التفكير..
وجلال نفسه طفق يحس بعد زواجه من سلوى أن ثروتها وثروة أبيها أصبحت ملكاً له فلماذا لا يغترف من ثروته ما يشاء وينفق عن سعة مطمئناً إلى أنه ليس هناك من يحاسبه أو يسائله.
ولما كثر تغيب جلال بدأت سلوى تحس أن في الجو شيئاً غير عادي وأن الأمور تجري في عكس ما رسمت وقدرت وأن وراء الأكمة ما وراءها فساورتها الريب والظنون.. ولكنها كانت تتغلب عليها وتصرعها بمنطقها البريء. إلى أن جاءها جلال ذات ليلة مخموراً يتوكأ على سواعد اثنين من خدم الفندق.
فأذهلت سلوى المفاجأة وعقدت لسانها ولم تنم تلك الليلة وهي تفكر في الواقع المؤلم الذي بدأت تعيشه..
وعندما أفاق جلال من سكرته رآها جالسة على أحد المقاعد برداء النوم.. وعيناها مخمرتان كالجمر من السهر والبكاء فراح يصلح غلطته ويدمل جراح فعلته وقد استطاع بأسلوبه المرن ودهائه المولد أن يجبر الصدع ويرتق الفتق فاستجابت سلوى أخيراً لتوسلاته ووعوده وعادت حياتها تنتظم مسيرتها الأولى ولكن نقطة سوداء بدأت تتمركز في سويداء قلبها النقي فلم تستطع دموع التماسيح المنهمرة من عيني جلال أن تمحوها..
وسار جلال في الأيام التي تلت هذا الحادث سير الزوج المثالي وكاد بعمله هذا أن يزيل ما علق بفؤاد سلوى الطاهر غير أن المكالمات الهاتفية التي كان يتلقاها من رجل اسمه جاك وكان يكلفها بأن ترد عليها في كل مرة بأنه غير موجود أثارت في نفسها الشبهات والوساوس وكلما سألت جلالاً عن ((جاك)) هذا وعن سبب مكالماته المتصلة انتحل اسباباً ولفق أعذاراً لم تقتنع سلوى بجملتها..
وبصر جلال بسحب شك وريب توشك أن تتلبد ثانية في سماء حبهما فصمم على أن يضع حداً لهذه المسالة.. يجب عليه أن يسدد المبلغ الذي استدانه من جاك على المائدة الخضراء.. قبل أن يفتضح أمره.. قبل أن تهب العاصفة فتهدم صروح آماله وأحلامه.. ولكن من أين يحصل على المال.. وكيف.. خاصة وأن مبلغ الدين كبير جداً.. سيل من التفكير سال في مخيلته وجرى في عقله وأخيراً.. اهتدى إلى أنه يجب أن يداوي الداء بالتي كانت هي الداء.. يجب أن يجرب حظه مرة ثانية على المائدة الخضراء بأي مبلغ.. ولو كان ضئيلاً.. ولكن حتى هذا المبلغ البسيط من أين يجده.. إن معارفه في هذا البلد من حثالة القوم ونفايات علب الليل ليس فيهم من يستطيع أن يتدبر ما يتبلغ به إلا بشق الأنفس فممن يستدين لقد تعقدت الأمور وسدت في وجهه السبل وبينما هو غارق في بحرها التمع في خاطره بريق فكرة جهنمية.. لماذا لا يسرق عقد سلوى الماسي ويرهنه ويقامر بمبلغ الرهان..
وفي غفلة من سلوى.. سرق جلال العقد ورهنه عند مرابي اسمه ((شرتوك)) ثم اتصل بجاك وذهبا معاً إلى قاعة القمار ولعب فربح أولاً وثانياً فسدد ما عليه من دين لجاك وكان ما تبقى لديه من مال كافياً لفك العقد المرهون.. غير أن آفة القمار التي تنخر نفسه كما ينخر السوس الخشب.. أغرته على متابعة اللهب فقامر فخسر جميع ما تبقى لديه وتطلع إلى جاك ليسعفه فأبى هذا أن يلبي طلبه بل ولاه ظهره وانصرف لشأنه فعزت على جلال نفسه فهاتف المرابي شرتوك فحضر هذا ومعه المبلغ الذي طلبه جلال.
وعاد جلال إلى مقعده على المائدة الخضراء فلعب وخسر أيضاً وكان ما خسره في هذه المرة مبلغاً ضخماً فترك المائدة وتحامل على نفسه وجلس إلى إحدى الموائد المنتثرة في أبهاء القاعة وبجانبه شرتوك ينتظر مصير القرض فطمأنه جلال بما أحذقه في هذا النوع من الإقناع فانفرجت أسارير وجه المرابي أما جلال فكان يفكر بانهماك ظاهر في إيجاد حل للخروج من هذه الورطة الجديدة والدائن أمامه كالشبح المرعب كلما تطلع إليه كلما ازدادت أعصاب جلال شداً وتوتراً.
فلجأ إلى الشُّرب عسى أن يجد فيه ما يهدىء قلقه ويعينه على تفكيره ففتش في جيوبه فعثر على بقايا جنيهات كافية لإشباع رغبته فشرب حتى ثمل ثم قام مع المرابي وأتخذا طريقهما إلى الفندق فوصلاه وقد شقشق الفجر..
وفتح جلال باب غرفته بالمفتاح الذي معه ودلف إلى داخلها وطلب إلى شرتوك أن يتتبعه فتبعه وصحت سلوى فزعة من الضجيج الذي أحدثه دخولهما ثم نهضت بسرعة وارتدت روبها وإذ بها ترى جلالاً والشرر يتطاير من عينيه ورائحة الخمر تفوح قوية من بين شفتيه فارتاعت وتسمرت في مكانها وقلبها ينبض بشدة وصدرها يعلو ويهبط من شدة الهلع والخوف ثم لم تلبث أن استردت أنفاسها وشجاعتها حين بصرت برجل غريب فإذا بها تصرخ في وجه جلال قائلة:
كيف تدخل هذا الرجل الغريب عليَّ في هذه الساعة المتأخرة من الليل وأنا بهذه الحال..
ثم التفتت إلى الرجل الغريب قائلة بنفس اللهجة:
وأنت يا أيها الرجل.. كيف سمحت لنفسك بالدخول من دون استئذان.
فأحنى شرتوك رأسه احتراماً وقال بأدب جم:
سيدتي.. لقد سمح لي زوجك بالدخول.. ولولا ذلك ما تجرأت فاستميحك العفو وإني انسحب..
وأدار ظهره ليخرج.. فأشارت إليه سلوى أن يبقى ثم تطلعت إلى زوجها وقالت بتهكم ظاهر:
وماذا يبغي هذا الغريب يا أيها الزوج المحترم جداً..
فتطلع إليها جلال شزراً أو بطرف عينه على الوجه الأصح وقال وقد بلغ به السكر أشده:
سليه أنت..
فصرخت سلوى محتدة:
ولم لا تنطق أنت..
أأخرسك الخزي أم ألجمك السم الذي (طفحته)..
فقاطعها جلال غاضباً وقال والكلام يتعثر في فمه لفرط سكره وأمائر الشر تتراقص في عينه:
اخرسي.. أنت.. يا قليلة.. الأ.د.ب.. أنا.. أنا.. زوجك.. وهمّ أن يضربها لولا أنها تراجعت بسرعة وتدخل شرتوك فأمسك بتلابيب جلال وأجلسه على أحد المقاعد
وجلس هو بجانبه.. وجلست سلوى على مقعد مقابل وقد أذهلها الموقف وأعشى عينيها وقطع المرابي شرتوك هذا السكون الذي خيم عليهم بعد تلك العاصفة بقوله:
أكرر رجائي يا سيدتي بأن تصفحي عن دخولي عليك بهذه الحال وبالنظر إلى أن زوجك متعب الآن فإني أرجىء الحديث عن المهمة التي قدمت من أجلها إلى وقت آخر أترك لك تحديده..
ونهض ليخرج.. فشده جلال إليه ومنعه.. وقال بصوت متهدج.. متقطع..
يجب.. أن تقول.. لها.. كل.. شيء..
وأفاقت سلوى من ذهولها.. وطلبت هي أيضاً إلى شرتوك أن يشرح المهمة التي جاء من أجلها فنزل المرابي عند رغبتهما وسرد لسلوى القصة بحذافيرها وأفهمها أن مبلغ الدين المطلوب من زوجها هو مائة وخمسون ألف فرنك.. ثم أخرج العقد من جيبه ووضعه على المنضدة.. فجن جنون سلوى ونهضت وهي تنتفض واقتربت من جلال وهي تقول بشدة وقسوة:
هل بلغت بك الجرأة إلى حد السرقة.. هل وصل بك ولع القمار إلى اللصوصية يا للمصيبة.. يا للفضيحة.. لقد خدعتني وغررت بي.. يا سافل.. يا منحط. ونهض جلال من مقعده بسرعة خاطفة وهاج كالثور في حلبة المصارعة فصفع سلوى في وجهها ورمى بها أرضاً وطفق يركلها بقدميه ويقول والزبد يتناثر من بين شدقيه:
يجب أن تعرفي أن لصبري حداً.. يجب أن تعلمي إنني زوجك وأن عليك احترامي لا إهانتي.. لقد تحمَّلت كثيراً.. ولم يبق في قوس التجمل منزع.. واستطاع المرابي شرتوك.. بعد صراع عنيف تمزقت فيه سترته وربطة عنقه أن يبعد جلالاً عن سلوى فقد كاد يقضي عليها وهو يركلها بلا وعي وبلا تعور.. بينا هي مطروحة على وجهها أرضاً تتقبل تلك الضربات وذلك الركل من دون أن يصدر عنها أي توجع أو تألم أو دفاع عن النفس..
ولما ابتعد جلال عنها.. نهضت وجلست على أحد المقاعد والدموع تنهمر من عينيها مدراراً وجلال يتوعد ويهدر ويزأر كالأسد وهو يرى فريسته صرعى تحت أقدامه والمرابي شرتوك يحاول تهدئة الموقف بكل ما لديه من جهد وطاقة وأخيراً رأت سلوى أن الموقف سيتعقد أكثر وأن الضجيج المستمر سيبعث بمتفرجين جدد من سكان الفندق خاصة وقد طلع الصبح وبدأت الحركة في الشوارع فقامت إلى خزانتها وأخرجت ما تبقى لديها من حلى ومجوهرات وأعطتها لشرتوك قائلة والعبرات تخنق كلامها:
خذ هذه الحلى والمجوهرات بالإضافة إلى العقد رهينة لديك ريثما نتدبر لك دينك في خلال عشرة أيام على أسوأ الاحتمالات وسأعطيك الآن برقية أرجو أن تبرقها حالاً فسألها جلال قائلاً:
وماذا ستكتبين في هذه البرقية.. قولي.. أنطقي.. وإلا خمدت أنفاسك.. فأجابت وقد تجمدت الدموع في عينيها وتحجرت:
سأطلب من والدي أن يحول برقياً القيمة التي استدنتها..
ويرد جلال عليها بلهجة الأمر الناهي:
أطلبي من أبيك ضعف هذه القيمة لكي نسدد فاتورة الفندق والنفقات الأخرى غير المنظورة.
وتضغط سلوى على أعصابها إن كانت لديها أعصاب تقول:
حاضر.. أمرك.. يا سيدي..
ثم تجلس إلى إحدى المناضد وتكتب البرقية وتسلمها للمرابي ويسلمها هو بطاقته وبها رقم تلفون مكتبه ومنزله ويخرج حاملاً الحلي والمجوهرات وبعد ذهابه يرتمي جلال على فراشه وينام بملابسه من حدة الإعياء والتعب والسكر..
أما سلوى فبعد أن اطمأنت على استغراق جلال في نومه جلست إلى إحدى المناضد وأخرجت دفتر مذكراتها وبدأت تدون وتتلو ما تكتب بصوت خفيض ((ها أنذا أصحو على نذير الكارثة ومعولي في يدي لأدفن أشلاء أحلامي وآمالي وقد نحرتها على مذبح الحقيقة المرة ولأشهد بأم عيني ما قرأته من نظريات وفلسفات ينصهر في بوتقة تجارب الحياة ثم يتبخر ولا يترك أثراً.. صحوت لأرى جلالاً في ثوبه الحقيقي وقد ظهر منه ما أخفاه وأبطنه.. رأيت ثراءه المزيف بالأمس فقره الحقيقي اليوم رأيت تنكبه عن مجالس اللهو والشراء تهافته اليوم على موائد الخمر والميسر رأيته وهنا الطامة الكبرى (تبكي) يسرق حلي ويرهنها ويقامر بما أرتهن فيخسر فيسير إليَّ كالمجنون يصفعني ويركلني بقدمه حتى ليكاد يقتلني لولا أن كان معنا المرابي شرتوك.. وهكذا رأيتني خوفاً على حياتي وخوف الفضيحة في هذا البلد الغريب لا أهل ولا قريب ولا معين ولا مستجيب رأيتني اضطر فأبرق لوالدي بأن يحول ثلاثمائة ألف فرنك لنسدد دين جلال.. أجل هذا هو اقل ما أستحقه جزاء على جريمتي.. لقد ضيعت سامي ذلك الملاك.. الرحيم لأستبدل به هذا الشيطان الرجيم.. فإليَّ.. إليَّ أيتها الآلام علّي أكفّر عما ارتكبت من آثام)).
ثم تطوي مذكراتها وتضعها في مكان أمين وتدخل سريرها وتنام وقد بلغ بها اليأس أشده واليأس إحدى الراحتين كما يقولون..
ونترك سلوى تتجرع كؤوس العذاب الذي اختارته بنفسها وسعت إليه بظلفها لترى سامي يغط في نومه ويتحرك حركات تدل على أنه يحلم فماذا يرى..
((يرى أنه جالس في صالون داره سابح في أفكاره وتخيلاته ولم يشعر إلا بالباب يفتح وتدخل سلوى حزينة باكية متشحة بالسواد فينهض للقائها قائلاً:
((سلوى حبيبتي ماذا دهاك ما الذي أحزنك قولي بربك وإذا بها تترنح على صدره تشهق قائلة والدموع تغمر محياها:
((ذنبك يا سامي.. جنايتي عليك سبب كل هذه الآلام والأحزان.. أعف عني أرحمني..)) ويجيبها سامي:
((لقد سامحتك يا حبيبتي فقلب المحب المخلص لا يحمل الحقد ولا الغضب وجل ما أتمناه هو سعادتك وهناؤك.. وأنت اخترت طريقك وعليَّ أن أرضى بما ارتضيت فترفع رأسها عن صدره وتتلاقى عيونهما: عيناها المبللتان بالدموع وعيناه المتسعتان حباً وشفقة وحناناً ليقبلها وتقبله طويلاً)).
ويصحو سامي من حلمه وهو يتلمظ شفتيه ويقول:
اللَّهم اجعله خيراً لا شك أن سلوى في ضائقة.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
ثم يتطلع سامي إلى ساعته فيجد أن صلاة الصبح قد حانت فينهض ويتوضأ ويصلي ثم يتناول المصحف ويتلو ما تيسر من سوره وبعد ذلك يتضرع إلى الله في خشية وخشوع ويبكي وهو يدعو بحرقة وحرارة مبتهلاً إلى ربه أن يحرس من أحب بعين عنايته التي لا تنام.
ويعود سامي إلى فراشه وجيش لجب من الأفكار يزحم خياله وسحب من القلق تحجب سماوات أفكاره ولم يستطع النوم فيقوم ويرتدي ملابسه وينزل إلى الصالون ويطلب من خادمه القهوة وجرائد الصباح وبينما كان يتصفحها يفتح باب الصالون وإذا بهند وفؤاد يدخلان قائلين معاً:
صباح الخير دكتور سامي.
صباح الخير يا هند.. صباح الخير دكتور فؤاد.
ويهرع لاستقبالهما بالأحضان فيقبل هند وفؤاد وهو يقول:
يا مرحبا يا مرحبا بالعريسين تفضلا وأجلسا.. الحمد لله على السلامة كان يجب أن تخبراني بعودتكما من شهر العسل..
وتجيب هند:
لقد أردنا المفاجأة يا أخي..
يا لها من مفاجأة سارة وسعيدة..
ويقول فؤاد:
وجودك وعطفك الدائم علينا هو مصدر سرورنا وسعادتنا..
قل لي يا دكتور.. عسى أن كل شيء يجري حسب الخطة المرسومة..
ويقول سامي: كل شيء - لله الحمد.. - حتى الآن على ما يرام. وتجربة المصل تجري تحت إشراف مندوبين من وزارة الصحة.. والنتائج الأولية للتجربة تبشر بالخير وتنفرج أسارير هند فتقول:
الحمد لله.. الحمد لله.. مبروك يا أخي.. ألف مبروك..
ويقول فؤاد والفرحة ترفرف في محياه:
حقق الله آمالك يا دكتور وكتب لك النجاح في كل خطواتك.
ويجيب سامي:
إنك شريكي في هذا النجاح فلولا جهودك الصادقة ما وصلت إلى ما وصلت.
العفو يا دكتور.
ثم يلتفت سامي إلى هند قائلاً:
لقد صحوتما مبكرين ولا شك أنكما لم تجدا الوقت الكافي للإفطار هيا بنا.. فالإفطار جاهز..
وبينما هم يفطرون يصر سامي على أن يستضيفهما في داره بضعة أيام فيعتذران بانشغالهما بترتيب منزل الزوجية الجديد ليكون مهيئاً لاستقبال المهنئين على أنهما نزولاً عند رغبته وإلحاحه يقضيان ليلة واحدة في ضيافته ثم يعودان إلى مكان إقامتهما.
ووصلت برقية سلوى إلى مكتب أبيها ففضها السكرتير الخاص وقرأها واحتار في إيجاد الطريقة السليمة لإبلاغ محتوياتها إلى والد سلوى. إنه مريض.. يرقد في فراشه منذ أسبوع أثر إصابته بمرض من أمراض الشيخوخة وأن الدكتور المداوي أوصى بالحرص على عدم إزعاجه أو تبليغه ما يكدر أو يثير أعصابه لأنه بحاجة إلى الراحة التامة ولكن البرقية هامة ومستعجلة وأخيراً هداه تفكيره إلى عرض الموضوع على والدة سلوى لتتصرف فيه كما ترى وبذلك يرفع عن نفسه عبء المسؤولية وفعلاً طلب مقابلتها وعرض البرقية عليها فصعقت وضربت كفاً على كف كعادتها في كل أمر جلل ولم تلبث الرعونة التي تتحلى بها أن سيطرت عليها فأفقدتها توازنها فذهبت بالبرقية إلى الباشا وتلتها عليه فانفعل هو الآخر واحتقن وجهه وانتابه سعال شديد متقطع لم تهدأ حدته إلا على إسعافات الدكتور المداوي منصور الذي حضر لحسن الحظ في الوقت المناسب وبعد ان استراح والد سلوى من الأزمة التي حدثت له دعا إليه سكرتيره الخاص وأمره بأن يحول المبلغ المطلوب برقياً وزيادة عليه وأن يطلب إلى سلوى وجلال العودة حالاً ويصدع السكرتير بما يؤمر..
وبعد ذهابه وخروج الدكتور المداوي يلتفت الباشا إلى زوجته قائلاً:
لا شك أن سلوى وزوجها في ضائقة شديدة أو أن خلافاً نشب بينهما.
ربما لأنه من المستغرب جداً طلب سلوى هذا المبلغ الضخم منك أين أموال جلال وأملاكه التي كان يتحجج بوجودها في أوروبا يظهر أن كلامه كله كذب في كذب.. مسكينة يا بنيتي.. يا سلوى.. كيف حالك في ذلك البلد البعيد حيث لا صديق ولا قريب..
وتمسح دمعة ظفرت من عينيها فيقاطعها زوجها قائلاً:
ولماذا الاستعجال في الحكم.. والغائب حجته معه كما يقولون.. لا بد أن في الأمر سراً ربنا يجعله خيراً..
وتدخل الممرضة ((لولى)) فتعطي الباشا الدواء من عصير الليمون وبعد أن يشربه يلتفت إلى زوجته قائلاً:
اتركي الأمر يا زينب لصاحب الأمر.
ثم يتزحلق على سريره ويخلو للراحة فيغلب عليه النعاس وتنصرف زوجته لشأنها وتبقى الممرضة على أحد المقاعد وبيدها مجلة تقطع الوقت بقراءتها:
وحاول جلال أن يرأب الصدع ويداوي الجراح النازفة بكل ما لديه من وسائل وخطط وحيل بيد أن محاولاته جميعاً ذهبت سدى فقلب سلوى الأبيض النقي الناصع أسود من فعلته ولم يعد فيه موضع لصفح أو غفران لقد أصبحت تمقت جلالاً وتحتقره تبغضه وتكرهه ولكنها لا تجرؤ على مصارحته بما يعتمل في نفسها.. إنها تخشاه وترهبه تخشى تكرر حادث أمس القريب وترهب تلكم الوحشية التي تلبسها جلال ليلتئذ أنها ترتجف فرقاً وهلعاً كلما تذكرت الحادث المشؤوم أنها تداري موقفها منه فتظهر خلاف ما تبطن وتترقب على أحر من الجمر وصول التحويل المالي لتسديد الدين الذي وعدت بتسديده ولتدفع فاتورة الفندق العديدة الصفحات والأرقام.. أنها تطلب من ربها العون على اجتياز هذا الموقف الدقيق والنجاة في هذا البلد الغريب..
ويأتي الفرج فيصل التحويل المالي كما طلبت وأزيد فتسدد دين المرائي وتستعيد حليها ومجوهراتها وتدفع فاتورة الفندق وتعطي جلال المبلغ الذي يريده.. لتسديد ديون أخرى لا تعرفها بل أصبح لا يهمها أن تعرفها إنما يهمها الآن هو الحجز في أول طائرة تطلع صوب وطنها والإبراق لوالديها بموعد وصولها..
واستقلت سلوى وجلال الطائرة في طريقهما إلى الوطن وكانت سلوى متجهمة الوجه قلقة النفس طيلة هذه الرحلة.. تطل الفينة بعد الفينة من شباك الطائرة متمنية أن لو كانت للطائرة سرعة الصواريخ الموجهة ولم تخلص من قلقها نسبياً إلا عندما أعلنت المضيفة أن الطائرة ستهبط بعد خمس دقائق ولما درجت الطائرة على أرض المطار واستقرت في المكان المخصص لها انفرجت أسارير وجه سلوى وعادت الطمأنينة إلى قلبها وزوجها..
ونزلت سلوى وزوجها فبصرت بوالدتها وبعض المعارف في استقبالها بساحة المطار واربد وجهها عندما لم تر أباها بينهم ولم تصدق أنتهاء اجراءات.. الجوازات والجمارك حتى هرعت إلى والدتها وارتمت على صدرها تبلل خديها وصدرها بدموعها وتسألها عن أبيها ولما أخبرتها بوعكته البسيطة انطلقت سلوى بسرعة صوب السيارة - بعد أن حيت مستقبليها وشكرتهم على تحملهم مشقة استقبالها - ولحقت بها والدتها وجلال.
ودخلت سلوى على والدها وانحنت تقبل يديه ووجنتيه وهو يحتضنها ويقبلها ويدعو لها ويقول:
الحمد لله الذي أبقاني حتى أراك يا بنيتي.. لقد خفت أن ألقى المنية وأنت بعيدة عني..
وتجيبه سلوى:
لا قدر الله أنت بخير يا أبتاه..
ثم يمد الباشا يده إلى جلال فيقبلها ويقول:
لا بأس عليك يا عماه..
أشكرك يا بني..
ويجلسان على مقعدين قريبين منه فيسألهما:
إن شاء الله كانت رحلتكما موفقة..
ويقاطعه جلال:
كانت جميلة وممتعة يا عماه..
وتمتعض سلوى من نفاقه وكذبه وتنظر إليه نظرة لا يعرف معناها أحد سواه حتى الآن.. ولكن جلال لا يكترث بل يستمر في كذبه قائلاً..:
لقد انفقنا بحساب وبدون حساب حتى نفد ما لدينا فاضطررنا للإستنجاد بك ربنا لا يحرمنا منك يا عماه...
ويضيق صدر والدة سلوى بكلامه فتقول بكلام لاذع:
وأنفقت حتى واردات أملاكك في أوروبا ورصيدك في بنوكها..
ويقطع سليم باشا حديث زوجته قائلاً:
بسيطة يا زينب الحال واحد.
وترتاح سلوى إلى قنبلة أمها وترى فيها بداية حسنة وتمهيداً فنياً للمعركة المقبلة ويرتاح جلال إلى جواب عمه ويرى فيه الفرصة للتفكير في تكتيك جديد يسترجع به قواعده في قلب سلوى وأمها..
ويتطلع والد سلوى إلى زوجته وابنته من جهة وإلى ابن أخيه من جهة أخرى فيدرك - بسرعة - أن في الجو غيماً وإن انقلاب زوجته ضد جلال - بعد أن كانت من أشد أنصاره - ليس مبعثه عداء الحموات التقليدي لأزواج بناتهن فحسب وإنما مرده إلى سر سينكشف له فوراً لو أفسح لمعركة أن تبدأ ولكن ابنته وزوجها قدما الآن من رحلة طويلة وهما لا شك متعبان كما أنه هو نفسه في وضع صحي لا يحتمل رؤية مشاهد مثيرة ولذلك آثر أن يجمد الموقف إلى فرصة أخرى أكثر ملاءمة.. فالتفت إلى جلال وسلوى قائلاً:
لا شك أنكما بحاجة إلى الراحة بعد السفر الطويل.. وقد خصصنا لكما جناحاً في القصر هنا لتسكنا فيه.. ريثما ينتهي ترتيب الفيلا التي استأجرتموها وتجيب سلوى:
أما من جهتي أنا فسابقى بجانبك يا أبتاه حتى لو كانت الفيلا جاهزة.. ويرى جلال أن بقاءه في القصر بجانب سلوى وأمها لن يتيح له الهدوء الذي ينشده ليشحذ أسلحته لعله يجد حلاً للورطة التي تردى فيها وإن سكناه.. بالقصر سيكهرب الجو وسيشل تياره مواهبه الخلاقة والقدرة العجيبة على التخلص من المأزق وإن بعده عن زوجته وحماته سيعجل في كشف خطط المعركة المنتظرة.. وعندها سيقرر نوع السلاح الذي سيستعمله.
مر هذا الفيلم بخاطر جلال في سرعة البرق فإذا به يخاطب عمه:
عماه.. من واجبي أن أبقى بجانبك وأن أسهر على راحتك ولكن الأثاث الذي اشتريناه من إيطاليا وشحناه منذ مدة لا بد أنه وصل..
وتقاطعه سلوى:
ودفعنا بقية ثمنه من التحويل الذي أرسلته يا أبتاه..
ويصطنع جلال الهدوء على مضض فيجيب على تحية زوجته بقوله:
ـ ودفعنا بقية ثمنه كما قالت سلوى من خيرك يا عماه..
وخشية تكسر هذا الأثاث أو تلفه أو سرقته أرجو أن تسمحوا لي بالمبيت في الفيلا...
ثم يرد كيل سلوى بكيل أوفى منه فيقول:
ومع أن هذه الأمور من صميم اختصاص سلوى.. لكني نزولاً عند رغبتها البقاء بجوارك سأتولى ذلك بنفسي يا عماه ويلتفت الباشا إلى ابنته قائلاً:
أنا بخير يا بنيتي فمجيئكما قد سَّرى عني كل الآمي. وليس عندي أي.. مانع من ذهابك مع زوجك لمساعدته في الأمور التي ذكرها..
وتقاطعه زوجته قائلة.. بانفعال:
لا.. لا.. يمكن سلوى.. تظل عندي أنا مشتاقة إليها جداً..
ويخاطب جلال امرأة عمه قائلاً:
أنا لا أصر يا سيدتي على ذهاب سلوى معي إنني - على العكس - أرغب في أن تبقى بجانبكما المدة التي تراها مناسبة.. استودعكم الله.. ويذهب جلال.. وتلتفت والدة سلوى إلى ابنتها قائلة:
هيا.. قومي يا بنيتي.. غيري ملابسك وارتاحي من عناء الرحلة الطويلة وسأذهب معك.. لأساعدك وأرى الهدايا التي أوصيت بإحضارها.. ويتدخل والد سلوى في الحديث ويقول وهو يضحك:
لا تنسوا هديتي أنا أيضاً..
وتختلي سلوى بأمها.. فتروي لها قصتها مع جلال من ألفها إلى يائها وتريها آثار الكدمات الباقية شهوداً على خسة جلال ودناءته فيطير صواب.. الأم وهي تتحسس بيديها مواقع الكدمات وتختلط قذائف الشتائم الموجهة منها إلى جلال مع العبرات المهراقة من عينيها وعيني سلوى.
ويصحو ضمير الأم فيؤنبها ويبكتها على تضحيتها بفلذة كبدها على مذبح التقاليد البالية فتغرق في بكائها بلهفة وحرقة تنسي معهما سلوى مصيبتها وتنشغل بالحالة الطارئة فلا تترك في قاموس المواساة كلمة إلا واستعملتها ولا سبيلاً للتهدئة إلا طرقته وأخيراً تهدأ الأم فتضم إلى صدرها ابنتها التي كانت ترتعش خوفاً على أمها أن يصيبها مكروه وتقول:
لا تخافي يا سلوى.. إنني بخير.. لقد كنت أبكي.. ومن حقي أن أبكي بألم على ما أصابك.. ولكن.. ثقي إني سأنتقم من جلال أشد الانتقام والآن.. علينا أن نفكر فيما ينبغي أن نفعل.
ويظهر لنا من مجريات حديثهما أنهما اتفقتا مبدئياً على بقاء سلوى في بيت أبيها ومن ثم السعي على الطلاق ولكنهما اختلفتا على التوقيت أو ساعة الصفر كما يقولون.. وبعد جدل بيزنطي بعضه منطقي وبعضه خارج عنه رأتا تأجيل ساعة الهجوم حتى يتماثل الباشا للشفاء مع اتخاذ كافة الاحتياطات لأية مناورة أو تكتيك يقوم به جلال بكل ما لديهما من حول وطول ولو أدى ذلك إلى ما لا تحمد عقباه.
ويقرأ سامي في الجرائد أن سلوى وزوجها قطعا رحلة شهر العسل وعادا إلى بلدهما بسبب مرض والد سلوى فيستقل سيارته ويذهب إلى دار هند وفؤاد فيجدهما جالسين في الصالون يلعبان النرد (طاولة زهر) فيفرحان بقدومه وينهضان للقائه وتقبل هند أخاها قائلة:
أهلاً وسهلاً بك يا أخي..
ويقبله فؤاد قائلاً:
يا مرحبا.. يا مرحبا..
ويجلسون.. وبعد حديث المجاملة التقليدي يقول سامي:
هل قرأتم جرائد اليوم..
ويجيب فؤاد على عادته من المرح
لا يا سيدي نحن في شغل عنها بشهر العسل الثاني.
وتغضي هند رأسها خجلاً.. ثم لا تلبث أن ترفعه وتتكلم لتقطع استمرار فؤاد في هذا النوع من الحديث فتقول:
وماذا بالجرائد يا أخي الدكتور..
لقد ذكرت أن والد سلوى مريض وأنها وزوجها عادا ليكونا بجانبه.
وتقول هند وقد تبينت لها أسباب زيارة سامي الفجائية:
مسكينة سلوى.. الواجب يقضي بالزيارة فوراً.. إذا كنت ترى يا أخي ذلك..
ويجيب سامي وقد ضربت له هند على الوتر الحساس:
لا ينقصك يا أختي شيء من الكمال ومعرفة الواجب.. إنني في سبيل الواجب يجب أن يتناسى المرء آلامه.. بل كل شيء أحياناً..
ويقول فؤاد:
إنكما تعرفان رأيي من قبل بالنسبة لسلوى وجلال وبالرغم من ذلك فأنا مع الأكثرية..
وتقطع هند الشك باليقين فتقول:
هل تسمحان لي إذن بارتداء ملابس الخروج..
تفضلي..
وفي أثناء انشغال هند بزينتها يسأل فؤاد سامي عن نتائج تجاربه فيخبره..
هذا بالنجاح الباهر الذي تحققه وإنه عما قريب سيعلن على صفحات الجرائد والمجلات خبر هذا الاكتشاف ويرقص فؤاد فرحاً ويقبل سامي قبلات جنونية فيرجوه هذا أن يكتم كل شيء للوقت المناسب.
ودخلت سلوى على أبيها وبعد أن قبلت يديه جلست تقرأ له أهم ما في جرائد الصباح من أخبار سياسية وغير سياسية وبعد أن انتهت من ذلك التفتت إلى أبيها قائلة:
يا بابا لم لم تستدعي الدكتور فؤاد أو الدكتور سامي لمعالجتك..
سامي رحل إلى الريف بعد سفرك مباشرة...
وتتنهد سلوى وتقول:
وفؤاد...
ويجيب الباشا:
كان في شهر العسل و...
وتقول سلوى بلهفة...
مع من يا أبي..
مع هند.. فمنذ تزوجا في الحقيقة يا بنيتي قطعت كل علاقة بيني وبين سامي وفؤاد - بعد زواجك من جلال - حتى إني لم أحضر حفلة زفاف هند بل اكتفيت بإرسال برقية تهنئة..
ولماذا يا أبتاه..
ـ كنت مخجولاً من سامي وفؤاد لتفضيلك الزواج بجلال على سامي.. ولذلك.. حين مرضت استدعيتما الدكتور منصور..
ربنا يجعل على يديه الشفاء..
ثم تردف قائلة:
ألم يعدك سامي أو فؤاد أو هند في مرضك هنا..
لا يا بنيتي.. من أين لهم أن يعرفوا بمرضي.
ـ إنهم لا يتوانون من أداء الواجب.. لو علموا بمرضك لسارعوا إلى زيارتك للغائبين حجتهم وعذرهم.
ـ ويدخل الفراش معلناً وجود هند والدكتورين سامي وفؤاد في الصالون فتنظر سلوى إلى أبيها نظرة لها معناها.. وتقوم إلى المرآة تصلح من هندامها وزينتها والفرحة تنطق من محياها.. أما الباشا فيقول للخادم:
ـ دعهم يدخلون..
وتدخل هند وسامي وفؤاد وخلفهم الخادم يحمل باقة ورد جميلة فيسلمون على المريض ثم يصافحون سلوى ويزجي كل بدوره من العبارات والكلمات التي تناسب المقام ولم تكتف هند بكليشة المجاملات بل عانقت سلوى وقبلتها طويلاً وهي تقول:
الحمد لله على سلامة الوصول.
وتجيبها سلوى:
شكراً وألف مبروك يا حبيبتي..
ثم تلتفت إلى فؤاد قائلة:
ألف مبروك دكتور فؤاد.
ويجيب فؤاد:
شكراً يا هانم.. وألف حمد لله على السلامة...
ويجلسون.. فيستهل سامي الحديث قائلاً:
أرجو عفوك يا سعادة الباشا.. لم أعلم بمرضك إلا عندما قرأت الجرائد هذا اليوم فأسرعت لسؤال الخاطر أما هند وفؤاد فمشغولان بشهر العسل عما يدورو في هذا العالم...
ويضحكون وفي أثناء ذلك يقول والد سلوى:
أتمنى لهند هانم والدكتور فؤاد التوفيق والسعادة الزوجية.
ويرد فؤاد:
ـ أشكر عواطفكم الكريمة وتمنياتكم الطيبة.
وتلتفت سلوى إلى سامي وتقول:
كيف أبحاثك يا دكتور.. عسى أنك وفقت فيما كرست نفسك من أجله...
ويجيب سامي..
أبحاثي تسير - لله الحمد - حسب الخطة المرسومة وستسمعين قريباً ما يسرك وترد سلوى:
أتمنى لك التوفيق من كل قلبي..
أشكرك يا هانم على تمنياتك القلبية الصادقة.
ويتطرق الحديث إلى مواضيع قديمة وحديثة ويمتد ويتشعب فتقطعه هند.. بقولها لسلوى:
أين جلال.. أين والدتك يا سلوى..
جلال ذهب للفيلا التي استأجرناها ليتفقدها.. وماما ذهبت قبل تشريفكم لحضور اجتماع هام لجمعية رعاية الطفولة.. وربما جاءت وأنتم هنا..
وتقول هند:
يسعدنا أن نراها ونرى صهرنا العزيز جلال.. ولكن الدكتور سامي مرتبط بموعد مع نقيب الأطباء ومضطر للعودة إلى الريف بعد الغداء مباشرة ويؤمن سامي على كلامها قائلاً:
لولا هذه المواعيد لانتظرنا بكل سرور مجيء السيدة والدتك وزوجك المحترم..
ثم يلتفت إلى الباشا قائلاً:
والآن.. هل يسمح لنا سيدي الباشا بالذهاب..
وتريد سلوى أن تستبقي الدكتور سامي مدة أطول وأن تزج به في معالجة أبيها لثقتها بتمكنه من مهنته ولتتأكد ما إذا كان وما يزال مقيماً على حبها.. فتصطاد بذلك عصفورين بحجر واحد..
وقبل أن يتكلم والدها تنتهز هي الفرصة فتقول:
دكتور سامي: هل بالإمكان أن تقوم أنت والدكتور فؤاد بفحص والدي وتريا ما إذا كانت العلاجات التي وصفها الدكتور منصور صحيحة..
ويجيب سامي:
الدكتور منصور من خيرة أطباء هذا البلد.
وترد سلوى:
صحيح.. ولكننا نثق بالدكتور سامي والدكتور فؤاد..
وتدرك هند - في سرعة - ما تهدف إليه سلوى.. وكيف لا وهي الأستاذة البارعة المفنة في هذا المضمار.. فتحشر أنفها في الموضوع بدافع من غريزة حب الاستطلاع المتأصلة فيها.. وسعياً وراء استجلاء نوايا سلوى.. فتقول:
صحة الباشا تهمنا جميعاً.. وأنا أضم صوتي ورجائي إلى صوت ورجاء سلوى فنلتمس من أخي الدكتور وزوجي الدكتور تلبية طلبنا..
ويتدخل والد سلوى شأنه شأن أي مريض يتعلق بخيط العنكبوت في سبيل البرء والعافية.. فنراه يقول:
وأنا أضم أيضاً رجائي إلى رجائهما..
ويرد سامي:
استغفر الله يا باشا.. أنت تأمر وعلينا الطاعة.. ولكن لتلبية ما.. تطلبون.. يجب أن أستأذن الطبيب المعالج.. فما هو رقم تليفونه.. وتمليه سلوى رقم التليفون.. فيدير قرصه ويمسك بالسماعة..
هلو.. دكتور منصور.. أنا الدكتور سامي.. كيف حالك.. أشكرك.. الشغل على ما يرام.. أنا الآن مع الدكتور فؤاد في زيارة خاصة لا طبية عند سليم باشا بمناسبة عودة ابنته سلوى هانم.. وقد رغب الباشا - مع ثقته - وثقتنا بمقدرتكم - أن تفحصه.. فهل لديكم مانع من ذلك..
ويوافق الدكتور منصور.. ويضع سامي سماعة التليفون.. ويطلب من.. سلوى إرسال خادمها ليأتيه بحقيبته الطبية من السيارة ويقوم هو وفؤاد بالفحص كل بدوره ثم يجلسان على مقعدين نائيين يهمسان.. وبعد ذلك ينهضان فيتطلعان في الأدوية التي وصفها الدكتور منصور..
ثم يلتفت سامي إلى والد سلوى قائلاً:
أولاً - أنت لست مريضاً يا باشا.. وإن هي إلا وعكه بسيطة ستزول إن شاء الله.. ثانياً - الأدوية التي وصفها الدكتور منصور هي أحسن ما يوصف لمثل هذه الحالة.. فاستمر عليها ففيها الشفاء بإذن الله.. والآن نستودعكم الله. متمنين للباشا الصحة والعافية ولسلوى هانم السعادة والهناء...
ويرد الباشا:
أشكركم على زيارتكم اللطيفة.. مع السلامة..
وتقول سلوى:
أشكر لك أطيب تمنياتك.. وأرجو أن تحققها الأيام.. لقد فاهت سلوى بهذه العبارة في لهجة حزينة أدركها سامي بحاسته السادسة. فتطلع إليها يشاركها آلامها ومضى مع صحبه وفي نفسه ألف سؤال وسؤال.
وعندما يذهبون تقف سلوى بجانب الشباك تراقبهم وهم يركبون السيارة..
وحينما تنطلق السيارة وتغيب عن نظرها تمسح دمعة ترقرقت في عينيها.. ثم تعود إلى أبيها فتجلس بجواره صامتة فيربت على كتفها قائلاً.
ما بك يا سلوى.. هل تشكين من شيء..
لا يا أبتاه..
كيف لا.. أنظري وجهك في المرآة.. لقد كان مشرقاً عند زيارة سامي.. وصحبه.. وأراه الآن حزيناً بعد ذهابهم.. وتداري سلوى ما بها فتجيب:
إنني حزينة ومتألمة بالأحرى من مقاطعتك يا أبي لسامي وصحبه بعد سفري.. وخجلت كيف أنهم بالرغم من ذلك لم يتوانوا عن أداء الواجب عندما علموا بمرضك.
ونسيت فعلتك أنت يا بنيتي..
آه.. صحيح.. صحيح..
ويغير والدها مجرى الحديث فيقول:
سلوى قولي لي.. ألم تلاحظي شيئاً جديداً في حديث سامي..
وترتاح إلى حديث والدها عن سامي فتقول بلهفة:
لم ألاحظ شيئاً جديداً..
إنه أصبح يتكلم بلهجة الواثق باكتشافه المرتقب.. إن وفق هذا الشاب في بحثه فسيصبح في مصاف العظماء الذين يشار إليهم بالبنان.
ويقيني إنه سيوفق.. فمن جد وجد.. وسامي ما يزال يجاهد ويكافح بعزم ما وهن ودأب ما انقطع..
ـ إنه بعمله هذا يضرب مثلاً أعلى للشباب الناهض..
ـ سامي مثالي في كل شيء يا أبتاه..
ويحتقن وجه سلوى بعد ترديدها العبارة الأخيرة وتطفر بلا وعي دموع عينيها فتنهض من جوار أبيها كأنها لا تريده أن يراها بهذه الحال.. ولكنه رآها.. أبصر وجهها المحتقن وعبراتها المهراقة وتلمس بحنان الأبوة الخارق.. الحزن الدفين والألم المكبوت الذي تنوء بحمله ابنته فإذا به يعتدل في فراشه ويقول:
سلوى.. تعالي إلي..
وتمسح سلوى دموعها - بسرعة - وتعود إليه فيطلب منها أن تجلس بجواره.. فتمتثل فيخاطبها قائلاً ويداه تضمان عنقها وأصابعه تعبث بخدها..
بنيتي إنك تخفين شيئاً هاماً عني.. إنني أبوك ولا أرحب ولا أوسع من صدري فاطلعيني يا بنيتي على ما يعتلج في نفسك فلعلي أساعدك على التفريج عن كربك.
ويفاجىء سلوى سؤاله فتحاول أن تغطي الموقف كما اتفقت عليه من والدتها فتقول:
لا شيء لا شيء يا والدي.. إنما بكيت من سامي يجزي السيئة بالحسنة..
ويقاطعها والدها:
هذه صفات المثاليين..
ثم يعود بها إلى سؤاله الأول فيقول:
ـ لم لا تجيبين على سؤالي يا سلوى. إنك تتملصين من الإجابة إنني والدك..
هل أساء جلال معاملتك هل ظهرت لك عيوبه أجيبيني بنيتي.. أرجوك أرجوك.. وتجيب سلوى وهي تكبل عواطفها بسلاسل من صبرها وخوفها على صحة أبيها:
لو ظهر من جلال شيء ما تأخرت في تبليغك إياه:
ـ إذن ما سبب هذا الجفاء الظاهر منك ومن والدتك له.
ويحرجها إصراره فتقول:
أرجو.. يا والدي أن تبعد عن دماغك هذه الأوهام والتخيلات وأن تلتفت إلى صحتك فهي عندنا كل شيء..
كما يهمني صحتي كذلك يهمني راحتك ومستقبل حياتك..
ويزداد الموقف تعقيداً وسلوى تخشى أن تفلت أعصابها من يدها ويأتي الفرج لتبصر جلال يفتح الباب ويدخل فتشير إلى أبيها بأطراف أصابعها أن يقفل الموضوع فيستجيب إلى طلبها بإحناءه من رأسه.
ويدخل جلال فيسلم فيردان التحية بأحسن منها ويقبل يد عمه ويقبله.. ويصافح سلوى فتظهر الفرحة بلقائه لكي تقضي على وساوس والدها ويتعجب جلال في قرارة نفسه من هذه المقابلة الحارة غير المنتظرة من سلوى. ويحتار في تعليلها وتفسيرها على أنه يدرك - بحدة فظنته - أن سلوى تبيت أمراً لا شك أنه في غير صالحه وأن حماته ضالعة معها وربما تكون هي القمة الموجهة فسلوى - في رأيه - تلميذة غير موهوبة في هذا النوع من حرب الأعصاب فلينتهز إذن غياب حماته أو العقل المدبر ويتحرش بسلوى ويستفزها عسى أن تكشف.. أوراقها وتسفر عن خبيئتها يقطع السكون الذي غيم على الوالد وابنته بعد دخوله فيخاطب عمه قائلاً:
كيف حالك اليوم يا عماه..
بخير ولله الحمد يا بني..
ما شاء الله صحتك اليوم في تقدم ظاهر عن أمس.. أليس كذلك يا سلوى.
ذلك ما ندعو الله أن يسبغه على أبي..
وأنت يا سلوى.. أراك اليوم في حال أحسن من حالك أمس..
ـ نحمده ونشكره..
وزاد جواب سلوى في حيرته فأراد قبل أن يخطو خطوة أخرى في تكتيكه أن يتأكد من مصير حماته ولما علم من سلوى أن حماته لديها اجتماع في الجمعية اطمأن باله وشرع في تنفيذ خطته فأخبرهم عن الحالة السيئة التي وجد فيها الفيلا وأفاض في وصف ذلك وأطنب ثم رفع يديه ضارعاً إلى الله أن يمن على عمه بالصحة والعافية لتتمكن سلوى من العودة إلى بيتها للإشراف عليه.. وترتيب الأثاث الذي وصل اليوم إلى الجمرك..
ويجيب الباشا ببساطته المعهودة:
حقيقة يا بني.. هذه الأمور من اختصاص النساء فهن أحذق فيها منا.. أليس كذلك يا سلوى..
ويحرجها جواب أبيها فتقول:
سنتداول هذه المسالة مع والدتي عند حضورها فربما نجد عندها الحل..
وتصدق فراسة جلال في أن العقل المدبر هو حماته وبينما هو شارد في التفكير في تغيير طريقة هجومه.. تدخل والدة سلوى..
فينهض جلال لاستقبال حماته فتصافحه فيحاول أن يقبل يدها - كعادته - فتسحب يدها ولا تمكنه من تقبيلها وتتخذ لها مقعداً بجوار سرير زوجها.. ويزداد إيمان جلال يقيناً بأن حماته هي خصمه الألد وإنه مقدم على حرب لا هوادة فيها وتسأل سلوى أمها عما تم في اجتماع الجمعية فتخبرها بالقرارات التي اتخذها مجلس الإدارة لتحسين حالة الطفل من حيث الغذاء والكساء والعناية الصحية ثم يخبرها زوجها الباشا بحال فيلا جلال فترد عليه قائلة:
المسألة في غاية البساطة يا جلال.. سأرسل غداً إحدى قريباتي ومعها خادمة سلوى الخاصة لتشطيب التنظيف.. وعندما تنتهي أنت من اجراءات الأثاث الجمركية هاتفني وسأكون وسلوى في استقبال الأثاث.. هل لديك حل غير هذا..
ويرضخ جلال لقرار حماته وقد سدت عليه منافذ الاختلاء بسلوى وحدها فيقول:
كل ما ترينه يا سيدتي حسناً فهو عندي حسن..
ـ مرسي..
وتشرف سلوى ووالدتها على ترتيب وتنسيق أثاث الفيلا وتحبط الحماة كل فرصة يحاول فيها جلال التحدث إلى زوجته على انفراد..
وتعود سلوى وأمها عندما تنتهي مهمتهما اليومية إلى قصر الباشا وجلال يتميز غضباً ولكنه يكتم غيظه أملاً في اقتناص ظروف أشد ملاءمة من هذه.. الظروف..
وتمر الأيام سراعاً وسلوى ما تزال في بيت أبيها وجلال يتلظى على أحر من الجمر ولما شعرت الحماة بتماثل زوجها للشفاء واستجلاءاً لخطط جلال المستقبلية انتهزت فرصة زيارته لهم فاختلت به وافهمته أن سلوى.. أخبرته بجريمته النكراء وأنها ترى وتصر على رأيها أن هنالك حلاً واحداً لا غير لإصلاح غلطته..
ويقاطعها جلال متلهفاً:
وما هو..
ـ أن تطلق سلوى في الحال..
وتبهت جلال المفاجأة ثم لا يلبث أن يسترد رباطة جأشه فيجيب..
يا لبشاعة ما تطلبين.. يا لفداحة ما تبغيين.. أأطلق سلوى.. مستحيل.. مستحيل..
وتقاطعه حماته قائلة بهزء وسخرية.
ـ وضربك سلوى وركلك إياها حتى كادت تموت لو لم يخلصها منك ذلك.. الرجل الغريب.. ألم يكن بشعاً يا بطل.. ألم يكن منتهى الوحشية والبربرية يا أسد.. نعم لقد كان منتهى الخسة والانحطاط.. والنذالة.. بطولة.. وشجاعة ورجولة.. على امرأة ائتمنك أهلها عليها وفضلوك على طلابها الكثيرين.. فجزيت الحسنة بالسيئة والنعمة بالجحود..
ويجيب جلال وهو يصطنع التذلل والندم والاستكانة:
إني مستعد للتكفير عن خطيئتي وإصلاح ما بدر مني..
وتقاطعه حماته قائلة:
ليس إلا الطلاق وسيلة للتكفير عن ذنبك.. طلق سلوى.. إني.. أنصحك..
ويستمر جلال في مراوغته فيقول:
هذا رأيك أنت ولكني لم اسمع رأي سلوى.. فهل تسمحين لي بأن أحادثها على انفراد..
وتجيبه حماته:
إن هذا هو رأيها أيضاً..
ويرمي جلال بآخر سهم في كنانته فيقول:
وهل هذا هو رأي عمي أيضاً..
وتجيبه حماته:
إن عمك لو علم بما صنعته بابنته.. أعز إنسانة لديه لرمي بك عرض.. الطريق.. جلال إنك تعالج فعلتك بتفكير خاطىء.. واتجاه غير سليم أتظن أن عمك سيغفر لك ما فعلته..
ثم تستفزه بسخريتها اللاذعة فتردف قائلة:
أنت غلطان.. يا سيد جلال.. يا بطل.. يا شجاع على النسوان.. وبس.. وتطعنه سخريتها في الصميم.. فيغلي الدم في عروقه ويفقد توازنه لأول مرة فيقول محتداً:
وإذا لم أطلقها..
وتجيبه حماته إجابة الواثق المعتد بنفسه:
ـ ستفعل ذلك رضيت أم أبيت.. نحن وراءك والزمان طويل..
وتترك جلال في مكانه وتعود إلى غرفة زوجها.. ويذهب هو إلى فيلته يفكر فيما يجب أن يفعله.. لقد سفرت حماته عن وجهها.. وبدأت هجومها بشدة وضراوة وبينما هو مستغرق في لجة أفكاره يدق جرس التليفون فيمسك السماعة وإذا بالمتكلم صديقه اليهودي جاييم وزوجه راشيل.. يدعوانه إلى سهرة خاصة (على الماشي) احتفاءً بعودته من شهر العسل فيتقبل جلال الدعوة ويعدها فرصة استجمام وراحة استعداداً للمعارك.. الرهيبة المقبلة..
ويصل جلال منزل صديقه اليهودي فيجده وزوجه راشيل في استقباله ويدخل الصالة فيرى شخصين آخرين غيره فيسلم عليهما وتعرفه راشيل بهما فإذا هما من أثرياء الحرب.. فيدرك جلال بداهة أسباب دعوتهما وينتظم الشمل - بعد العشاء - حول المائدة الخضراء وتشترك راشيل مع جلال في اللعب ضد الشخصين الآخرين ويقوم زوجها بعملية الساقي والخادم..
ويحالف الحظ جلال هذه الليلة فيلقف ما في جيبي الصيدين الثمينين اللذين ينصرفان بعد خسارتهما مودعين بما ما تقبلا به من حفاوة وتكريم وبعد أن تأخذ راشيل حصتها من الربح وتذهب لتضعه في مكانه الأمين يلتفت جاييم إلى جلال قائلاً:
فاتني أن أسألك في زيارتي الأولى لم تعجلت عودتك من أوروبا وقطعت شهر العسل الشهير..
فيجيبه جلال والحسرة تقطر من كلامه:
لقد تكشفت لسلوى أوضاعي المادية السيئة بعد أن خسرت كل ما أملك على مائدة القمار.. فأعطتني حليها لإرهنها وأسدد ديون تلك الليلة.. المشؤومة..
ويقاطعه جاييم قائلاً:
يا لسوء الحظ.. وبعدين..
أبرقت سلوى لأبيها فحول لها من المال ما استردينا به الحلى المرهونة وكفانا شر الفضيحة في تلك البلاد..
وينتهز جاييم الفرصة فيقول بخبث اليهودي المطبوع:
ـ ورطة وخلصت منها في أوروبا.. ولا أدري متى نتخلص من الورطات هنا.. إن دائنيك يراجعونني في أمر التسديد لأني كنت الوسيط..
ويقاطعه جلال قائلاً:
ما أقل صبر الدائنين.. أيظنون إني حينما تزوجت سلوى تزوجت ثروة أبيها إن والدها ما يزال حياً قل لهم يصبرون علي حتى يموت والد سلوى..
وأظن أجله قد قرب فهو مريض منذ شهرين..
ـ وإذا لم يمت والد سلوى.. أو لم تعثر على كنز فماذا أنت فاعل بدائنيك...
ويجيب جلال منفعلاً:
ليشربوا البحر..
ويقول جاييم بدهاء ومكر وهدوء غريب:
يظهر أنك يا جلال تجهل وضعك السيء مع الدائنين.. لقد ماطلتهم.. وسوفتهم.. ووعدتهم بتسديد ديونك بعد الزواج من سلوى.. والآن تريد أن تماطل وتسوف أيضاً.. إنني أخشى عليك من الدعاوى والحجز وبالتالي الفضيحة بعد السمعة الطيبة التي اكتسبتها في الأوساط الراقية هنا..
وتلين قناة جلال فيقول:
ما العمل إذن يا صديقي...
أرى أن تقنع سلوى بأن تقترض لك من أبيها مبلغاً يفي ديونك ويستر أمورك..
ـ طلب مستحيل يا جاييم..
ثم يشرح له قصته مع سلوى فيصرخ اليهودي شاداً ما تبقى في صلعته من شعر وهو يقول:
يا للمصيبة.. يا للكارثة.. يا لضياع أموال الناس ويحاول جلال تهدئة صديقه فيقول:
لا منقذ لي من هذه الكارثة إلا بموت والد سلوى.. فمتى يتحقق ذلك.. ولكن كيف.. وأشهر أطباء هذا البلد الدكتور سامي يشرف على علاجه ويفعل المستحيل لشفائه مدفوعاً بحبه القديم لزوجتي سلوى..
وتواتي جاييم فكرة جهنمية فيقول:
لدي فكرة هائلة يا جلال..
ويقول جلال متلهفاً:
ـ وما هي...
ويعتدل جاييم في جلسته ويقترب من جلال ويسر إليه قائلاً وهو يتطلع يمنة ويسرة حذار أن يسمعه أحد:
طالما خلاصك في موت والد سلوى فلماذا لا تتخلص منه وتنقذ نفسك وسمعتك من الدمار.. تصور ماذا ستكون عليه حالك يوم يحجز الدائنون على أمتعتك ويبيعونها بالمزاد العلني.. يوم لا تلقي إلا الأرصفة مأوى لك.. وقد تنزل ضيفاً على السجن إذا لم تفي ديونك تصور أحاديث الناس وتندرهم بأخبارك وكيف أنك كنت كاذباً في تبجحك بثرائك.. تصور.. تصور..
ويشرد جلال بذهنه فيتخيل الدائنين وقد أحاطوا به ومعهم المحضرون والشيالون ينقلون أمتعته وتصور ألسنة الناس وهي تلوك أخبارك وتنشر.. فضائحه ورأى نفسه بين جدران السجن وحوله السجناء من كافة الطبقات.. والأشكال والألوان والعقوبات.. وطالعته الجرائد وقد كتبت عنه بأحرف بارزة وعناوين مختلفة.. وأشد من ذلك كله - في رأيه - حماته وشماتتها وسلوى وفرحتها وسامي وصحبه وتشفيهم من مصيره المظلم..
مر كل هذا بمخيلته ولم يصح من شروده إلا على صوت صديقه جاييم يقول له:
اقتله واسترح منه..
ويجيب جلال بصوت كأنه صادر من مكان سحيق:
ـ كيف..
قطرة سم في فنجان الدواء الذي يتناوله تريحك منه ومن متاعبك إلى الأبد وأنَّى لي بهذا السم..
ويتنحنح جاييم قبل أن يجيب.. وداخل نفسه شيء من العجب والغرور فضغط على كتف جلال قائلاً:
في أي وقت تطلبه تجده لدي.. إنه لا لون له ولا طعم ولا كثافة كما أن مفعوله يسري بعد مضي أربع ساعات على الأقل من تعاطيه..
ويستعرض جلال بذكائه الحاد هذه الفكرة الفظيعة ويقلبها بواسع براعته وأضاف من حيله وابتكاراته وطاقة الشر الكامنة فيه بل في كل عضو وذرة منه فتروق له الفكرة وترضيه طريقة التنفيذ التي قرر في نفسه أن يقدم عليها فإذا به يهتف من أعماق قلبه ويربت على كتف جاييم قائلاً أنت عظيم.. أنت مدهش..
ويجيب جاييم فرحاً:
إذن فلنشرب نخب الغنى والسعادة المنتظرة..
ويرد عليه جلال قائلاً:
لنشرب نخب خراب بيت حماتي.
وكان من عادة سلوى أن تأخذ قهوة الصباح بجانب سرير والدها وتقرأ عليه صحف ذلك اليوم كما مر معنا ودخلت - كعادتها - وجلست تشرب قهوتها وجاءها الخادم بجرائد الصباح فتناولت إحداها وتصفحت عناوينها البارزة فإذا بوجهها يحتقن وإذا بعبراتها تنهمر وإذا بوالدها وقد فجأة الموقف يصرخ متسائلاً:
سلوى.. ماذا جرى لك ماذا بالجرائد الأولى..
وتجيب سلوى وهي تكفكف عبراتها وتضغط على أعصابها:
خبر سار يا أبتاه..
وهل يبكي الخبر السار.. طمئنيني.. اقرئي بالله..
وتقرأ سلوى بصوت متهدج:
حدث عظيم في عالم الطب.. الدكتور سامي يكتشف المصل الواقي لنوازل الشتاء.. بعد جهاد عنيف متواصل استحضر الدكتور سامي مصلاً جديداً لمعالجة نوازل البرد المستعصية.. وقد أجرى تجربته بصورة سرية وتحت إشراف وزارة الصحة التي شكلت هيئة من نفس أطبائها للإشراف على التجربة وقد تكللت تجربة هذا العمل بنجاح باهر.. واليوم يقيم معالي وزير الصحة حفلة شاي كبرى في فندق ((السفراء)) تكريماً للدكتور سامي.. هنيئاً للوطن بابنه النابغة وهنيئاً للإنسانية بهذا الإكتشاف العظيم..
وتكف سلوى عن القراءة وقد فرغت منها فيلتفت والدها إليها قائلاً وتبكين لهذا الخبر.. يجب أن نفرح جميعاً ونفخر بسامي ليس كصديق فحسب بل كمواطن حقق نصراً باهراً لأمته وبلاده وأصبح في مصاف العظماء.
وتجيب وهي تداري ولكنها لا تستطيع فتقول:
كنت أبكي من فرحي.. لقد غلب السرور عليَّ فبكيت.. ثم تبدأ أعصابها في الإنفلات فتردف قائلة وهي تغالب دموعها:
لقد كنت أسخر منه.. وها هو يفوز.. ومن كانت تسخر منه..
وتريد سلوى أن تستمر في كلامها تلقائياً وبدون وعي فتبصر أمها قادمة فتعود لصوابها وتلجم لسانها وتستمع إلى حديث والدها وهو يشرح لزوجته ما كتبته الصحف عن سامي ووالدة سلوى تجيب وهي تقاوم أمواجاً من الألم والندم تصطرع في قرارة نفسها.
ـ نجح هذا الشاب ودخل اسمه مع الخالديين..
وتقول سلوى:
ألا يستحسن أن نهاتف سامي ونهنئه هو وفؤاد وهند..
ويرد الباشا قائلاً:
رأي سديد يا بنتي.. هذا أقل ما يمكن أن نفعله تجاه سامي.
ويهاتفون سامي ويهنئونه ويشكرهم بالطبع وتتدخل هند في الحديث وتدعو سلوى وأمها على غداء عائلي فقد حضرت والدة سامي فجأة من قريتها لتشترك في الفرحة بما حققه ابنها وتعتذر والدة سلوى بمرض الباشا فترجو هند منها أن تسمح لها بمكالمة الباشا فتكلمه وتطلب منه الأذن لسلوى ووالدتها فيأذن متمنياً إن لو كانت صحته تساعده لكان في أول المبتدئين. ويأخذ سامي السماعة من يد هند ويدردش مع الباشا ويحقنه بعبارات من المسكنات والمنعشات والمقويات فترتسم على وجه الباشا لمحات من البهجة والإنشراح وتنتهي المكالمة فتتصل هند بجلال في فيلته وتدعوه فيعتذر بارتباطه بموعد سابق.
وتذهب سلوى ووالدتها لحضور الغداء تاركين الباشا لعناية الممرضة وبعد ذهابهما بنصف ساعة تقريباً يأتي جلال إلى دار عمه وقد بيت في نفسه أمراً وكان جلال وهو في طريقه إلى غرفة عمه يتحسس جيب سترته.. ليطمئن على وجود زجاجة السم به أو هو تحسس المريب على أصدق تعبير.
ويدخل على عمه فيجده ملقى على سريره والممرضة على كرسي أمامه ومجلة في يدها تتلو له منها ما يقطع وقته ووقتها...
ويسلم جلال على عمه ويجلس على مقعد بجانبه فيسأله والد سلوى لم لم يلبي دعوة هند فيجيبه بما سبق أن اعتذر به إلى هند ويدور الحديث بينهما في مواضيع متعددة بعضها غث وبعضها سمين وجلال يتلمس خلسة جيبه كلما لاحت له فرصة ويترقب على أحر من الجمر سنوح أية بادرة مناسبة وتتطلع الممرضة إلى ساعتها فيسألها الباشا:
هل حان موعد استعمال الدواء.
فتجيب بنعم فيقول لها:
اجلسيني قليلاً فقد تعبت من النوم على ظهري وأنت يا جلال هات زجاجة الدواء...
ويرى جلال أن فرصة العمر قد واتته فينطلق في طرفة عين إلى مكان الدواء وينتهز انتقال الممرضة بعمد فيضع قطرة من السم في فنجان الدواء ثم بلتفت إلى الممرضة قائلاً وهو يصطنع الحيرة والغباء:
من أي زجاجة أعطيه يا مدموزيل فالأدوية هنا كثيرة.
فتجيبه الممرضة:
انتظر قليلاً من فضلك.
ويعود جلال إلى مقعده وتفرغ الممرضة من شغلها مع الباشا وتقصد نحو مكان الأدوية فتصب الدواء في الفنجان الذي كان فيه السم وتسقيه للباشا فيشرب وجلال يقول له:
فيه الشفاء يا عماه.
ويرد الباشا قائلاً:
أشكرك يا بني..
ويشتبك جلال في حديث ناعم مع الممرضة وكأنه لم يأت أمراً إذاً لقد سيطر على أعصابه بشكل إن دلَّ فإنما يدل على أصالته في الإجرام وعراقته فيه ويتشعب الحديث بين جلال والممرضة والباشا فاغر فمه مرهف أذنيه وأخيراً تطلع جلال إلى ساعته وقال وهو يحملق في فريسته.
ـ لقد أنستني الممرضة بحديثها اللطيف موعد الغداء في كازينو شاطىء الأحلام استأذنك يا عماه.
ويجيب الباشا:
مع السلامة يا بني.. حذار من الطريق فهو ضيق ومزدحم بالسيارات.
شكراً لك يا عماه.. أرجو لك الصحة والعافية...
قالها جلال من قلب لا يعرف الشفقة ولا الرحمة ثم قبل يد عمه وانصرف... وأحس الباشا برغبة في النوم فنام واستلقت الممرضة على مقعدها تسامر مجلة في يدها.
وعادت سلوى ووالدتها وهي في منتهى الحبور والسرور فقد تأكدت أن سامي لم يتغير ولن يتغير وأن حبه لها حب لا يفنى ولا يموت...
ونهضت الممرضة للقائهما مشيرة إليهما ألا يحدثا أية ضجة فالباشا يغط في سبات عميق. وذهبت معهما إلى الغرفة المجاورة فسألتها والدة سلوى عمن زارهم فأخبرتها بزيارة جلال وسرددت لها ما قال بالحرف الواحد وانصرفت الأم وابنتها كل إلى مخدعه وعادت الممرضة إلى مكانها...
وبدأ مفعول السم في شكل زفير وشهيق فأسرعت الممرضة إلى مخدع سلوى ووالدتها.
وتهرع سلوى وأمها وخلفهما الممرضة إلى غرفة الباشا فيجدونه في حالة سيئة فتصرخ سلوى وهي في حالة هلع وخوف:
بابا.. بابا.. تكلم.. وتضرب الأم كفاً على كف وتلطم خديها - كعادتها - وتسرع الممرضة بطلب الدكتور منصور فتجاب أنه مدعو إلى الحفلة التكريمية لسامي في فندق السفراء وتهبط شجاعة غير منتظرة على سلوى فتثبت قلبها وتأخذ السماعة من الممرضة وتهاتف فندق السفراء طالبة الدكتور فؤاد فيقال لها أنه يخطب في الحفل ولا سبيل إلى الوصول إليه فترتدي ملابسها على عجل وتقول للمرضة اطلبي بوليس النجدة.. وأنا ذاهبة إلى الفندق لأحضر الدكتورين فؤاد ومنصور ومعهما سامي إذا أمكن وتقود سلوى سيارتها في سرعة جنونية إلى الفندق وتطلب الممرضة بوليس النجدة وتجد سلوى صعوبة كبيرة في الاتصال بفؤاد ومنصور وأخيراً تتمكن.. ويسر فؤاد إلى سامي - قبل ذهابه - بالخبر فيضطرب ويرجوه أن يسرع لإسعافه وإنه أي سامي سيلحق بهما حال انتهاء الحفل.
ويصل الدكتوران فؤاد ومنصور دار الباشا في الوقت الذي تصل فيه سيارة بوليس النجدة فيجدان والد سلوى في حالة احتضار فعيناه جاحظتان ونبضات قلبه آخذة في الهبوط وهو يخطو إلى الموت بسرعة ويسرعان في الإسعاف موجهين في الوقت نفسه أسئلة للمرضة مما أكل الباشا وشرب. فتجيبهما الممرضة أنه أكل وجبته العادية وتناول أدويته المقررة.
وتزداد حالة المريض سوءاً فيقرر الطبيبان ومعهما طبيب بوليس النجدة نقله إلى المستشفى وفي الوقت الذي يحاولون فيه نقله يدخل الدكتور سامي فيسلم على الحاضرين ويطلب من زملائه الدكاترة السماح له بفحص الباشا فيسمحون له فيفحصه وبعد ذلك يصارحهم بمرئياته ويطلب منهم أن يحقنه من دواء كان في حقيبته فيوافقون وبعد الحقنة بخمس دقائق.. يلاحظون أن حدة الشخير والشهيق بدأت تخف تدريجياً ونبضات قلب الباشا شرعت تنتظم تباعاً ثم يدعو سامي زملاؤه الأطباء للمشاورة ويبين لهم أنه يعتقد أن الحالة حالة تسمم وإنها تستدعي غسيل المعدة في الحال فيوافقون على تشخصيه ويدخل الباشا إلى أقرب مشفى.
وفي المشفى تبدأ عملية الغسيل ويسر سامي إلى الدكتور منصور بأن يجمع كل ما يخرج من بطن الباشا في وعاء نظيف لتحليله في سرية تامة فيشكره الدكتور منصور على رأيه هذا ويجد فيه تخلصاً من المسؤولية وحفاظاً على سمعته ويصدع بما أمره الدكتور سامي وبعد الغسيل يرتاح الباشا وتأخذه سنة من النوم وينتهز الدكتور منصور الفرصة فيأخذ ما تجمع من غسيل المعدة إلى مختبر الحكومة ويقف بنفسه بجانب الطبيب المسؤول عن التحليل وتظهر النتيجة بالإيجاب ويعرف نوع السم فيهرع الدكتور منصور إلى سامي يبلغه النتيجة فيطلب إليه أن ينقلها بدوره.. للنيابة في شكل خطاب رسمي.
وتضع النيابة يدها على التحقيق ويذهب وكيلها ومعه ضابط البوليس إلى دار الباشا ويستجوبون الممرضة ويقبض عليها وتودع رهن التحقيق ثم يسألون خدم الدار واحداً بعد واحد ويعرفون من أحدهم أن جلال جاء في سيارة ومعه شخص لم يره من قبل ولما سئل أن يصفه.. وصفه. ودوّن وكيل النيابة كل ذلك، وأمر بإخلاء سبيل الخدم بعد أن أخذ عليهم موثقاً بكتمان كل شيء حتى عن ((سلوى)) وأمها...
وتقضي ((سلوى)) ووالدتها والدكتوران سامي وفؤاد وهند طبعاً تلك الليلة في صالون الغرفة المجاورة لغرفة المريض يتناوبون السهر عليه، وتسأل ((هند)) عن ((جلال)) فتجيبها والدة سلوى:
ـ لعله سافر إلى جهة ما أو سهران عند أحد أصدقائه. فقد سمعته يتحدث عن سفره إلى جهة لا أدري أين هي؟...
وتقول ((هند)) متمسكة في سؤالها:
ـ ولا تدري ((سلوى)) أيضاً...
وتجيب ((سلوى)):
ـ لقد أنساني مرض والدي كل شيء في هذه الحياة...
وفي الهزيع الأخير من الليل صحا والد ((سلوى)) فوجد الدكتور ((سامي)) بجواره، فتطلع يمنةويسرة وسأل بصوت خافت:
ـ أين أنا... في مستشفى؟
ويقترب منه الدكتور سامي قائلاً:
ـ أنت بخير يا باشا أنت في المستشفى... أرجو الإخلاد للسكينة...
ويمتثل الباشا لأمر الدكتور سامي ويخلد للراحة، وتعاوده سنة من النوم، ويذهب ((سامي)) إلى الجالسين في الصالون، ليطمئنهم فتشيع في وجوههم الفرحة، ويحمدون الله على ذلك - ويتسابقون في شكر سامي وفؤاد.
وفي صباح اليوم التالي، تبدأ صحة الباشا في التحسن، وفي المساء يبشرهم الدكتور ((سامي)) أن الخطر زال - لله الحمد - ويستأذن سامي وفؤاد وهند في الذهاب من الدكتور منصور الذي حضر ليبقى بجانب المريض.
وينام الباشا ليلة مريحة... وتنام سلوى وأمها على سريرين وضعا خصيصاً لهما في الغرفة المجاورة لغرفة المريض، وتنهض والدة سلوى في الصباح الباكر، وتذهب لتجلس بالقرب من سرير زوجها.
أما ((سلوى)) فما زالت في سريرها، ولم تصح إلا على صوت خادمة المستشفى تقدم لها القهوة وجرائد الصباح... فتتصفح إحداها وتصرخ:
ـ يا للفظاعة! جلال زوجي.. يدس السم لوالدي بمعاونة اليهودي ((جاييم)) يا له من مجرم غادر...
وتسمع أمها صراخ ابنتها فتهرع إليها لتعرف جلية الأمر.. فتروي لها ((سلوى)) قصة ((جلال))... ولأول مرة ينزل الله السكينة على قلب والدة ((سلوى)) فتقرأ - من دون لطم وصخب الخبر - وما إن انتهت منه حتى التفت إلى ابنتها قائلة:
ـ علينا يا بنيتي أن نحمد الله الذي أوقع جلالاً في شر أعماله، وأن نبتهل إليه سبحانه وتعالى أن يمن على الباشا بالصحة والعافية..
ويهدأ اضطراب ((سلوى)) فتجيب:
ـ صحيح يا أماه... الحمد لله على ذلك...
ويقطع عليهما حبل الحديث دخول الممرضة ((لولى)) التي قبض عليها فتسألها ((سلوى)) بلهفة:
ـ أين كنت يا ((لولى)) لقد سألنا عنك فقيل لنا أنك ذهبت لزيارة أخيك المريض. لعله بخير...
وتتردد ((لولى)) في الإجابة فتبادرها والدة سلوى بالقول:
ـ قولي... فقد قرأنا كل شيء عن ((جلال))...
وتجيب ((لولى)).
ـ حققت معي النيابة. واحتجزتني، ثم احتجزت جلال.... وحوالى منتصف الليل قبضوا على المرابي اليهودي ((جاييم)) وقد علمت أنهم فتشوا داره فعثروا على السم الذي كان ((جلال)) أخذه منه، ثم شدد البوليس الضغط على اليهودي فاعترف بأنه أعطى السم لجلال بقصد استعماله في مكافحة الفئران.. وبعد اعترافه ومواجهته بجلال اتضحت الحقيقة فأخلى سبيلي، وسيق ((جلال)) واليهودي إلى السجن... وتضرب ((سلوى)) بكفها على فخدها وتقول:
ـ يا للجرم الفظيع...
وترد الممرضة:
ـ من حفر حفرة لأخيه وقع فيها...
وتنهض أم سلوى وهي تقول:
ـ هيا بنا عند الباشا...
ويدخلون فيسلمون على الباشا فيجدون صحته في تحسن مستمر، وقد سمح له الدكاترة المعالجون بالكلام ويجلسون فيوجه الباشا سؤاله إلى والدة ((سلوى)) قائلاً:
قولي ((يا زينب))... هل تدهورت صحتي حتى اضطررتم إلى نقلي للمستشفى؟..
ـ نعم... ولكن الله سلمك وأنقذك على أيدي الدكاترة: سامي وفؤاد ومنصور.
حمداً وشكراً لله ثم للدكاترة سامي ورفاقه... صدقيني... لقد أحسست بعد تناول الدواء أول أمس أن نوماً جارفاً يجتاحني فنمت ثم أفقت على آلام فظيعة، وأظن هذا هو الذي دعاكم إلى الاجتماع في غرفتي أمس...
وترد ((سلوى)):
الحمد لله على السلامة يا أبتاه...
ويسأل الباشا ((سلوى)) عن ((جلال)) فتختلق العبارات الآتية:
أخبرني ((جلال)) أن لديه أعمالاً تجارية مهمة، وقد ذهب لإنجازها بعد أن اطمأن على صحتك، وسيعود بعد ثلاثة أيام...
ويقاطعها الباشا ضاحكاً:
أعمال تجارية... متى أصبح جلال تاجراً مجتهداً... ها.... ها...
وترد سلوى:
إنه قام بمغامرة تجارية لو نجح فيها لأصبح في عداد الأثرياء...
وتقاطعها والدتها، وهي تخشى اندفاع ابنتها في حديث قد يصيب أباها بنكسة إذا هي استمرت فيه، فتقول:
كفاك كلاماً فارغاً... إن والدك بحاجة للراحة والإقلال من الكلام يفيده وأنت أراك اليوم مفتوحة النفس للحديث بدون فرامل...
وتجيب ((سلوى)).
عفوك يا أماه، فإن فرحتي بسلامة والدي هي التي أطلقت لساني من عقاله..
ويدخل الدكتور سامي وفؤاد وهند، فيسلمون على الجميع، ويجلسون وبعد كلمات المجاملة المناسبة يطلب سامي من ((سلوى)) ووالدتها وهند أن يذهبن إلى الغرفة المجاورة.
ويذهبن ويبدأ الدكتوران سامي وفؤاد في فحص الباشا وبعد أداء هذه المهمة يطمئنانه ويستأذناه في الإنصراف تاركين لديه الممرضة ويعرجان في طريقهما على الجالسات في الغرفة الملاصقة فتسألهما سلوى عن صحة أبيها فيجيبها سامي الحمد لله نبضات قلب الباشا كنبضات قلوب الشباب قوية ومنتظمة وصحته على العموم في تقدم ملحوظ.
ويلتفت فؤاد إلى هند قائلاً:
هيا بنا يا هند فالدكتور سامي على موعد مع نقيب الأطباء...
وتصر سلوى وأمها على أن يبقوا معهما قليلاً فيمتثلون وتفاجئهم سلوى بقولها والخجل يعتمرها:
لا بد أنكم قرأتم خبر الفضيحة في جرائد الصباح.
وتجيب هند:
نعم قرأناها ويا لهول ما قرأنا.. من كان يظن أن جلالاً يرتكب هذه الجريمة ويردف فؤاد قائلاً:
يقيني إن ثراء جلال كان مزيفاً وإن إقدامه على تسمم الباشا كان يقصد الاستيلاء على ثروته...
ويتلهى سامي بتدخين سيجارته عن الاشتراك في الحديث فتلتفت إليه سلوى..
قائلة:
وأنت لم لا تتكلم..
ويجيب سامي:
اعفني يا هانم من الخوض في موضوع جلال فالقول ببرائته أو إدانته في يد القضاء.
ويرد فؤاد على عادته من المزاح فيقول مخاطباً سامي:
طبعاً يا سيدي... لو تكلمت لقال الناس أنك موتور من جلال.
ويمتعض سامي من دعاباته المستهجنة فيقول:
لا داعي للمزاح يا فؤاد فأنا - كما تعرف - ارفع من أن أنظر إلى موضوع سلوى وجلال بنظرة الموتور كل شيء في الحياة قسمة ونصيب لقد برهنت الأيام أني ما زلت أعامل سلوى وجلال معاملة الصديق للصديق.
وتقاطعه سلوى قائلة:
أنت أنبل من عرفت.
وتمسح دمعتين ترقرقتا في عينيها فيتطلع سامي إلى فؤاد معاتباً:
أسرك منظر سلوى يا فؤاد..
وتنفجر سلوى في بكائها وتقول والعبارات تخنق كلامها:
إنني أبكي حظي العاثر.. أبكي خيبتي وفشلي.. لقد نحرت نفسي بيدي...
لقد جللت رأسي بالعار... كيف ألقى الناس بعد اليوم.. وبأي وجه لا حياه لي بعد اليوم في هذا المجتمع..
ثم يغمى عليها فيسرع سامي وفؤاد لإسعافها فتصحو وهي تقول موجهة كلامها إلى سامي:
أأنا ما زلت على قيد الحياة.. ليتني مت يا سامي.. أتبقي علي لأعيش بين الآمي وأحزاني.
ويكاد ينفطر قلب سامي حزناً وهو يرى سلوى بهذه الحال ولكنه يضغط على أعصابه الفولاذية فيقول مهدأ آلامها.
لقد أراد الله بك خيراً إذ كتب لوالدك السلامة وأنجاه من خطر محدق.. فلتحمدي الله سبحانه وتعالى على عنايته بأبيك..
هيا بنا إلى الحديقة نستنشق الهواء الطلق فإنك بحاجة إليه أكثر منا ويهبطون إلى الحديقة وسلوى متكئه على ذراع سامي وهند متأبطة ذراع فؤاد أما الأم فاستأذنت منهم وذهبت لتبقى بجوار زوجها وفي الحديقة تقول سلوى لسامي وقد انتحيا جانباً ومهدت هند - ببراعتها - لهذه الخلوة إذ أخذت تعدو في الجنينه وفؤاد خلفها اتبع لها من ظلها:
ـ أزال الخطر تماماً عن والدي يا سامي...
ـ لقد زال - لله الحمد - وإنه يتماثل للشفاء ولكنه يحتاج إلى بعض الوقت بالنظر لشيخوخته.
لا أدري بأي لسان أعبر لك عن شكري على ما تقوم به نحونا لقد بلغت في انسانيتك مرتبة لا يضارعك فيها أحد.
العفو يا هانم.. انما أقوم به واجب ولا يشكر المرء على واجب أداه وتقاطعه سلوى:
واجب.. أي واجب يا سامي.. لو عملت ما عملت مع أي انسان غيرك لنبذني نبذ النواة ولكنك أنت أنت مثالي في كل أعمالك.
ـ لقد أوليتني يا هانم شرف صداقتك.. والصديق يظهر وقت الضيق.
ـ أرجو يا سامي لا تخاطبني بكلمة هانم بل قل سلوى وكفى.
ـ سأناديك يا سلوى.. ما أعظم هذا الاسم وأوقعه في نفسي.
وتجيب سلوى بمرارة مشوبة بندم مكبوت:
كان اسماً عظيماً يوم كان محط أمالك.. أما اليوم فقد تسربل بالخزي والعار ويقاطعها سامي وقد أفلت زمام أعصابه منه لأول مرة:
ـ إن سلوى الأمس... سلوى اليوم... وستظل في مكانها الأسمى من قلبي حتى ألقى الله وأنا أردد اسمك والهج بحبك فالحب الخالد لا يفنى ولا يموت...
وتلتقي عيناهما في نداء صارخ كأنه ثورة بركان خامد.
وكاد سامي يستجيب لذلك الإغراء الذي لا يقاوم لولا أنه ارتد في طرفة عين إلى ضميره إلى مثاليته إلى إنسانيته إلى حبه الطاهر الذي.. لا يريد أن تدنسه قبلة عابرة القى بها الشيطان في سبيله وأتاه الخلاص في صوت هند وهي تنادي:
سامي.. سامي..
ويرن صوت هند في أذن سامي في حلاوة جرس دونها مزامير داود إيقاعاً وأثراً فإذا به يجيب بصوت عال:
حاضر.. حاضر.. تعالوا...
وتصل هند وفؤاد إلى مكان سامي وسلوى ويستأذنون منها فتقول لهم: نراكم غداً إن شاء الله.
ويجيبون بنعم وتشيعهم وعيناها لا تودان تفارقهم.
وتتحسن صحة الباشا ويخرج من المستشفى ويسمح له سامي بالجلوس في حديقة قصره ويعرف قصة جلال فلا يترك في قاموس الشتائم كلمة إلا استعملها وفي صباح أحد الأيام وبينما كان الباشا يجلس في الحديقة ومعه زوجه وابنته سلوى أتاهما الخادم بالقهوة وجرائد الصباح فأخذتها سلوى.. وتصفحت إحداها وظهر الاهتمام جلياً على وجهها وهي تتصفح فسألها والدها أن تقرأ لهم ما استرعى انتباهها واهتمامها فقالت:
سأقرأ عليكما نتيجة الحكم على جلال:
ويقول الباشا:
اقرئي لعنة الله عليه.
وتكيل والدة سلوى نفس الكيل من الشتائم ثم تسكت على صوت ابنتها وهي.. تقرأ:
حكمت محكمة الجنايات على المدعو جلال القبرصلي بالسجن سبع سنوات مع الأشغال الشاقة.
ويجيب الباشا:
حكم عادل.
وتقول زوجته:
كنت أنتظر حكم الإعدام ولكن ((الشقي عمره بقى)).
ويرد الباشا:
السجن سبع سنوات مع الأشغال الشاقة معناه الموت المحتم.
وتجيب سلوى:
طالما هو حي فجرمه لا يزال حياً.. وخزيي وعاري باقيان أيضاً.
ويقاطعها والدها:
أي خزي وعار.. أرجو ألا اسمع منك بعد اليوم هذه العبارة لقد اراحنا الله منه وكفى.
وترد سلوى:
ولكني ما زلت زوجته واسمي مرتبط باسمه.
لكل عقدة حل يا بنيتي...
ثم يغير مجرى الحديث فيقول مخاطباً سلوى:
ألم يهاتفك سامي اليوم.. وهل هو آت..
نعم هاتفني وقال أنه مشغول بالمرضى الذين غصت بهم سرر المستشفى وردهاته وأروقته وإنه حزين لاضطراره إلى عدم استقبال مرضى كثيرين.
وتردد الأم عباراتها الأولى:
نجح هذا الشاب ودخل اسمه في مصاف العظماء...
وتمسح سلوى دمعة ترقرقت في محاجرها فيقول والدها محتداً... ومشفقاً في نفس الوقت:
ما لك يا بنيتي كلما ذكرت سامي وأمجاد سامي تبكين.
أبكي لأني أضعت سامي من يدي واستبدلته بمجرم أثيم.
وتهدأ حدة الباشا. وتغلب الشفقة عليه فيصحو ضميره هو الآخر من سباته.. فينطلق لسانه قائلاً:
كلنا شركاء في الجريمة يا بنيتي.. هوني عليك.. إن عطف سامي.. وحدبه على إن دلّ فإنما يدل على أنه ما يزال يطمع فيك..
وتقاطعه سلوى متمثلة:
وتجتنب الأسود ورود ماء
إذا ولغت كلاب الحي فيه
ويجيبها الباشا:
هذه نظرية الحب الجنسي التي كنت تستهجنينها.. إن حب سامي لك حباً سما على المادة وترفع عن الصغائر..
وترد سلوى:
إن معاملة سامي لنا يا أبتاه سهام تسدد إلى قلبي إنه يجزي الإساءة.. بالإحسان والنكران بالعرفان.
وتحز كلماتها في نفسه حتى لكأنها سهام تصيبه في نحره فيمور أسفاً وحزناً ويكظم ما يتعاوره ويكبت صراخ وخز ضميره وأنينه.
وفي هذه الغمرة من مد الآلآم وجزرها وارتطامها وارتدادها وفيضها وحسرها تهبط عليه فكرة يراها سهلة صعبة قريبة بعيدة وقد تتراءى له سراباً أو حلم صيف ولكنه الأب الذي صقلته التجارب وعركته السنون.. يصمم على أن يقتحم ميدانها ويتسابق في مضمارها وينزل حلبتها لعله يكفر عن سيئات اقترفها في حق ابنته: ضحية أنانيته وغروره وعنجهيته وكبريائه وتقاليده وعادته إنه يرى فلذة كبده تذوب أمامه كالشمعة الموقدة في محراب الألم والحرمان فليلحق الشمعة قبل أن ينطفىء أخر الضياء فيها.. قبل أن يلفظ نورها آخر خفقة.. ولما انتهى إلى ما انتهى التفت إلى ابنته قائلاً:
سلوى.. لقد قصرنا مع والدة سامي قصوراً لا تشفع فيه شفاعة أحد كان يجب أن تقيم لها حفلة عشاء احتفاء بها كان يجب أيضاً أن نحتفي بنجاح سامي ونكرمه لما قدم لبلدنا من خدمة عظيمة وتقديراً - في نفس الوقت لما أسداه إلى في مرضي الأخير.. إن سامي يا سلوى يستحق أن توهب له المهج الأرواح إنه جوهرة لا تقدر بثمن..
وتهتف سلوى ضاحكة من أعماقها لأول مرة بعد ليل المآسي الطويل فتقول:
الله.. الله.. على هذا الغزل الرقيق.. أنت عذول خطير يا بابا قومي يا زينب وهاتفي والدة سامي وادعيها هي وهنداً وسامي وفؤاداً على العشاء مساء غد..
وتدعوهم والدة سلوى فيقبلون.. وينتظم شمل المدعوين حول مائدة.. تفننت سلوى في تنسيقها وتزيينها بالإضافة إلى ما حفلت به من ألوان الطعام وبعد الأكل ينتثرون على الأرائك يتجاذبون أطراف الحديث.. وتفاجئهم.. هند بقولها أن الحكومة قد قررت - بناء على الدعوات التي تلقتها من عدة جامعات طبية في أوروبا وأمريكا - إيفاد الدكتور سامي في زيارة لهذه الجامعات تستغرق ثلاثة شهور وذلك لإلقاء محاضرات فيها. عن اختراعه الجديد...
ويصدم الخبر سلوى ويزعج والديها ولاسيما الأب فقد كان يفكر في مشروع يصلح به غلطته ويزيح به تبكيت ضيره وتأنيبه الموصول.. على أن الثالوث تمالك أعصابه وترك الباشا للزمن تدبر ذلك وهكذا تجلد فكان أول المهنئين لسامي على هذه الأختيار وأعقبته زوجته بعبارات في هذا المعنى.
وأردفت سلوى قائلة:
أرجو أن يحفظك الله يا سامي في حلك وترحالك وأن يعيدك إلينا سالماً موفقاً متوجاً بأكاليل المجد والفخار.
ويشكرها سامي على تمنياتها الطيبة وتدعو لها والدته بما أسعفته ذاكرتها لها آنئذ من دعاء وابتهالات.. وتسأل سلوى سامي عن موعد سفره.. فيجيبها:
في مطلع الأسبوع القادم إن شاء الله..
ويقاطعه الباشا:
لقد تعجلت سفرك يا دكتور سامي.. ولم تترك لنا فرصة أداء بعض ما لك في عنقي من دين..
ويجيب سامي:
استغفر الله يا باشا.. إنني لم أقم إلا ببعض ما يقوم به ولد نحو والده..
وتقول والدة سلوى:
لقد عملت أكثر مما يفعل ولد بار لأبيه..
ويتفصد جبين سامي خجلاً ويقول:
أخجلتموني يا ناس..
وتنقذ هند أخاها من هذا المأزق فتنفح الحاضرين بأحدث نكتة قرأتها ويردف ظلها الدكتور فؤاد بآخر فكاهة سمعها وتنتهز سلوى فرصة انشغال هند وفؤاد مع والديها في الحديث فتتطلع إلى سامي بعينين فيهما ألف معنى ومعنى لا يدركه سواه ويتطلع هو إليها بعينين فيهما أكثر مما تفكر أو تعرف.. إن في عيني سلوى خوفاً مبهماً من هذه الرحلة...
إنها أعادت إلى ذاكرتها أسطورة حب سامي لفتاة أجنبية كانت تزامله أيام دراسته في أوروبا إنها تخشى أن زواجها من جلال والعار الذي جللها به جلال قد يسولان لسامي التحلل من بقائه على حب امرأة في عصمة غيره امرأة باعته رخيصاً في سوق (الكانتو) إن المغريات في الخارج لا حد ولا مقاييس لها وشهرة سامي سبقته وخلقت حوله هالة من المجد بالإضافة إلى ما يتمتع به جمال وخلق وخلق..
مر هذا المركب التائه في بحيرات عيني سلوى وهي تحدق في سامي وتقاذفت أمواج الظنون المتلاطمة وعواطف الريب العاتية هذا المركب المنكود تعلو به فينحر طريقه بين اللجج السوداء وتهبط به حتى يكاد يغرق في خضمها.. وأخيراً.. وبعد أن أوشكت أنفاس المركبة تخمد رسا على شاطىء الأمان في بحيرات عيني سامي وهو يتطلع إليها.. فإذا بنفس سلوى تقول لنفسها فليذهب سامي إذن على بركة الله..
وسافر سامي في رحلته الطويلة ووطنت سلوى نفسها على الصبر واستمرأته بقوة خارقة وشجاعة هائلة كانت موضع استغراب والديها يتحدثان عنها كلما خلوا إلى نفسيهما..
وفي ضحى ذات يوم تذكره سلوى لن تنساه.. تلقت مكالمة تليفونية من مدير السجن ينبئها أن جلال بينما كان يكسر مع زملائه السجناء.. بعض الصخور الكبيرة في الجبل انقلبت إحداها عليه فسحقته ومات في الحال.. وإن عليها أن ترسل من يتسلمه ويتولى دفنه فتجيبه إنها سترسل إليه من يقوم بذلك.. وتنهي المكالمة ثم تسرع إلى والديها تبلغهما الخبر..
فيقول الباشا:
يا لبشاعة المصير.. مسكين ربنا يرحمه ويهون آخرته ثم يلتفت إلى ابنته قائلاً:
الدكتور فؤاد فقد تركت له جيشاً من المرضى ولكن البركة فيه.. قام عني خير القيام..
وتقاطعه هند مازحة:
فكرك كان مشغولاً بفؤاد وبمرضاك.. أم بشيء آخر..
ويضحكون جميعاً.. وتغض سلوى طرفها استحياءاً..
ويجيب سامي:
دائماً تمزحين يا هند أنت وفؤاد..
ويدخل الخادم وبيده صينية القهوة فيقول له سامي:
ضع القهوة وانصرف.. ويستغرب الجميع من لهجته هذه..
ويتطلعون في شغف إلى ما يتبعها.. ويقطع سامي استغرابهم بقوله:
سيدي الباشا.. هل تسمح لي بالكلام..
ـ تكلم يا بني بملء حريتك فأنت في بيتك..
ويقول سامي:
يشرفني يا سعادة الباشا أن أتقدم بطلب يد ابنتك العزيزة سلوى وأرجو ألا تخيب رجائي..
وتشيع الفرحة في وجه الجميع.. ويلتفت الباشا إلى ابنته وقد تورد خداها خجلاً فيقول:
ما رأيك يا سلوى..
وتسكت سلوى ويزيد وجهها تورداً واحمراراً.. فيردف الباشا قائلاً..
السكوت إقرار.. مبروك يا بني.. مبروك يا سلوى..
ويهلل الجميع مباركين ومعانقين.. وينهض سامي فيقبل يد والدة سلوى ووالدها فيمسك هذا بيده ويقول لابنته:
ـ تعالي إلي.
تدنو منه فيمسك يدها بيده الأخرى ويقول والجميع يرددون..
ـ الحب الخالد لا يفنى ولا يموت..
- انتهى-
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2558  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.