شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رسالة ليست للنشر (1)
سيدي الأستاذ الصديق،
لعلّ من أعجب مصادفات القدر أن أكتب مقال الموت (2) في الأسبوع الذي يموت فيه صديقي "محمد سعيد أكرم" من حيث لا أدري، فإني لم أتلق خبر موته إلا بعد ذلك بأسبوع، وكانت صدمة مروعة عنيفة، قل أن تتحملها أعصاب إنسان مرهف الحس مثلي!
لم أقل شيئاً للذي أبلغني بموته لأول مرة؛ فقد انعقد لساني، وتحسست حلقي فإذا هو كالصحراء يابساً جافاً، وسكنت عيناي عن الرنو في مضطرب العيون إلاّ إلى متجه واحد، وهو المتجه الذي تركزت عليه قبل أن ألم بالأمر..
وانسحبت من عند صاحبي الذي أخبرني، فلم أنظر بعيان، ولم أنطق بلسان، ولم أومئ ببنان، وغيب عني ساعات معدودات، ترفعني موجة، وتخفضني أخرى من ذكريات لم يطل عليها مطال، ولم يغبر عليها غير ليال، انفلتت من إسار الأجيال!
عرفت هذا الصديق عام 1361هـ يوم سافرت إلى عسير، وكانت عسير -أو أبها إن أردت التحديد- تكتظ بكثير من الحجازيين، أذكر منهم على سبيل المثال: عمر مهدي رحمه الله، ثم جميل حلمي، وكاظم برادة، وياسين طه، وجميل شيناوي، وأبو بكر رجب وغيرهم.. ولكنه هو الذي استمالني وأغراني بأنسه وطيب معشره على الخروج من انطوائيتي والتحرر من عزلتي التي أقمت عليها ردحاً طويلاً، وقد كان مثال الرفيق الموزون، وكان خير آنس يمكن أن يجلس إليه إنسان، أسخى يداً من الرياح التي ترمي بالثمامة كما تقذف بالطلحة، ولم يكن يرى لنفسه حقاً أعلى وأكرم من حق صاحبه عليه، وفيه أوصاف أطلقها عنترة على نفسه في شمائله ومكارمه، وقد كان أحق بها من عنترة..
سيدي الصديق..
لقد كان يحب أطفاله وزوجته، كان يحب أصدقاءه أكثر من ذلك. إنك تستطيع بأبسط إغراء أن تنتزعه من داره حتى في الأوقات التي لا يسمح المرء المتزن فيها لنفسه بالخروج: في القيلولة، في منتصف الليل.. في الصباح الباكر.. إنه يرضيك ويمضي معك إلى حيث تريد، ولو اضطره الأمر أن يذهب معك بلباس "التفضل" (3) !
ولن أستطيع أن أذكر كل مزاياه، أما عيوبه فسيذكرها العوام والناس العاديون ومن إليهم.. إن العيوب -يا سيدي- لا يعيي الإنسان تعدادها في إنسان آخر، ولو كان أحمق من بأقل، قد يسهل على كل امرئ أن يقول في الآخر: إنه يعمل كيت وكيت، ولكن من أين يقول: إنه يتعفف ويتحرج ويصدق، وإن يكن ذلك على النقيض!
والعزاء في ذلك أن ما تقوله في غيرك سيقال فيك، وفي ذلك الجزاء الوفاق..
الموت يا سيدي سعلاة حمقاء مجنونة.. انظر إلى من تمتلئ بهم الأسواق، أو تكتظ بهم الدواوين.. ألا ترى عجباً؟ ثم انظر إلى من يموتون على اصطفاء واختيار، فإنك ستراع حتماً..!
إن الموت يا صديقي مصيبة معنوية عندما تكون خارجة عن نطاق إحساسنا. فعندما مات "غاندي"، وهو رجل محبوب للجميع -أحسسنا بفقدانه إحساساً معنوياً مؤقتاً، ولكن حينما يموت قريبك أو صديقك، فإنك تشعر بالموت وقد انتهك حرمة الحرم الأقدس لديك، وستكون المصيبة مركزة في إحساسك بالذات، منه تخرج وإليه تعود، ولكنه إحساس واقعي أبشع ما يكون عليه الواقع، وذلك كله فوق الإحساس المعنوي المكنون.. إنها مصيبة مضاعفة عشرات المرات، فبأي حول تتحملها؟ فالموت في البعيد.. لعبة معروفة، والموت في القريب منك داراً أو دماً مصيبة.
ولكن الموت في صديقك روحاً ومعنى، هو المصيبة التي تقع دونها كل مصيبة.
فهل تأملت قليلاً يا سيدي؟ أذكر أني رأيت ومعي أصدقاء أغناماً تعدو إلى جزار بكل ما يسعها الوثب والمرح، ولم تكن تعلم بطبيعتها أن السكين ترتقبها هناك، فاستضحك أحدهم قائلاً: أما إنها حقاً لبهائم! فقلت له: يا حبيبي هل تضمن نفسك من الموت إلى أن تصل "ريع الحجون" ولم يكن يبعد عنا أكثر من أمتار معدودة، فقال: كلا..
فقلت ونحن أيضاً بهائم يا صديقي، فخفف من غلواء نفسك، وطامن من كبريائها، إن الله يقول: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (4) .
لك البقاء الطويل أيها الصديق فقد أثرت عليك أشباحاً مخيفة من هذه الوساوس، ومع ذلك فتقبل تمنيات المخلص حسين سرحان.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :402  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 64 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج