شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نظرات في القصة السعودية
"الحـب لا يـكفي"
مجموعة قصص لمحمود المشهدى
سرني أن أرقب عن كثب معالم للنهضة الأدبية في المملكة العربية السعودية، وأن أدرس طائفة من الأعمال الأدبية لبعض المؤلفين.
ومن واجب الكاتب أو الناقد ألا يتعجل على أديب أو على أدب إلا إذا قرأه قراءة فاحصة توقفه على طبيعة هذا الأدب واتجاهاته في ضوء تصوره لمقومات هذا الفن كما عرفها، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما يقول الأصوليون.
ولست أكتم السامع أو القارئ أن النشاط الأدبي في السعودية لم يحظ بالعناية الجديرة به في عالمنا العربي أو عالمنا الأدبي، وأن هناك تقصيراً ملحوظا في التعريف بهذا الأدب وأعلامه، وفي النقد المفيد البناء الذي يشيد به ويقومه.
ولعل من جملة الأسباب في هذا التقصير عدم ذيوع هذا الأدب، ونشره بين الأدباء والمتأدبين والنقاد في أرجاء الوطن العربي، وبيئاته العلمية والأدبية، الذين لا يعرفون إلا عدداً قليلاً من هذه البلاد ومن أعمالهم الفنية على الرغم من هذه الطاقات الحافلة بالنتاج التي تغري بالقراءة وتشجع على النقد والتقويم.
وهناك ظاهرة رديئة في حياة النقد الأدبي في أيامنا، وهي أن كثيراً من الذين يزاولون صناعة النقد لا يكلفون أنفسهم مؤنة البحث إلا إذا دفعتهم عوامل ذاتية، فلا يكتبون إلا عن أدباء تصلهم بهم عوامل الصداقة أو الولاء، أو علائق البغض والعداء، ليكيلوا للأولين ما شاءوا من ضروب المجاملة والثناء، ويلهبوا ظهور خصومهم بما استطاعوا من التجريح أو التشهير. ومن ثم لا يربح النقد الأدبي شيئاً في حياته، ولا يتقدم خطوة نحو غاياته، ولا يفيد الأدباء شيئاً من نقدهم في التقويم أو التوجيه.
وعملية النقد على الرغم من هذه الآفات عملية طبيعية، ووظيفتها ضرورية، لبعد أثرها في تنشيط الحياة الأدبية، والأخذ بأيدي الأدباء، وقيادتهم إلى مظان الإبداع، وأسباب الإجادة والإتقان.
* * *
وقد سرني أن أشهد صحوة الحياة الأدبية في المملكة العربية السعودية في نهضتها الحاضرة، وأن يصل ذوو المواهب منهم الأمجاد الراهنة بأمجاد أسلافهم العريقة في هذا الفن الرفيع، وهي أمجاد يسجلها التاريخ الأدبي في أنصع صفحاته، وأروع ما حفظ من أعماله وأعلامه.
وإذا كان يقال إن الأمة العربية شاعرة بطبيعتها، قائلة أو متلقية، وإن هذه الطبيعة لم تزايلها في أي عصر أو في أي مصر، فإن قرائح أدبائها قد تفتقت في هذا الزمان لتضيف إلى تراثها الحافل في فن الشعر أجناساً أدبية أخرى في مقدمتها الفن القصصي والفن المسرحي . وقد ازدهر الفنان بقوة في بعض البلاد العربية، وكان لهما رواد معروفون، أصبحت آثارهم تقرأ في كل مكان، ومن هذه الآثار ما نقل إلى لغات أخرى من اللغات الحية.
ثم راج الفن القصصي بخاصة في ربوع العالم العربي، وشارك الأدباء السعوديون في هذه النهضة القصصية.
* * *
أقول هذا وبين يديّ عدد من التأليفات القصصية كتبها أدباء سعوديون، استوحوا موضوعاتها وأفكارها من واقع الحياة التي يحيونها في هذه البلاد، والأماني التي يحلمون بها لأنفسهم، أو للجماعة التي يعيشون في ظلالها.
وفي طليعة هذه الأعمال بين يدي مجموعة قصصية نشرها الأستاذ محمود عيسى المشهدي تحت عنوان "الحب لا يكفي".
و"الحب لا يكفي" هو عنوان القصة الأخيرة في تلك المجموعة التي تضم إحدى عشرة قصة.. وقد قدم هذه المجموعة القصصية معالي الأستاذ الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ بكلمة تحية، قال فيها أنه عاش مع المؤلف من خلال هذه القصص ساعات، يتنقل فيها من قصة إلى أخرى، فيلتقي في كل قصة بمقومات عدة، فهي تمتاز بالأسلوب المرن الذي يخلو من التكلف. وتعالج في وضوح كثيراً من المشكلات الاجتماعية، مع قدرة فائقة على التصوير، لا تدع القارئ يستطيع انتزاع نفسه من الاندماج في الأجواء التي يتحدث عنها، والعيش مع أبطالها.. وقال إن مقومات القصة الناجحة هي القدرة على التصوير، والبراعة في الأسلوب مع البساطة ما أمكن، ثم الهدف الذي تسعى القصة إلى بلوغه.
وفي رأيه أن هذه المقومات متوافرة في هذه المجموعة القصصية.
* * *
والطابع العام للمؤلف في هذه القصص القصار أنه أديب يعيش في مجتمعه، ويستوحي أحداث قصصه من البيئة التي يحيا فيها، ومن الجماعة التي يعيش بينها، ثم هو لا يقتصر في جولاته الفكرية على مدينة بذاتها، أو بلد بعينه، ولكنه يجول بهذه الأفكار في نواح شتى من وطنه المترامي الأطراف.
ونستعرض الآن شيئا من هذه القصص، ثم نعود إلى الحديث عن طبيعتها ونوعها، وعن القيمة الفنية في كل منها.
وخلاصة (الأخت الوسطى) وهي القصة الأولى في هذه المجموعة أنه كان لبعض الرجال ثلاث فتيات، بدأت الكبرى حياتها الزوجية سعيدة بزوجها، وما أن مضت عدة أشهر حتى دب الخلاف بينهما لبعض الظنون التي أدت إلى إسراع أبيها بطلب طلاقها، فندمت على ما كان منها، ثم عاودها الحنين إلى عش الزوجية، ولم تستطع أن تعلن هذا الحنين، لأنها كانت سبب ذلك النزاع الذي أفضى إلى الطلاق على كره منها، فقضت سنين من عمرها في كمد، وفي هم مكظوم في بيت أبيها.. وتدخل الأب في زواج أختها الثانية، فأملى عليها الزوج الذي تخيره، وهو شيخ متصاب في عمر والدها، وامتثلت على كره منها، وصبرت على البلاء، حتى حاولت أن تجهض الجنين الذي حملته في بطنها، فكان ذلك سبب القضاء عليها.
وأحس الأب بجريرته، وندم على ما كان منه.. واضطرت الأخت الصغرى أن تصارح أباها بهموم أختها الكبرى، وحنينها إلى العودة إلى زوجها الذي كان قد طلقها طلقة واحدة، فاستجاب الأب وأعادها.. وثاب الرجل إلى رشاده، فآلى على نفسه ألا يزوج الثالثة إلا بمن تحبه، وترضاه زوجاً لها.. وبذلك تنتهي القصة.
وهذه القصة كما رأينا تصور مشكلة من مشكلات المجتمع، وهي حجب الفتيات عن إبداء رأيهن فيمن يختارون أزواجا لهن، وعدم إتاحة الفرصة لهن للتعرف عليهم. فقد صور الكاتب العروس وأختيها، وهن يختلسن النظر من ثقب الباب، لرؤية الزوج المنتظر، وصورها وهي حزينة نادمة على فراقها لزوجها، وسرعة أبيها في طلاقها، وسعادتها وهي تعود إلى عشها في بيت زوجها، بعد تمردها في غير موجب للتمرد، كما صور أختها الوسطى وهي تكابد آلام النفس وعذاب القلب لتزويجها بشيخ متصاب في عمر أبيها، واستسلامها للأقدار حينا، ثم محاولتها الفرار من الحياة كلها.
وكما صور الصغرى، وهي تخشى المصير الذي دفعت الأقدار أختيها إليه، ثم ثورتها على أبيها الذي نصب حجاباً كثيفاً بينه وبين بناته، فلم تجرؤ واحدة منهم على مكاشفته بحقيقة مشاعرها، بدافع الحياء، أو بدافع مجاراة التقاليد الشائعة في البيئة، حتى يضطر الأب أخيراً إلى التنازل عن كبريائه، رحمة ببناته.
* * *
وخلاصة (عاطفة الأم) وهي القصة الثانية في هذه المجموعة، أن أرملة شابة حرمت نفسها من الزواج، لتفرغ لصغيرها الذي منحته أقصى ما تستطيع من العناية، حتى تحقق أملها وأمل أبيها قبل وفاته المفاجئة أن يعيش حتى يرى وليده، وقد خطا في طلب العلم خطوة بعد خطوة، حتى يصبح طبيباً... وظلت الأرملة الشابة ترعى ابنها، وتهبه الغالي من حبها، حتى يسر الله لها ما كانت تحلم هي وأبوه به، فكان أول زملائه في امتحان الشهادة التوجيهية، وقررت الحكومة بعثه على نفقتها لدراسة الطب في ألمانيا. وسافر لغايته، وودع أمه الوالهة، وبقيت تنتظر عودته، وتحرقها الأشواق، ويؤرقها الفراق.
وليس في هذه القصة شيء بعد هذا سوى تصوير عاطفة الأمومة، ومشاعر الأم نحو أملها عند سعادتها بلقائه، ولوعتها عند فراقه.
* * *
وفي قصته (دموع) صور الكاتب مشاعر طفل مات أبوه، وهو لا يعرف معنى الموت، فبدا مدهوشاً من مظاهر الحزن والبكاء والنحيب في ليلة العيد التي كان ينتظر في لهفة صباحها ليسعد مع أطفال الحي، مزهواً بثوبه الجديد، ومأخوذاً بما كان يراه من تلطف الناس له وعطفهم عليه، والتخفيف من لوعة الصدمة التي كان لا يشعر بها، ومن مراسم الصلاة والدفن لا عهد له بها، حتى لقنته أمه كل تلك تلقينا، فأحس بالصدمة، وأخذ يجري مذهولاً، باحثاً عن الموضع الذي سجي المشيعون أباه فيه..
وقد تحدث الكاتب بلسان ذلك الطفل، وهو ما يزال طفلا، وكان أحرى به أن يعبر عن هذه المشاعر المستقرة في عقله الباطن بعد أن يجاوز هذه المرحلة من عمره إلى مرحلة النضج أو الإدراك، ليكون ذلك أقرب إلى طبيعة الأشياء، حتى يكون لبطل القصة كل شيء فيها من المشاعر والأحاسيس الملائمة له في عالم الواقع.
ثم أن هذه القصة ليس فيها سر أو عقدة حلها التسلسل الطبيعي للأحداث، لأن ذلك فوق مستوى البطل، وما يتوقع منه، حتى لقنته أمه السر أو حل العقدة تلقينا كما ذكرنا.
* * *
وفي (المعجزة) قصة حب برئ بين طفلين، نما هذا الحب بنموهما، حتى إذا كبرا لزمت الفتاة بيتها، وانقطع اللقاء بينها وبين حبيبها الذي شغفها حبا، وكان اتفاق بين أبويهما بتزويجهما، ثم حدث بين الأبوين شقاق أدى إلى فصم عرا الألفة بين الأسرتين إثر نزاع بينهما على تجارة كانا يشتركان فيها، وتفقد الفتاة أملها في زواج من تحب، ويقدم لها أبوها غيره، ويتم الإعداد لليلة الزفاف، وكلما قرب الموعد وجف قلبها، وخارت قواها، وتوجهت بقلبها إلى السماء ضارعة إلى ربها أن يعيد إليها حبيبها.. وما تزال في ظلمة الليل تتفتح أبواب السماء، فيدق الحبيب القديم باب بيتها ليستقبله أبوها بالبشر والترحاب.. ثم تكون المعجزة !
وتصور القصة براءة الطفولة، وتتابع عواطف الصغيرين في نموها واكتمالها، كما تصور اختلاف الآباء الذي يؤدي إلى تحطيم قلوب الأبناء، وتصور الأمل الذي يداعب النفوس على الرغـم من ظلمات الواقع التي تدعو إلى اليأس والاستسلام.
ويجيد الكاتب إجادة واضحة في تصوير خلجات النفوس، ليس في هذه القصة وحدها، بل في سائر قصص المجموعة، كما تعالج هذه القصة، فوق الإجادة في التعبير عن خلجات النفس الإنسانية، جانبا من الجوانب التي تؤثر في الحياة الاجتماعية.
فإذا حاولنا التصنيف فإن هذه القصة تدخل في عداد القصة النفسية، والقصة الاجتماعية، لأن فيها خصائص كل منهما، وذلك هو الطابع المميز لأكثر القصص التي كتبها محمود عيسى المشهدي، مع تغلب خصائص أحد الاتجاهين - وأعني بهما الاتجاه النفسي والاتجاه الاجتماعي على خصائص الاتجاه الآخر كما رأينا في قصة "الأخت الوسطى" التي برز فيها الاتجاه الاجتماعي، وفي قصتي "دموع" و"عاطفة الأم"، وقد برز فيهما الاتجاه النفسي !
* * *
وفي قصته (ضحية حب) يبرز الجانب الاجتماعي، فهي قصة طفل تعهده أبوه بالعناية، لأنه رُزقه بعد أن رُزق بأربع بنات، ولذلك هدد أبوه أمه بالطلاق إن جاءت بأنثى، فحقق الله أحلامه وأحلام أمه، فكان المولود الخامس ذكراً.. كان أبوه على جانب من الثراء، وكان كل همه أن يقر برؤية ابنه المدلل، ولا يعنيه أن ينجح في مدرسته أو يخوض معترك الحياة في عمل ينفعه في حاضره أو مستقبله، فنشأ فتى مدللا يتقلب في فراش النعمة، يُخفق في دراسته، ويصبح عاطلاً، والأب راض بهذا الإخفاق، لأنه يخشى عليه من عناء الدرس والتحصيل، ثم يزوجه ليتم سعادته..
وأخيرا تتبدد ثروة الوالد بفعل الأحداث، فيفقد ماله وتجارته، ويبيع أثاث منزله. ولا يحتمل الوالد تلك الصدمة فيموت، ويذر فتاه المدلل وفي عنقه مسئولية الأسرة الكبيرة، ولم يكن في وسعه أن يعمل شيئاً، فلا علم ينير له الطريق، ولا حرفة تحفظ عليه ماء وجهه، ولا أمل في مستقبل يتطلع إليه! وهكذا ضاع الفتى ضحية لحب أبيه، وفرط إشفاقه عليه، حتى فقد الثقة في نفسه، وأخذ يفكر في الهروب من الحياة !
وبذلك تنتهي القصة التي تمثل صورة من الصور الفاشية في جوانب المجتمع الذي يضيق بولادة البنات، ويهمل تربية الأبناء بدافع حبهم ذلك الحب الذي يجنون ثمرته جهلاً وشقاءً.
* * *
والصورة العامة لهذه القصة وأمثالها مما مرّ، أنها أشبه باللوحات التصويرية، التي أجاد فيها الكاتب الرسم بالكلمات، وترادف النعوت والصفات، وبدت فيها قدرته الواسعة على تصوير خلجات النفوس، ونبضات القلوب، في أسلوب مؤثر أخاذ، يغلب عليه الطابع الخطابي الذي يقنع بأدلته، ويستثير بحلاوته.
وقد نتساءل عن مدى توافر العناصر الفنية التي يقوم عليها الفن القصصي في مثل ما مرَّ من القصص التي عرضناها.
ولا شك أننا سنجد البون بعيداً بين هذه القصص، وما سنعرض له من سائر قصص هذه المجموعة، من حيث توافر هذه العناصر والمقومات في بناء القصة بعامة، والقصة القصيرة بخاصة.
* * *
"رب يوم تصلك فيه دعوة منمقة لحضور حفل زفاف قريبك، أو صديقك أو جارك ! أو رب يوم تكون فيه ماراً، فيستهويك منظر الأضواء وهي تتلألأ على واجهة المنازل بينما تتهادى إلى أذنيك أصوات الدفوف والزغاريد، وهي تنبعث من الداخل تزف إحدى العرائس إلى عريسها..
إن أول ما أطلبه منك هو أن تنتظر قليلاً.. لا تستعجل.. لا تشمر عن ذراعيك، وتذهب حالا لتشارك العريس فيما دعاك من أجله.. ولا تعجل منظر الأضواء، وأصوات الدفوف، ورنات الزغاريد، تستهويك فتقف متسمراً في مكانك، وأنت تشع على شفتيك ابتسامة حلوة كبيرة، وكأنك تقول للعروسين: مبروك، متمنياً لهما الرفاء والبنين.. !
كلا ! بل انتظر قليلاً. . تريث فربما تكون أنت نفسك مشتركا من حيث لا تدري في ارتكاب جريمة بشعة، لا يقرها قلبك أو عقلك ".. !
بهذه النصيحة، أو بذلك التحذير يسهل قصته التي سمّاها (امرأة للبيع) وهي إحدى القصص الست الباقية من المجموعة القصصية "الحب لا يكفي" التي كتبها محمود عيسى المشهدي.
وتدور قصة "امرأة للبيع" حول طفلة بائسة، ولدت لأبوين شقيا بالفقر والجهل. وماتت أمها في اللحظة التي رأت فيها عيناها نور الحياة.. وكبرت الطفلة فرأت أباها ينظر إليها نظرة السخط والتشاؤم، وكأنها المسئولة عن موت أمها. أو عن فقر أبيها، أو ما كان يجد من ضيق في الـرزق، أو معاناة من مرض يلم به.
كان ذلك الأب لا يجد مصدراً لرزقه سوى أن يعمل "دلالا" ينادي بصوته الجهوري على سلعة صغيرة، فإذا أصاب مشتريا استوفى أجرة ندائه أو وساطته، ليعيش منها مع ابنته وزوجته الجديدة عيشة الكفاف.
وكانت زوجة أبيها تعمل "خاطبة" تطوف الشوارع والأحياء والبيوت، تفتش عن الراغبين في الزواج، من الذين تنقصهم معرفة الأسر، فتقوم هي بهذه المهمة، لترشد كل واحد منهم إلى فتاة أحلامه، ولا يعنيها بعد ذلك أن تكون الصفات موافقة للرغبات، ما دامت قد ظفرت بالأجر المطلوب. وكبرت الفتاة، وأصبحت فتاة تجري في عروقها دماء الشبـاب، وتترقب ساعـة الخلاص من حيـاة الشقاء، وتتطلع إلى من ينقذها من نظرات أبيها وقسوة زوجته، وأخذت تحلم بزوج ينتشلها من البؤس الذي خيم على حياتها، ويطير بها إلى عالم بعيد تنعم فيه بالشباب وبالحب، وبالابتسامة العذبة التي لم تعرف طريقها إلى شفتيها منذ ولدت، وبالحنان الذي حرمتها الحياة منه بفقد أمها مذ رأت عيناها النور.
وجاء فارس الأحلام، كان كهلاً في السابعة والخمسين من عمره، وكانت في السادسة عشرة من عمرها، وكانت له زوجات وأولاد يكبرونها بكثير.. وقد جلبته زوجة أبيها الخاطبة، وباعها أبوها الدلال، وربح كلاهما في الصفقة ما اشتهى من المال، ولم يكن للبائسة أن تختار، ولم يكن لها أن تقاوم.. فاستسلمت الضحية، وصارت سلعة للتجارة.. وامرأة للبيع ! .
* * *
شخصيات فريدة في الحياة يستولي على أصحابها الشعور بالخوف من الموت، فيبالغون في الحرص على الحياة، ويتحاشون التعرض للمخاطر، فينطوون على أنفسهم، ويفرون من المجتمع، ثم يكون قدرهم المحتوم إذا استوفوا آجالهم بأتفه الأشياء التي لم يكونوا يحسبون لها حساباً.. فيتصرف الواحد منهم، كأنه يعيش في عالم وحده، وكثيراً ما يكون في سلوكهم ما يدعو إلى السخرية والاستهزاء.
ولم يكن هذا السلوك إلا مظهرا لوقوعهم تحت تأثير بعض العقد النفسية التي تشكل تفكيرهم، وتلون سلوكهم بصبغة فريدة. وعلى قدر شدة العقدة النفسية وعمقها، يتقبل الناس سلوك ذلك الشخص المعقد، أو ينفرون منه، فيرثون له، أو يستهزئون به..
تلك المعاني والأفكار يضمنها محمود عيسى المشهدي إحدى قصصه النفسية الجيدة، التي سماها (قشرة الموز) وهي تصور إحدى هذه الشخصيات المعقدة التي عاشت عيشة غريبة عن حياة الناس.. كان بطل القصة شاباً في الثلاثين من عمره، يقبل على الحياة وكأنه شيخ في السبعين يخشى أن يفوته شيء من الدنيا قبل موته القريب..
كان يخاف الموت، ويخاف كل ما يتصور أنه يؤدي إلى الموت..
كان يخشى الظلام، فقد يكون من المحتمل أن يحدث في الظلام شيء يفضي به إلى الموت.. كان يخشى المرض، فإذا ألمت به وعكة خفيفة.. تردد على جميع أطباء بلده، لا يهدأ له بال حتى يجد بين يديه أكياساً من الدواء، يراها تضمن له السلامة والنجاة من الموت..
كان يخشى العربات، ولو كانت تسير بسرعة السلحفاة، ولا يعبر الشارع إلا إذا خلا تماماً من كل صنوف المركبات !.
كان يستخدم الحمار في تنقله، لأن التصادم بين الحمير، لا يؤذي ولا يفضي إلى الموت. .
كان يخشى المساكن العالية، ويتحاشى المرور بجانبها، مخافة أن تنهار، فيموت بين الأنقاض، فسكن في منزل مبني من الخشب الخفيف، وسقفه قطعة من المعدن الخفيف "الألومنيوم" لا تقتل إذا انهار السقف على من فيه.
حرم نفسه من أسباب الحياة الحديثة، على الرغم من وفرة ماله، لأنها قد تؤدي إلى أحداث تفضي به إلى الموت..
كان كل ذلك لعقدة نفسية أحدثت آثارها في سلوكه وفي شخصيته، وقد كان سبب هذه العقدة أن المنزل الضخم الكبير الذي كانت تقطن فيه أسرته، قد انهار على من كانوا فيه، فلم يبق منهم أحد !.
وفجأة كان يسير في الطريق، فأنزلت قدمه فوق قشرة موز مهملة كانت ملقاة على جانب الطريق فسقط على الأرض فاقداً الحركة والحياة !.
وشخصية البطل في هذه القصة ليست من الشخصيات العامة أو الكثيرة في المجتمع الإنساني، وإنما هي إحدى الشخصيات الفريدة في ذلك المجتمع.. وهذه القصة إحدى القصص النفسية التي برع الكاتب في تأليفها، وحشد فيها كثيراً من آثار ثقافته وقراءته في مباحث علم النفس.
* * *
والبطل في قصة (الوهم الكبير) رجل أنيق، كان واحدا من أفراد أسرة معروفة بين الناس بالثروة والجاه والسلطان، وكان قد ذاق طعم الرفاهية والجاه منذ نعومة أظفاره، وعندما بلغ العشرين من عمره حلت كارثة بأفراد أسرته، فبددت شملها، وأفقدتها ثروتها وجاهها..
وعز على هذا الرجل أن يبدأ في بناء حياته من جديد بالعرق والصبر والكفاح الذي لم يتعوده في طفولته وصباه.. فانطوى على نفسه، سابحاً في أحلام عريضة، غارقاً في وهم كبير كانت إحدى العرافات قد لوحت له به، وهو أن معجزة ستحدث يوماً ما تعيد إليه أموال أسرته وجاههم وسلطانهم.. ومرت سنون وهو ينتظر أن تتحقق هذه المعجزة، كان يقترض ما يحتاج إليه من أصدقائه، وممن يحيط به من أصدقاء أسرته، حتى سئموا منه، وأمسكوا عن مد يد العون له، فلم يجد بدا من الرحيل عن بلده، فاستقر في مدينة صغيرة بعيدة، في غرفة مظلمة رطبة، وما يزال يحلم بالمعجزة التي وعدته به العرافة، ولا يغادر مأواه إلا إذا عضه الجوع، فيرتدي ما تبقى من ثيابه الأنيقة، ليسير في شارع طويل، يرتدي عباءته السوداء الواسعة، ويمشي في خطوات هادئة رزينة، تغلب عليها الغطرسة والخيلاء، لينتهي إلى دار لإحدى الجمعيات الخيرية، توزع البر والصدقة والطعام، فينال منها ما يشبع جوعه في خفية عن العيون..
تلك هي شخصية البطل كما تصورها القصة. ولكن الكاتب لم يعرضها على هذا النحو الذي سقناه فيما يشبه السرد، بل أنه أبدع في تأليف وقائعها في نسق فني، استوفى فيه كل ما يتطلب في القصة الفنية من شروط "الحبكة" القصصية، ففيها البطل وفيها الحدث، وفيها العقدة، وفيها الحل الذي يتمثل فيما سقناه، وهو في موضعه الطبيعي في أخريات القصة.
فقد خرج الكاتب في طلب خبر من الأخبار الشائقة يزين به صفحة الاجتماعيات في الصحيفة التي يعمل بها، فوقع بصره على البطل، وهو رجل وسيم متوسط العمر، عريض المنكبين، فارع الطول، تدل هيئته وخطواته على عظم مكانته، فظن أنه وجد فيه طلبته، فتابع خطواته حتى أجهده المسير، وهو يحاول أن يجتذبه ليظفر منه بحديث طريف، يرضي به صاحب جريدته، والبطل ماض في طريقه يزهو في كبريائه وخيلائه، حتى بدت منه التفاته، لم ينتهزها الكاتب، لأن الشارع في نظره ليس هو المكان المناسب للقاء والحديث، وآثر أن يتبعه حتى يدخل مكاناً يصلح للقاء وللحديث، حتى رآه يتلفت خلفه فجأة، ثم يتجه صوب نافذة كبيرة لمنزل قديم في مكان بعيد عن الناس، فتوارى خلف جذع شجرة كبيرة وهو يراقبه، فرآه يخرج من تحت عباءته السوداء الثمينة إناء حقيرا يمده إلى رجل عجوز يقف خلف النافذة الكبيرة، وإذا الرجل العجوز يعيد إليه الإناء مملوءا بالطعام، ومعه رغيفان من الخبز. ويتناول الرجل الأنيق ما أُعطي له، ويخفيه تحت عباءته، ثم يعود كما جاء مزهوا بغروره وكبريائه وخيلائه.. ثم يكون الحل الذي أسلفناه، وهو التعرف على صاحب هذه الشخصية العجيبة عن طريق الرجل العجوز الواقف وراء النافذة الكبيرة !
وإلى جانب هذا التصوير الفني تعالج القصة ناحية اجتماعية لبعض الأحياء الذين يعيشون أذلاء تعساء متواكلين، في ارتقاب الآمال الكبار، تأتي بها الأوهام الكاذبة، والأحلام الطائشة.
* * *
أما قصة (هدية العيد) فإنها إحدى القصص الإنسانية التي تتميز بها هذه المجموعة.. والبطل في "هدية العيد" هو "العم صالح" بائع "الجبنية" الذي كان له رأس ماله تلك الصينية الكبيرة من النحاس التي ورثها عن أبيه وجده، يغطي سطحها تلك الحبات من "الجبنية" التي كان يقضي هو وزوجته معظم الليل في إعدادها، ليحملها في الصباح فوق رأسه، ويطوف بها شوارع المدينة، ينادي على بضاعته، بطريقته العجيبة التي ألفها الأطفال، فلا يلبثون أن يهرعوا إليه من كل مكان، ولا يمضي غير وقت قليل حتى يلتهم الأطفال كل ما على وجه الصينية من الجبنية، ويعود العم صالح إلى بيته، وقد ربح بضعة ريالات، تتبخر آخر النهار في الطعام الضروري له ولزوجته وأبنائه.
أما في ذلك اليوم الذي ابتعد الأطفال عن العم صالح، لأنهم لم يسمعوا صوته الذي كان يجلجل عادة بتلك النغمة الحلوة العجيبة التي كانت تنبعث من أعماقه، فتسري في كل أرجاء الحارة.
وجلس العم صالح صامتاً كاسف البال، لا هم له سوى أن يطرد الذباب عن بضاعته، وأن ينظر في حسرة وضيق إلى الناس وهم يمرون أمامه يجرون وراءهم خراف العيد التي ابتاعوها من السوق، وكان العم صالح يعد زوجته وأولاده بأن يشتري لهم خروف العيد، ولكنه لم يكن يستطيع الوفاء بما كان يعد به في كل عيد.. ولذلك بقي جالساً وهو حزين كئيب ينظر إلى الناس وهم عائدون إلى بيوتهم، وفي يد كل واحد منهم خروف العيد وانحدرت دمعتان كبيرتان على وجنتي العم صالح، وهو يتخيل زوجته وأولاده فرحين سعداء لو أنه عاد إليهم هذا المساء، وهو يجر وراءه خروف العيد، كما يفعل رجال المدينة.
وفكر طويلاً، لم لا يبيع هذه الصينية النحاسية ليشتري بثمنها خروف العيد ؟
ولكن كيف يبيعها، وهو لا يملك غيرها؟
كيف يبيعها وقد توارثها الآباء عن الأجداد، فيضيع التراث العزيز في لحظة واحدة ؟
أخذ العم صالح يضغط على أسنانه، ويقطب حاجبيه، وكأنه يعتصر البقية الباقية من فكره وأعصابه..
وفجأة لاحت ابتسامة كبيرة بلهاء على كهوف وجهه الحزين.. لم لا يسرق الخروف؟ إنها فكرة جنونية تتراقص أمام عينيه، وحدثته نفسه الأمارة بالسوء أن يفعل.. لولا تذكر العاقبة، تذكر مصير زوجته وأولاده إذا سرق الخروف.
تذكر كرامته وإنسانيته، كيف يلقى الناس؟ وماذا سيقولون عنه؟ سيزدرونه، سيبصقون على وجهه! سيقولون: لص، حرامي.
وارتعشت أوصال العم صالح، فألقى رأسه بين كتفيه..
ونهض العم صالح مسرعاً نحو رجلين يتشاجران ليفض ما شجر بينهما من خلاف، اشترى أحدهما خروفا واشترط على البائع أن يبقيه عنده حتى يحين موعد ذبحه يوم العيد، ولكن البائع يرفض هذا الشرط العجيب..
وتدخل العم صالح يحاول أن يفض الخلاف، لماذا لا يبقيانه عنده، وقص عليهما قصته، فارتاب فيه الرجلان، وهو يقسم، وهما لا يصدقانه، فابتعد عنهما، وهو يجر جسده النحيل جرا، ويتمنى لو أن الأرض انشقت لتبتلعه، وليتوارى عن نظراتهما المرتابة القاتلة !
وغربت الشمس، وهو يتسكع في الطريق على غير هدى، حتى ألفى نفسه أمام داره، وكانت المفاجأة.. لقد هم بإنزال الصينية من فوق رأسه، ولكنه تراجع في ذهول، إنه يسمع في بيته صوت خروف، وأسرع إلى الدخول، ليرى زوجته وأبناءه ملتفين حول الخروف، فرحين مهللين، يطعمونـه ويرقصون حوله..
- لقد أحضره أحد الناس، وقال إنك أنت الذي أرسلته..
هكذا قالت الزوجة ! وفهم العم صالح. وفهم كل شيء. وعرف أن الدنيا لا تزال بخير.
إن هذه القصة من أروع قصص محمود عيسى المشهدي، وأكثرها إمتاعاً وإثارة، بالإضافة إلى توافر الخصائص والمقومات الفنية التي ينبغي أن يقوم عليها البناء القصصي، وتشهد لكاتبها بالأصالة والقدرة البارعة على التأمل والتخييل والتصوير، واستبطان شخصياته التي ينتزعها من واقع الحياة..
* * *
وندع العم صالح وهدية العيد، لنلقي (العم حمزة) وقصته مع (الريال الفضة) فقد كان دكان العم حمزة في جدة، ملتقى فئات كثيرة من الناس، يأكلون "المطبق" الذي يصنعه بيده، ويشربون الشاي، ويقضون بعض الوقت في سماع "حكايات ألف ليلة"، ومغامرات "الشاطر حسن"، وبطولات "أبو زيد الهلالي" يرويها رجل كفيف، كان العم حمزة يعطف عليه، ويستبقيه معه في دكانه ليؤنسه في وحدته، ويسلي أصدقاءه الذين يفدون على دكانه كل مساء..
ولم يحاول العم حمزة أن يجمع لنفسه مالاً، أو يبني داراً، أو يفكر في الزواج، فقد كان زبائنه كل شيء في دنياه، وكان دكانه هو كل ماله في الحياة، هو منزله ومأواه، وهو مقر عمله ومصدر رزقه، وملتقى زبائنه الذين أحبهم وأحبوه، وملئوا حياته كما ملئوا قلبه بالسعادة والحب..
وفارق العم حمزة دكانه عصر يوم من الأيام إلى ميناء جدة، ليرى "السقالة" الجديدة التي تم إنشاؤها في الميناء، وكانت حديث الناس، وحديث زبائنه الذين كانوا يتندرون عليه، لأنه لا يدري شيئا مما يدور حوله، ولا يعرف إلا دكانه ومطبقه وزبائنه... وصح عزمه في عصر ذلك اليوم فخرج إلى الميناء ليرى تلك "السقالة" التي يتحدث عنها الناس.. وهناك شاهد بعض الناس عند حافة السقالة، وهم ينظرون إلى الجهة العميقة من البحر ويلوحون بأيديهم، ويتعالى هتافهم وصياحهم.
شاهد العم حمزة صبياً صغيرا، يقفز في الماء ليلقى أحد الواقفين على طرف "السقالة" قطعة من النقود، يغطس الصبي خلفها في خفة ورشاقة، ويعود إلى الظهور بعد ثوان، وهو يمسك بتلك القطعة من النقود التي لحق بها قبل أن تستقر في قاع البحر، فيتعالى هتاف المتفرجين وتصفيقهم..
وأثارت تلك المشاهد العم حمزة، فراح ينادي الصبي طالبا منه الصعود، ويستجيب الصبي فيحتضنه العم حمزة، ويسأله عما يدفعه إلى المخاطرة بحياته، وبتعريض نفسه للغرق وللسمك المفترس الذي يكثر في ذلك البحر، والصبي لا يجيب، ولكنه يدفن رأسه في صدر العم حمزة، وكأنه يحتمي به. ويعلق بعض الواقفين في سخرية محمومة بأن الصبي أخرس، ولا يعرف له أهل، فهو ابن البحر كما يعتقدون.
ولم يعبأ العم حمزة بكلامهم، وأصر على أن يصطحب الصبي إلى دكانه، ليتبناه ويحميه، ويعوضه عما فقده من حنان الوالدين..
ويخرج العم حمزة من ثنايا حزامه الصوفي ريالا من الفضة، ويقدمه للصبي، كأنه يستميل به قلبه.. ويدهش الصبي لرؤية تلك القطعة الكبيرة، وأبى أن يقبلها إلا إذا انتشلها من الماء، واضطر العم حمزة لموافقته بعد يأسه من إقناعه، فألقى تلك القطعة الكبيرة في البحر، وقذف الصبي نفسه وراءها، ليظفر بها من قبل أن تستقر في الأعماق، ولكن الحاضرون يرتاعون لأن الصبي لم يعد، وبهت الناس وهو يرون العم حمزة يهذي كالمجنون، ثم يلقى بنفسه فجأة في البحر، وحاول بعض من يجيدون السباحة من الواقفين، أن يلقوا بأنفسهم لإنقاذه، ولكنهم فجأة، وكأنهم تسمروا في أماكنهم، عندما وقعت عيونهم على سرب من السمك الضخم المفترس، يندفع في سرعة هائلة نحو العم حمزة، وفي غضون ثوان معدودات كان كل شيء قد انتهى.
وبهت الناس وهم يرون الصبي الأخرس، وقد ارتكز في حزن عميق على سور "السقالة" ينظر إلى البحر بعينين تملؤهما الدموع وكأنه يبحث عن شيء كبير افتقده، شيء أكبر بكثير من تلك القطعة النقدية الكبيرة التي كان يمسكها بكلتا يديه، وكأنه يخشى أن تفلت منه، كما أفلت صاحبها.
وبذلك تنتهي أحداث القصة، أو أحداث المأساة الأليمة، التي وصّلت خيوطهـا كفّ فنان قدير، أو قلم قصصي بارع.
ثم نأتي إلى آخر قصص المجموعة، وهي قصة (الحب لا يكفي) وبعنوانها سميت المجموعة كلها.. ولا نعرف على وجه التحديد علة ذلك الإيثار بالتسمية، فإن في المجموعة قصصاً لا تقل عنها إن لم تفقها في جودة التأليف، وبراعة الخيال، وروعة التصوير، وفي مقدمتها قصة الريال الفضة التي عرضناها آنفاً.
وقد يسبق إلى الظن أن اختيار عنوان القصة عنوانا للمجموعة كلها يرجع إلى طولها بالنسبة إلى طول سائر قصص المجموعة، أو لتأثير كلمة "الحب" في نفوس القارئين، وما تستثيره من ذكريات تجاربهم إن كانت لهم تجارب في هذا الميدان !
والقصة في جملتها ترسم صورة للصراع بين المعرفة والجهل، وتدعو إلى تعليم الفتاة وتثقيفها في عصر تزود فيه الشبان بحظ كبير من فنون المعرفة داخل بلادهم وخارجها، حتى تتوافر الكفاءة التي ترشح الفتيات لحياة زوجية سعيدة.
لقد أسره جمالها ومكانة أسرتها، وتقدم لخطبتها، فرحب به أهلها، وطربت الفتاة لزفافها إلى شاب جامعي مثقف، يحمل على رأسه تاج شهادته العالية التي سمعت أنه حصل عليها من أكبر الجامعات في أوروبا.. ومضى الشهر الأول من حياتهما في منزل الزوجية في سعادة بالحب المتبادل بينهما، ومر الشهر الثاني دون أن يحدث فيه جديد، سوى بعض المواقف المحرجة التي أظهرتها أمام زوجها محدودة الثقافة، بل جاهلة تماماً بأبسط مبادئ القراءة والكتابة، ثم أصاب العواطف المتأججة فتور.. طالبته بأن يأخذ بيدها، بأن يضيء عقلها بالمعرفة، كما أضاء قلبها بالحب، لتكون جديرة به، جديرة بحبه، وبشهادته العالية..
وحاول ذلك حتى ضاق بها وبتعليمها، وكست من حياتهما سحابة من الحزن والقلق، وانتهت حياتهما السعيدة إلى الفراق ثم الطلاق !
* * *
وبعد هذه الجولة السريعة في إحدى عشرة قصة ضمنتها مجموعة (الحب لا يكفي) نستطيع أن نقول أن الكاتب قد وفق إلى حد كبير في تأليف هذه القصص، ورسم أحداثها بعبارة تنبض بالحياة، وقد نجح في تخير شخصيات قصصه، من الشخوص الماثلة في المجتمع الذي يعيش فيه، وكذلك الأحداث التي ألفها، وجمع فيها نماذج من واقع الحياة.
ثم إنه لم يقتصر في تخير هذه الشخصيات على طبقة واحدة دون غيرها من طبقات المجتمع، ولكنه يعرض صوراً مختلفة من حياة سائر الطبقات، ويصورها في سعادتها وفي شقائها، وفي آلامها وآمالها، ففيها أولو النعمة واليسار، وذوو الخصاصة والإقتار، وفيها المثقفون والعوام، وفيها الرجال والنساء والصبيان، وفيها الكهول والشيوخ والشبان، وفيها العابثون وذوو المروءات، وفيها المترفون وإلى جانبهم الذين يحصلون على أقواتهم بالعرق والدموع.
ويزيد في قيمة هذه القصص أن الكاتب استطاع أن يضفي على الواقع ألواناً من المثالية للحياة المتكاملة التي يتصورها.. وبذلك لم يقف الكاتب موقفا سلبيا تجاه الأشخاص والأحداث، كما يفعل كثير من القصاصين، الذين يهدمون ولا يبنون، بل إنه يهدم ليبني، ويقوم أسباب الضعف والفساد باللبنات الصالحة لإقامة مجتمع ناهض قوي سليم.
إن الحياة الأدبية المعاصرة في حاجة إلى أن يتم محمود عيسى المشهدي ما بدأه في إقامة صرح القصة وتأليفها في هذه البلاد في أصالة وقوة وإبداع، رأينا آثاره الواضحة في هذه المجموعة الفريدة.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1689  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.