شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كنت أتمنى أن أرى ابن آدم (1)
قال صاحبي:
كنت بين السابعة والتاسعة -في ما أرجح- وتلك هي السن التي يستمع فيها الصبي إلى أحاديث والدته وجدته وعمته بشوق ونهم في كل ما يقطعنه من أحاديث.
وكانت خطوتي قصيرة منذ صباي، فما كنت أتجاوز باب الدار إلاّ في ما لا حيلة فيه، ولعلّ في ذلك أصلاً صحيحاً لما ألفته بعد ذلك ودرجت عليه من حب الاعتزال، وإيثار الوحدة وشدة حيائي وفرط ارتباكي عند مخالطة الناس.
كنت أشد حياء من العذراء فيا لفرط الشبه بيني وبينها؟ وكانت أكثر كلماتي على كثرة هذيان الصبيان تموت في حلقي، وطالما تراجعت حبيسات بئيسات.
فقررت أن أكون أذناً لا تشبع من السمع، وتمسكت بأذيال المتحدثات من أهلي، فكن إذا خلون من عمل جلسن على الشاي أو القهوة وأخذن يتسامرن ويتجاذبن أطراف الأحاديث؛ وتسعة أعشار حديث المرأة حيث كانت، ما تفتأ تدور وتحور على الرجل، وما يتصل به من هنا ومن هناك.
وكانت أذني في ذلك العهد بارعة في التقاط الشوارد والأوابد حتى في ما يهمس به همساً، وإني لأردد عيني بينهن وأنقل سمعي في مثل قطع الرياض كما يقول بشار (2) .
أما هن، فلهن أن يتحدثن بما شئن، وأما جدتي لأمي، فلها وحدها التعليق الحكيم والرأي السليم، وقد أطارت عقلي وبلت ذهني بما تردده عن ابن آدم.
قلن جميعاً: إن فلاناً قد طلق زوجته وقد كانت مخلصة له وفية معه شفوقاً عليه فحكّت جدتي ذقنها حكاً طويلاً، حتى لخفت أن "تشرق" لها لحية بيضاء جليلة، ثم قالت:
ابن آدم لا يحفظ المعروف!
وقلن: لقد اشترى فلان على كثرة ما يملك من البيوت، بيتاً جميلاً في المكان الفلاني، فمطت جدتي -يغفر الله لها- شفتيها استنكاراً وهي تقول: ابن آدم لا يشبعه إلاّ التراب.
وتصايحن قائلات: لقد تزوج فلان على فلانة، وعنده أم أولاده في غاية الجمال والكمال أما إنه سيحرق قلبها!
فتأوهت قائلة: ما أشد خساسة ابن آدم!
قلن: يا أماه، لقد اختصم فلان وفلان فشج أحدهم الآخر عند سبب تافه.
فضحكت وقالت: يا الله! إن ابن آدم لا يترك الشر حيث كان.
وقالت إحداهن، وهي تدير مغزلها: حدث أمس أن فلاناً تطاول على الشيخ "العمدة" وأسمعه كلاماً موجعاً، فقالت: أما إن ابن آدم لمغرور أحمق.
وأصاب رأسي الدوار، وكدت أنشق غيظاً من ابن آدم هذا، وذهبت إلى فراشي، وهو يخايلني من بعيد ومن قريب، وظللت أستمطر اللعنات على هذا المخلوق الأعوج المتعسف الذي لم أسمع عنه قالة طيبة أو خلقاً كريماً.
وانتابتني الحيرة وتجاذبتني عوامل مختلفة من الحنق عليه والاشمئزاز منه، وودت لو رأيت ابن آدم هذا، لأبصر عن كثب على أي نمط ركّب، وفي أي خلق استوى هذا المخلوق العجيب.
وبت ليالي كثيرة مسهداً مضطرباً أحاول بكل ما استطعت أن أتعرف إلى هذا الحيوان الذي يسمى "ابن آدم".
ومكثت أطيل النظر وأردده في وجه الرائح أو الغادي من كل صامت أو ناطق.
وأتساءل في قرارة نفسي: ترى متى أعرف هذا العجب العجاب؟
وتسللت يوماً إلى جدتي على فراغ منها، ولثمت جبينها، وقلت:
يا جدة، أين ابن آدم؟ إني أريد أن أراه! وكان سؤالاً لم يخطر لها على بال ولا يجدي فيه تعليق حكيم ولا سقيم.
والحق أني ما كنت أتوقع أن هذا السؤال سيزلزل جدتي ويعصف بما في رأسها من ذخائر التجارب والأجيال.
نَظَرَت إليّ جدتي نظرة ممسوخة خلت من كل معنى وقالت بعد صمت: ماذا تقول يا بني؟ قلت -وكدت أن أجهش بالبكاء-: ابن آدم.. ابن آدم يا جدتي أريد الآن أن أعرفه!
وقامت جدتي لتصلي، وعلمت أنه سؤال ذهب مع الريح.
وقمت أنا أتميز من الجهل والغضب معاً، على هذه الدابة السخيفة التي ترعن كل هذه الرعونة، ولا يمكن مع ذلك أن نتعرف إليها أو نراها.
ترى من هو الذي يعرف ابن آدم اليوم إن كان يُعرف أو يسبر له غور أو يكبح له جماح.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :817  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 105 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.