شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مشاهدات في المدينة (2) (1)
في الطريق:
طريق المدينة من الرداءة والوعورة بحيث يتعذر معه السير إلاّ بتوفيق من الله تعالى. ولعلّ المشقة التي يلاقيها الزائر، والنصب الذي يقاسيه، مما يزيد في أجره وييسر له سبيل القبول؛ فالرمال كالجبال ولا سيما بين مستورة وأبيار ابن حصاني، وبين أبيار الشيخ وأبيار ابن حصاني وادٍ طويل يسمى "وادي النار" كله رمال تموج في بعض، وعندما توسطنا فيها غرقت سيارتنا في عرق كبير منها فما نسمع إلاّ دوي محالها. وكان "للماكينة" صوت يشبه صوت المرهق المكدود، وكان السائق يحرك "الماكينة" يريد لها النهوض من الرمل فيغلب عليها الإعياء فتسقط، وكنا ندفعها ونصعد بها فما تزداد إلاّ هبوطاً، دفعنا ثم دفعنا حتى بلغ منا التعب مبلغه فتساقطنا حواليها صرعى، وقلنا: فلنمكث هنا إلى يوم القيامة، ونزل السائق وأشعل سيجارته ("دخينته" على رأي الأستاذ مصطفى صادق الرافعي) وقال:
هنا في هذا المكان نفسه تكسر -كثير من السيارات.
فقال له أحد الرفاق في انفعال -وكان يتطير: اسكت كسر الله عنقك من سألك عن هذا.
فضحك السائق وقال:
لا تغضب، فالمقدر كائن أغضبت أم رضيت.
فلوح له صاحبنا المتطير بيده وأولاه ظهره قائلاً:
ما أحسبنا في حاجة إلى أن تقرر لنا أن المقدر كائن.
فالتفت السائق إليَّ مبتسماً وقال:
أترى صاحبك هذا كيف يتشاءم، وانظر إلى "محمود" فإنه يتفاءل، وها هو مغتبط محبور، ومع هذا فالتشاؤم والتفاؤل لا يشقيان أحداً ولا يسعدانه.
قلت: ولكن إذا كتب الشقاء لإنسان وكان مع هذا متشائماً فهو في ويل وثبور من هذين البلاءين، والخير له إذا كان شقياً أن يتفاءل حتى لا يضيع البقية الباقية من حياته ويئد نفسه في غير إشفاق ولا تمهل.
قال: نعم هذا حق، قوموا الآن وتعاونوا وادفعوا هذا "الحيوان" بيد واحدة؛ فلعلّ الله أن يخرجه من هذه المهلكة، فإن صح ظني فليس أمامنا بعد الآن ما نتخوفه..
فأهبت بالرفاق وقلت: ماذا؟ أتنوون أن يأتي عليكم يوم البعث وأنتم هنا؟ فتحمسوا وشجع بعضهم بعضاً وساعدنا الله، فما شعرنا إلاّ والسيارة تهرول أمامنا، ثم تعدو كالظليم فتقف في أرض يابسة على مدى غير قريب، فأدركناها بعد لأي وأخذنا مقاعدنا، ونحن نلهث ونرسل الأنفاس سريعة حارة متواصلة، ودرجت تئز أزيزاً غريباً كأنها "مرزَّأة ثكلى ترن وتعول" كما يقول الشنفرى (2) .
وقال أحد الرفاق وكنت قد منحناه لقب "الإِمارة":
حدثنا يا "مطوع" -وكان معنا عدد من "المطاوعة".
فتنحنح أحدهم بعد أن سعل سعالاً خفيفاً ورفع صوته كأنه فوق منبر قائلاً -يُعرّض من طرف خفي:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات [وإنما] لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله [فهجرته إلى الله ورسوله] ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (3) .
فصعب علي أن أتركها تمر، وكنت أنا ممن يعرض بهم، وكان معروفاً بالتزمت والعنجهية، ولا يحسن ظنه بعقائد الناس، ويتداخل بين الإنسان وبين ربه حتى في المعاملات الخاصة، ويثير على الدوام مشاكل دينية ما كان من حقها أن تثار، ويخصص بالإيمان والإسلام أناساً معينين في قطر معروف، أما من عداهم فهم مشركون أو يسرون غير ما يعلنون.
فانبريت لهذا "الرجل الغريب" الذي لا يعرف حقوق الصحبة والجوار وقلت له بيني وبينه -مستحيياً أن أخجله أمام الناس:
تعال.. لقد أسمعتنا ذلك الحديث الشريف، ولسنا من الغباء والغفلة بحيث لا نعرف من تقصدهم؛ فأما الدنيا فقد ملأنا أيدينا منها، أما النساء فقد تركناهن وراءنا فماذا يبقى بعد هذا؟ هل ذهبنا إلى المدينة لنشترك في الألعاب "الأولمبية" هناك؛ والله جل شأنه يقول لأشرف رسله وأعز خلقه: لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ (4) ، وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ (5) ، لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (6) ، إلى غير هذا من آيات بينات.. فتأتي أنت في "ذنب الزمان وشيخوخة الدهور" تحاول أن تشق قلوب الناس لتنظر ماذا تنوي وماذا تضمر من خير وشر وصلاح وفساد، تالله إن هذا لهو الضلال المبين.
فاصفر وجهه وقال في خنوع:
كلا يا أخي ما قصدت شيئاً مما ذكرت، ولكن "الأمير" قال حدثنا فما حضرني إلاّ ذلك الحديث فلا تظنن إلاّ خيراً، وهوّن عليك فبالله ما أردت الذي فهمته.
فانصرفت عنه غير مصدقه في قسمه، فهذا القسم عنده تشمله هذه الآية الكريمة: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ (7) ، وهذه طريقة انسحابه من المعارك دائماً...
والطريق من رابغ إلى جدة أغلبها "سباخ أو سبخات" تثير الرهج كأنه في ميدان حرب فيحجب الأنظار ويخنق الأنفاس هذا الغبار الكثيف القائم، أما من أبيار ابن حصاني إلى المدينة فأحسن ما يطلق عليه "مطبات وملفات" كما يقول سائقو السيارات.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :390  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 71 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل

[محمد سعيد عبد المقصود خوجه (1324هـ - 1360هـ): 2001]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج