شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الدكتور عبدالوهّاب أبوسليمان.. ثقافة موسوعية وتواضع علمي رفيع..!
 
عندما قدمت إلى مكة المكرمة -شرّفها الله- دارسًا في بداية التسعينيات الهجرية، كان اسم فضيلة الدكتور عبدالوهّاب أبوسليمان ذائعًا بين طلاب الكلية العريقة مع رصيفتها كلية التربية، وكان هذا الذيوع يقترن بسمات الانضباط والحزم والصرامة التي عرف بها الدكتور أبوسليمان، ولم أكن أتطلّع يومها للاقتراب من هذه الشخصية الفذّة، إلا أنّ اقترابي من رجل الفضل والأدب والإحسان الشيخ عبدالله محمّد بصنوي فتح أمامي أبوابًا، أدين -بعد الله- له فيها، فلقد اصطحبني بداية إلى دار فضيلة الشيخ والفقيه المالكي حسن المشّاط "1317-1399هـ" وهناك رأيت الدكتور أبوسليمان يجلس في درس شيخه المشّاط، منصتًا ومدونًا في تواضع وأدب جم، ثم اصطحبني الوالد البصنوي إلى دار الشيخ محمّد بن ياسين الفاراني، الذي يعد راوية ومحدث الحرمين فضيلة الشيخ عمر حمدان المحرسي "1292-1368هـ"، وكما روى المشائخ السيد محمّد أمين كتبي، والسيد علوي المالكي، والشيخ محمّد خليل طبية، والشيخ صالح إدريس الكلنتني، والشيخ صالح قطان والسيد أبوبكر حبشي، وأبناء الشيخ محمّد ومالك حمدان، وربيبيه أستاذنا الفاضل محمّد حميدة عن الشيخ المحرسي، فلقد روى كذلك الشيخ الفاراني عن الشيخ حمدان ثبته المسمى بـ"مطمح الوجدان في أسانيد الشيخ عمر حمدان، دار البصائر، ط2، 1406هـ/ 1985م".
وتشاء الأقدار أن يتوفى شيخنا علي بن بكر الكنوي، 1399هـ، وكان يدرسنا شرح ابن عقيل في قسم اللغة العربية بمكة، فكتب العبد الفقير إلى الله كلمة رثاء عن الشيخ الكنوي في ملحق التراث، الذي كان يصدر عن هذه الصحيفة الغراء، ويبدو أن المرحوم الشيخ جميل خشيفاتي، وكان من الملازمين لحلقة الشيخ المشّاط حمل الكلمة للشيخ المشّاط، وأعلمني الشيخ الخشيفاتي بعد ذلك، أن الشيخ المشّاط سأله عني، فاصطحبني الوالد البصنوي مرة أخرى لدار الشيخ المشّاط، وكانت حلقته في المنزل امتدادًا لحلقته المباركة في الحرم المكي الشريف، وكان طلابه ومريدوه الأكثر التزامًا بما يقرؤونه من كتب، ويتابعونه من علوم، وسلمت على الشيخ الوقور، وهمس الشيخ الخشيفاتي بكلمات في أذن الشيخ المشّاط؛ فنظر إلي وقال: علي بكر الكنوي وعبدالوهاب أبوسليمان هم من الأبناء في هذه الدار، وعرفت يومها منزلة الشيخ الكنوي ورصيفه أبوسليمان، على ما بينهما من فارق زمني في العمر المبارك، في نفس الشيخ المشّاط، وفي تلك الجلسة المباركة أجازني الشيخ المشّاط جزاه الله خيرًا بالحديث المشهور، الذي يحرص المشائخ على تلقينه لطلابهم، وهو إنما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
وهو من الأحاديث المشهورة التي رواها الشيخان عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكذلك رواه أصحاب الكتب المعتمدة، ويذكر المحدث إسماعيل العجلوتي في "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، ط3، ج1، ص 10" بأن الإمام مالك رحمه الله روى هذا الحديث، ولكن في غير الموطّأ، ولكنّه ينقل عن الإمام السيوطي: أنّ الحديث موجود في الموطّأ من رواية محمّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة.
ولقد كان وفاء الدكتور أبوسليمان لشيخه "المشّاط" مما يعد مثالاً يحتذى، وقدوة صالحة، في زمن أضحى فيه طلاب العلم، أو من حظهم من العلم الشرعي نذرًا، فإذا ما ذكر لديهم أئمة من أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وأبي حامد الغزالي وابن القيم وابن حجر العسقلاني والنووي رأيتهم يتجهمون قائلين هم رجال ونحن رجال، وكلام مثل هذا إن لم يدخل في باب سوء الأدب، فهو يدل على الجهل المركب، وينبئ عن غرور النفس، وما قتل العلم في النفوس، وأزاح النور من القلوب داء الغرور والتطاول على علماء الأمة الذين أكرمهم الله بالعيش في عصور الخير والفلاح.
وللتدليل على وفاء شيخنا أبي سليمان لشيخنا المشّاط هو عنايته بمؤلفاته الفقهية القيمة، فأخرج لنا كتابه المخطوط والهام "الجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة".
ويذكر الدكتور أبوسليمان في المقدمة الضافية، التي شرح فيها عمله في هذا الكتاب، ما يشير إلى تواضعه واعترافه بفضل شيخه المشّاط عليه؛ فيقول: "ولقد أتاحت لي دراسة هذا الكتاب وتحقيقه استمرار تلك الصلة، وتجدد تلك الروابط، وإحياء كثير من الانطباعات والمشاعر التي نعمت بها زمنًا رغدًا، تلميذًا بين يدي المؤلف -رحمه الله- فكانت تتلاقى على صفحات هذا الكتاب روح المؤلّف مدرّسًا، وحضور المحقق طالبًا، وهذه نعمة كبيرة اتصل بها ما انقطع، والتأم فيها ما تفرّق"، ثم لا يستنكف، وذلك دأب الكبار في كل شيء، بأن يكتب قبل اسمه هذه العبارة: تلميذ المؤلّف.
وقد عرفت حلقات العلم في الحرم المكي الشريف كتاب شيخنا المشّاط "إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلّى الله عليه وسلّم"، ولقد قدم الدكتور أبوسليمان لهذا الكتاب الذي احتوى على فصول هامة منها: ذكر أهم وأشهر من ألّف في المغازي منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الحادي عشر الهجري، وقد أشار الباحث أبوسليمان أيضًا: "إن من أبرز الجوانب التي يحرص عليها الشيخ المشّاط شارح منظومة المغازي، هو استخلاص الفوائد والعبر من الأحداث في ما يفيد الأمة الإسلامية، يرفع من شأنها، ويعيد إليها أمجادها، وكذلك الإفادة من التجارب التي مر بها المسلمون في عصر النبوة والخلافة الراشدة، والأخذ بالأسباب التي تقودهم إلى العزة والكرامة، وتباعد بينهم وبين أسباب الذل والانحطاط". [انظر: "إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلّى الله عليه وسلّم، شرح العلاّمة المحدث الأصولي الفقيه القاضي حسن بن محمّد المشّاط قدم له بدراسة الأستاذ الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان، دار الغرب الإسلامي، ط4، 1414هـ، ج1، ص 44- 45].
واهتم الدكتور أبوسليمان بتراث علماء المسجد الحرام، فأخرج مع زميله الدكتور محمّد إبراهيم علي، مجلة الأحكام الشرعية للشيخ أحمد القاري، وهي مدونة هامة في فقه الإمام أحمد بن حنبل، وتصلح مثالاً في موضوع تقنين الأحكام الفقهية والشرعية، وهي قضية مطروحة على بساط البحث والمناقشة، ومن المؤيدين لها فضيلة الشيخ عبدالله بن منيع، حيث طرح الموضوع في الحلقة الثالثة من الحوار الفكري، والتي انعقدت في المدينة المنورة، وكان كاتب هذه السطور مشاركًا في مناقشاتها العلمية مع عدد من رجالات العلم والفكر والثقافة.
كما أخرج الصاحبان، كما يطلق عليهما صديقنا الأستاذ محمّد عمر العامودي، أي أبوسليمان ومحمّد إبراهيم، كتاب الفقيه الشافعي الشيخ زكريا عبدالله بيلا "1329- 1413هـ" الموسوم: "الجواهر الحسان في تراجم الفضلاء والأعيان من أساتذة وخلان"، والكتاب في جزأين وبلغت صفحاته حوالي "900" صفحة، وصدر عن دار الفرقان بمناسبة اختيار مكة عاصمة للثقافة الإسلامية، كما كان للدكتور أبوسليمان الفضل في التنبيه لعدد من كتب الإسناد ومنها: "الدليل المشير إلى فلك أسانيد الاتصال بالحبيب البشير"، لمؤلفه أبوبكر أحمد بن حسين الحبشي العلوي "1320-1374هـ"، وكذلك كتاب المحدث الشيخ محمّد ياسين الفاداني، الموسوم "قرة العين في أسانيد شيوخي من أعلام الحرمين"، ويقع هذا الكتاب في حوالي "500" صفحة، وهو من الكتب الهامة في علم الإسناد، وقد ذاع اسم الفاداني في جميع أنحاء العالم الإسلامي والعربي لرسوخ قدمه في علم الحديث النبوي، وقد أخبرني فضيلة الشيخ صالح بن سعيد اللحيدان، المستشار القضائي المعروف، وأحد المراجع العلمية الهامة في علم نقد الرجال، بأنّه تلقى عن الشيخ الفاداني إجازة في علم الحديث.
ومن الفنون العلمية والبحثية الهامة التي طرقها الشيخ أبوسليمان كتبه عن مناهج البحث العلمي، في العلوم الشرعية والأدبية والتاريخية، كما ترجم عن الإنجليزية كتابًا في هذا الميدان العلمي الهام، وقد أفاد طلاب العلم في جميع جامعاتنا من هذه الكتب، فلقد جمع الدكتور أبوسليمان بين مناهج البحث في حضارتنا العربية والإسلامية، ومناهج البحث في الغرب، حيث أتيحت له الدراسة العليا في جامعة "لندن"، كما أصدر كتبًا هامة عن المعاملات البنكية والمالية الحديثة، مستهديًا في ذلك بعلوم الشريعة السمحة، وتكتسب أهمية هذا الضرب من الكتب لأن باحثنا قد تخصص في علم الفقه، وهو ما دعاه في أحد كتبه بالعلم الأصولي، أي أصول الفقه، ويعتبر كتابه "باب السلام"، الذي فاز بجائزة كتاب العام عن نادي الرياض الأدبي، مصدرًا عن الحركة العلمية والفكرية والثقافية والأدبية في مكة المكرمة، والتي تعتبر القلب النابض لديار العروبة والإسلام، ويكشف الكتاب عن تلك الصلات العلمية التي كانت تقوم بين الحرمين الشريفين، حيث حلقات العلم في مختلف الفنون التطبيقية منها والنظرية، وبين مراكز العلم ومؤسساته في حواضر العالمين الإسلامي والعربي، ولقد كان علماء البلد الحرام تحتضن دورهم وحلقاتهم طلاب العلم والمعرفة من جميع أرجاء المعمورة، ثم تعود تلك الأفواج والجموع لديارها وقد حملت إليها علمًا واسعًا، وفكرًا نيّرًا، ورؤية وسطية ومعتدلة ومتسامحة، وذلك ما تتطلع إليه الأمة في حاضرها الراهن، حتى يحمل أبناؤنا وطلابنا رسالة الحب والسلام.
 
طباعة
 القراءات :440  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج