شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الصباح في الطائف (1)
تعودت في مكة -وحيث كنت- أن أقابل الصباح في منتصف طريقه، فأنهض في السحر وأتمشى في أفناء الدار، أو أنطلق إلى الخلاء، وأنا أحب الخلاء إلى درجة أني عندما أمشي فيه، ثم أعود إلى الدار -أو يعود الخلاء فمن يدري؟- يبقى فيّ من ريق الفجر قطرات غامضة.
والصباح وتباشيره إذا لاح مفتوق أديمه كما يقول أبو نواس (2) ، له في القلب لوطة عالقة لمن ذهب في حبه كل مذهب، ولكن صباح تهامة صباح جديب كثيب.. فلا أشجار تجود بالاخضرار، ولا أزهار تبعث الطيوب والأعطار، ولا أطيار تزقزق بمثل خرير الجداول أو هريس الأنهار!
لا شيء في الحقيقة في ذلك، ولكنها أبهر وأروع ما تكون في خيالك، والخيال نهر مسحور ترتوي منه قليلاً بعد نهل، ثم لا ترى لمائه بريقاً، ولا تحس لجرعته طعماً!
وما فاتك واقعاً، فابعثه خيالاً كريماً ينتهي بالجود إلى أبعد وأجمل من المعهود!
وتشرق الشمس -وتلك عبارة تمضغ كما يمضغ اللبان- ولكن كم فيها من روح لطيف، وكم لها من معنى دقيق، وكم يعترف بها من صُوَر بعد صور! وكم تنشر فيها ألوان الملاء وأفواف الحبر؟!
وعهدي بالطائف غير بعيد ولا جديد، فإني أعرفه قبل ثلاثين عاماً أو تزيد، وتتفرق هذه المعرفة أوزاعاً بين الطفولة والصبا والمراهقة واليفوعة، والشباب والشيخوخة، وقد مُتِّعْتُ بها قبل أوانها!
وخطر لي يوماً أن أجرب صباح الطائف، فإذا هو صباح بائس يائس.. تمشيت هنا وهناك وتلفت إلى هذا أو ذاك، ودرت يمنة ويسرة، وذهبت إلى البعيد البعيد من الخيال المعنق الخائب، ثم عدت إلى البيت كما وصف امرؤ القيس نفسه؛ حينما رضي من الغنيمة بالإياب (3) !
وأصبحت عادة بليدة، فلا بد من النهوض من قبل الفجر، ولو جلست في فراشي القرفصاء، فإن صباح الطائف لا يغري بالتجول، صباح الطائف صباح غير نضير ولا غضير.. صباح السماء الصافية والجو القرير.. ولا شيء بعد ذلك؛ عشرات الأصباح تتكرر على هذا النمط المردود، فكأنك تشعر بأن عمرك يرجع القهقرى عشرات السنين!
إن الزمان يأخذ منك من حيث لا تشعر؛ ولكنك أنت بإحساسك تتخيل أنك تأخذ منه أكثر مما تُقدِّر!
إلاّ لمن نام في فراشه، أو دخل في خشاشه، وعند ذاك تتساوى الأصباح؛ ولا فرق حينئذ بين الجسوم والأرواح، ولا بين الخسائر والأرباح.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :681  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 52 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[حياته وآثاره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج