شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رسالة لم يكتبها طه حسين (1)
مع الاعتذار للدكتور طه حسين الذي كتب مرة بعنوان
((رسالة لم يكتبها الجاحظ)) (2)
سيدي الأخ.
لا ينفع الكلام -كما يقول العوام- فقد قضي الأمر وغادرتنا إلى ميدان الشرف بفلسطين، وكان من العبث أن تُرد عن غايتك بعد أن يئس أولو أمرك من ردك، ولن نريد مهما حاولنا وأضمرنا أن نفتنك عن مثل ذلك الميدان الكريم الذي تتساقط فيه النفوس؛ ذياداً عن كرامة الأوطان، وتسامياً بالجوهر الحقيقي المكنون في قلب كل إنسان.
وكم وددت بشوق عظيم لو كنت معك في الطليعة؛ فإنك من بيت حرب وضرب، فما ينكر ذلك من يعرف حقيقة بيتك، وبيوت العشائر الأصيلة من أبناء عدنان وقحطان.
وددت ذلك، ثم لم أوده، وددته لو لم تذهب واكتفيت بمكانك من أهلك وبلادك؛ وعملك بين أصدقائك وزملائك، ثم لم أوده برغمي، فما يسع بيتنا أن يفقد اثنين في وقت واحد إلى حين أو إلى غير حين؛ ومع ذلك فليس مع أهلي وأهلك هنا إلاّ جسمي ليس غير، فأما روحي وقلبي وذهني وخيالي وآمالي، فإنك لموقن كل اليقين أنها ممتزجة بك، موقوفة عليك، نزاعة إليك، فما من سبيل إلى انفصالها عنك، مهما يكن من أمر، ومهما يحدث من احتمال.
ولست أحدثك على شحط منك، فإني لأكتب هذه الرسالة وأنت أمامي جالساً جلستك التي أعهدها وأحبها، مفتراً ثغرك عن تلك الابتسامة الساخرة التي أكرمها وأستزيد منها؛ ويكاد يبلغ بي الوهم ما بلغه بابن زيدون مع الفارق بين الحالتين، فأكاد أستقبل على وجهي حرارة أنفاسك (3) .
ولفلسطين أحاديث وأحاديث، ولست ممن يؤمن بأن مجال القول فيها قد نفد أو كاد. إن قضية فلسطين أعمق وأدق مما يظنون وإن فيها لمجالاً واسعاً كالأفق لتصادم الأطماع وتلاعب الأهواء وتراوح الغفلة والحصافة، وتعاقب الذكاء والغباء واختلاط الحقائق بالأباطيل؛ إن لفلسطين تاريخاً دقيقاً مستفيضاً لم يكتبه مؤرخ على الإطلاق منذ أن كتب التاريخ هيرودوت.
قضى الأمر إذاً، وانتهى بك إقدامك وطماحك إلى خوض معركة قلّ أن تضارعها معركة في ما غبر من معارك التاريخ الحاسمة، وتركت أهلك يرتفع بهم الأب والأم؛ ويهبطون في ما بين ذلك إلى إخوة وأولاد إخوة وأخوال وأعمام وركن متين من قبيلة عزيزة وبلاد كريمة.
لن أثني على بطولتك واستبسالك فإن أعمالك أرغمت ألسناً كثيرة على الثناء والإطراء؛ ألسناً يرضيها أن تحمد وتطري، وألسناً لا تثني إلاّ مكرهة مشنوءة، وألسناً كلمة الثناء على أطرافها أثقل من كلمة الشهادة على لسان الكافرين.. ولن أبثك أشواقاً مضطرمة من شتى القلوب والنفوس القريبة بالرحم والقربى، والبعيدة إلاّ من الصداقة والزمالة؛ فإن الأشواق لا تترجم ولا يعبر عنها كلما كان أصدق صدقاً، وأعمق غوراً، وأنكى جرحاً.
ولا أريد كذلك أن آسى وعليك قد قيل لي إنك قد فزت فوزاً كبيراً بجرح غير خطير، وإنك تعالج الآن في المستشفى؛ فقد كتب القتل والقتال علينا كما يقول ابن أبي ربيعة، وعلى الغانيات -ومن يشبه الغانيات من أشباه الرجال- جر الذيول (4) ، وإنهن وإنهم أيضاً ليجرون الذيول أمامنا كل حين فما أتعس الأنظار! وما أخيب الآمال التي تقع على أمثال هؤلاء الرجال!
نحن يا أخي أجدر بالأسى، وأخلق بالرثاء، فما ينبغي أن يؤسى ربائب البقاء المؤقت لصناديد البقاء الخالد.
وسيختلف الناس في فلسطين كما اختلفوا في كل أمر، وكما سيختلفون أيضاً في ما يستقبلهم من الأمور، فإن لذة الناس في اختلافهم أغزر وأحلى وأبقى من لذتهم لو ائتلفوا، وكانوا على ائتلافهم قادرين.
وعجبت لهذه الحرب التي استضرمت نارها بين الناس، منذ أن أشعل شرارتها الأولى قابيل وهابيل، من المنتصر فيها، ومن المدحور؟ أهم قرابينها الذين يباشرونها بدمائهم وأرواحهم وأموالهم فيذهبون في سعيرها زمراً في أثر زمر؟ أم الذي يدفعهم ويطوح بهم، ثم لا تمس منه شعرة ولا يخدش عضو، ثم ينتصب بعد ذلك على الهام المبثوث والرمم المتناثرة فاتحاً غازياً أو مالكاً مسيطراً؟
ألا يتاح للناس أن يعجبوا، ويذهبوا في التعجب كل مذهب لو تركت عقولهم تفكر كما تفكر العقول؟
سيدي الأخ،
لن أختم هذه الرسالة كما يختم معظم الرسائل المتحذلقة بالأشواق والتمنيات؛ فإن الناس يعلمون أن كل ذلك أو جلّه كاذب زائف.
ولكني سأختمها بتكرار اسمك في قلبي وترديده على لساني، وهو اسم من يكتبه في هذه الرسالة.
أخوك الحزين حسين سرحان
 
طباعة

تعليق

 القراءات :437  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 63 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.