شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(4)
قبيل غروب الشّمس تمتلئ البرحة بـ(أدلاء) الحرم، يطلقون عليهم في مدينته المحبوبة اسم (المُزوَّرين)، عم (ناصر طيّار) أكبرهم سنًّا يرتدي جبّة وعمامة بيضاء يتوكّأ على عصاه، استوقفه رفيقه في أيام خلت في جزيرة (جاوة) الريس عبدالستّار، أراد أن يداعبه، حاول عم ناصر أن يسكته، تلك أيام قد خلت ورأى الفتى دمعة تنسكب على وجه الطيّار، تمتم بكلمات لكن لم يصل إلى الفتى منها شيء سوى قوله (أسألك يا ربِّ حُسن الخاتمة)، إنّه يناجي مولاه، وكثيرًا ما سمع الفتى هذه العبارة التي كانت تجري على ألسنة القوم في (المناخة)، في (العنبرية) وفي الساحة ترى أي شعور فطري كان يتبطّن تلك النُّفوس إيمانًا بالله وشوقًا إلى لقائه وحُسن ظنٍّ به.
يسير جنبًا إلى جنب مع الريس في أزقّة الحارة، رائحة البخور تنبعث من الدور التي يقطنها أولئك المجاورون الذين صفت نفوسهم، ورقّت قلوبهم، وتسامت أرواحهم.
في الحارة يجلس رجل نحيل الجسم يرتدي نظارة عتيقة يصل ما بينها وبين الأذن حبل رقيق عرف من صديقه (الزَّين) أنّه يعيش وحيدًا ولكن الوحدة لم تورثه حزنًا ولكنّها سكبت في أعماقه أُنسًا وحبًّا في الحياة. كان الفتى يسترق النّظر إليه بين الفينة والأخرى وهم يجلسون في تلك البرحة التي على رغم ضيقها تتّسع لكلّ القادمين من حول الصُفّة بعد أن يكونوا قد جمعوا بضعة ريالات وقروشًا لقاء ما يدفعه لهم الحجّاج والزوّار.
يمد الرجل النحيل يده في جيبه؛ يخرج ورقة من فئة العشرة ريالات ويضعها في جيب شاب تبدو عليه ملامح الانكسار يهرول الفتى في منعطفات الحارة وكأنّ الدُّنيا قد وضعت بكاملها بين يديه، الفتى لم يجرّب حياة الفاقة والجوع والانكسار، ولكنّه كان يحسّ بها في وجوه من فقدوا آباءهم أو ألقت الأقدار بهم في معمعة الحياة دون أن يكون لهم راعٍ أو معين سوى الله وحده.
صديقه الزَّين قال له إنّ الرجل الكريم يسكن قريبًا منه وإنّ ما يجمعه من العمل في سوق الحراج أو من (بخشيش) الحجّاج عند باب جبريل لا يحتفظ به لنفسه ولكنّه يدفع به إلى بيوت ذوي الحاجة في الحارة التي تسكن قلوب أهلها الرحمة. ويسأل نفسه اليوم بعد أن توسّد الثرى قوم عرف طيبتهم وتلمّس عن قرب صفاء دواخلهم وعفّة ألسنتهم يلحّ عليه السؤال؛ بل إنّه ليؤرّقه حتّى يمضي ليله ناحبًا وصباحه عليلاً أيّ شيء سوف يملأ نفسه الظمأى إلى الأيّام الخوالي التي عاشها بين الصُفّة والحارة؟ أيّ داء أسقمه صغيرًا وأعياه كهلاً وكبيرًا؟ أيّ صوت شجي ورقيق كان ينبعث من الدور -مرتلاً أو منشدًا- ثمّ تلاشى فترك النّفس خواء والقلب موحشًا؟ أيّ نبع فاض بالود صافيًا شربه سلسبيلاً فحلّقت النّفس من عذوبته في سماوات الحبّ ارتقاءً وشوقًا وحنينًا؟ أيّ ليل كانت تضيئه وجوه كساها الإيمان نضرة ووقارًا؟ أيّ دفء لامسته أنامل فترك القوم نشوى وهم ينصتون إليه:
أيّ نور وأيّ نور شهدنا
يوم أبدت لنا القباب قباء
فرّ منها دمعي وفرّ اصطباري
فدموعي سيل وصبري جفاء
فترى الركب طائرين من الشّوق
إلى طيبة لهم ضوضاء
فكان الزوّار ما مسَّت البأساء
منهم حلقا ولا الضرّاء
كلّ نفس منها ابتهال وسؤال
ودعاء ورغبة وابتغاء
وبكاء يغريه بالعين مدّ
ونجيب يحثّه استعلاء
فحططنا الرّحال حيث يحطّ
الوزر عنّا وترفع الحوجاء
وقرأنا السلام أكرم خلق الله
حيث يسمع الإقراء
وذهلنا عند اللّقاء وكم أذهل
صبًّا من الحبيب لقاء
ليته خصّني برؤية وجه
زال عن كلّ من رآه الشقاء
ستر الحسن منه بالحسن فاعجب
لجمال له الجمال وقاء
فهو كالزّهر من سجف الأكمام
والعود شقّ عنه اللّحاء
سيّد ضحكه التبسّم والمشي
الهوينا ونومه الإغفاء
ما سوى خلقه النسيم ولا غير
محيّاه الروضة الغنّاء
رحمة كلّه وحزم وعزم
ووقار وعصمة وحياء
وسع العالمين علمًا وحلمًا
فهو بحر لم تعيه الأعباء
 
رفع أصحاب الحوانيت في الحارة (الستائر) عن حوانيتهم مع بزوغ فجر يوم جديد قوم يتزاحمون على فرن المعلم حجازي يبحثون عن كسرة خبز حلال يملؤون بها بطون صغارهم ولربّما غمسوا ذلك الخبز بشيء من الفول أو الخل. وإنّهم ليجدون في ما يأكلون لذّة لا تعادلها أيّ لذّة أخرى فهو من عرق جبينهم وكدّ أجسادهم التي لا تعرف مللاً ولا ترفع صوتًا بالشكوى فذلك ما طبعت عليه حياتهم أو ذلك شأن القوم الذين ارتضوا لحياتهم هذا النوع من الكدّ.
بين فرن (المعلم) و(العين) حيث يحمل السقاة الماء عذبًا إلى حصوة المسجد والتي تنضح بندى الرحمات المتنزّلة من السّماء سمع القوم يتهامسون فأخذه شيء من الفضول فاقترب من حانوت الرّجل ذي البشرة السمراء والوجه الصبوح؛ سمع العم فيّاض يحدّث جاره الأخضر لقد وجدوه في الدار ميتًا ضحى هذا اليوم وحيدًا في الدار التي عاش نائيًا عن الأهل الذين خلفهم وراء ظهره من أجل الجوار الكريم!! لقد مات العم (أحمد هندية) الرّجل الذي يدخل الفرحة على بيوت الفقراء.
كعادته في كلّ يوم يقطع (الزَّين) المسافة الفاصلة بين حارة الآغوات والحوانيت التي تتناثر على الضفة الأخرى من (درب الجنائز)، يقصد بائع البرسيم، يضع على يده ما يتيسر ثمّ يحمل على ظهره ما تقتات به الأغنام التي كانت تحتضنها منازل أهل السكينة والوقار، ويحمل لأهل الدار ما يقتاتون به صباحًا، وقبل أن يدخل الدار وجدني أمامه ترى كيف تولّه الفتى وعشق مواضع الحبّ والصّفاء؟ لماذا ترك وراءه كل شيء وابتاع رفقة الزَّين؟ يسألونه فيجيبهم بدمع يكاد من حدّته يقطر دمًا فلقد بالغوا في إيذائه رموه بما ليس فيه؛ استضعفوا حياءه واستقلّوا طيبته وأرادوا شيئًا وأراد الله شيئًا آخر. نسي الزَّين قوت الماشية وأهل الدار معًا، أخذني بعيدًا لم يكن بيننا وبين بقيع الغرقد إلا بضع خطوات، ومن أمامنا تمرّ عربة (الكارو) تحمل (البقعة) من بساتين (العوالي) وقربان تلك أيّام ولّت وأوقات طوتها مرحلة العمر يا أبتاه!، ينظر الفتى في وجه صديقه يترقّب حديثه بكثير من الشّوق، يفرش (الزَّين) سجّادته التي كان يضعها على كتفه على الأرض، لم تكن الدروب عندئذ مفروشة إلا بالتراب، وشيء من الماء يسكبونه على الطرقات فتغدو باردة، ويهدأ تصاعد غبارها أو يمّحي.
أفسح للفتى مكانًا بالقرب منه، وجّه بصره إزاء المنعطف الذي يقع فيه دار المرحوم -إياه- (الروشان) أصبح خاويًا من وجه الرّجل الذي كان يطلّ منه على الأطفال فيداعبهم بشيء من الحلوى، ألفوه وألفهم وألف كلّ فرد في ذلك الحي العتيق من يجاوره أو يؤنسه أو يؤاخيه.
ثمّ حدّث (الزين) يقول: لقد رأيت في منامي ذلك الإنسان الذي ضّمه ثرى (الربوة) هناك -وأشار إلى (البقيع)- دار الآخرة -كان ينظر إليَّ من على بعد وكلّما اقتربت منه نأى عنّي، رفعت الصوت بعد أن أصبح طيفه بعيدًا ترى ماذا فعل بك المولى- وأنت في ضيافته؟ أجابني صوته من الأفق البعيد (لقد لقيت كريمًا يا زين وصحبت جوادًا يا أهل هذه الدّنيا الفانية فلقد غفر المولى لعبده الضّعيف بما كان يدخل به الفرحة على قلوب الآخرين).
أحسست أنّ كلّ شيء حولنا ينصت للزَّين وهو يتحدّث، فلقد كانت الرقّة تغمر جوانب تلك النَّفس وتظهر في كلّ شيء، حتّى إنّ الفتى ليحسّ بانعكاسها في ما يلبس صديقه أو يرتدي، فوجد فيه إلفًا وتوحّدت منهم نفوس على الحبّ الصّادق، وجمعهم ولَهٌ بعالم نوراني تحجبه عن الأعين سُدُف، وتتغشّاه من ربِّ الملكوت أنوار ورحمات، وإنّهم ليتوسّلون إلى بارئهم بأن يمنّ عليهم بنعمة السّكينة إذا ما دنت ساعة وقرب رحيل ورفع غطاء، واللَّهم إيماناً كإيمان العجائز.
 
طباعة
 القراءات :358  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .