شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هذه الرباعيات..
بقلم: الدكتور محمد رجب البيومي
عميد كلية اللغة العربية بالمنصورة
ينكر الأستاذ العامودي جهوده الأدبية على مدى أربعين عاماً؛ فهو لا يحاول جمع مقالاته التي جاوزت المئات؛ لو ضمت في أجزاء متوالية لكانت ثروة تحدد مسار الأدب في المملكة؛ لأن التطور الفني للمقالة السعودية يتضح أكثر ما يتضح بدراسة نماذج متعددة لأديب كالعامودي توالى إنتاجه الفني متدرجاً من نقطة تقليدية إلى ذروة أصيلة، ذات إبداع، وما نقوله عن مقالات العامودي، نقوله عن قصائده التي توالت على فترات تتقارب وتتباعد، ولا بد أن يرصدها الناقد الفني في طريقها المديد.
وقد نظم الشاعر العامودي رباعيات كثيرة شاء أن يقدم إلى المطبعة بعضها دون اختيار، وهو عمل مبدئي ننتظر بعده عملاً جاداً في جمع آثاره الأدبية من شتى الصحف والمجلات.
وليست الرباعيات مجرد شطرات تنظم، كما يظن بعض الذين يتصدون لنظمها دون اكتراث، ولكنها في حقيقتها الفنية خواطر موجزة مركزة، تضغط في أبيات موحية لتجلو عبرة مستترة، أو تصور خالجة غامضة لذلك تستقل الرباعية في كثير من الحالات عن أخواتها السوابق واللواحق لأنها كائن حي له خصائصه الذاتية، وهي مما يجري مجرى المثل السائر لدقة تركيزه، وسطوع لمحه، وصدق تجربته، وصاحب الرباعيات يجب أن يكون شاعراً أصيلاً تمرس بنظم القصائد حقبة طويلة حتى اهتدى إلى خلاصات مبلورة كاشفة عن حصيلة تجارب زمنية أنضجها السهر والألم وتغير الأحداث المتناقضة من مشهد إلى مشهد، وقد كان الشاعر العربي القديم في غنى عن هذه الرباعيات لأنه لم يكن غالباً يتقيد بالوحدة العضوية في النظم الفني، بل يرسل شوارده كيفما اتفق والبيت عنده هو مجال الوحدة الفنية يحرص على اكتماله وبهائه دون أن يتقيد بتسلسل وترابط، وليس معنى ذلك أن الشعر القديم لا يخضع جميعه للوحدة العضوية، بل معناه أن كثيراً من قائليه يجعلون البيت المجوَّد وجهة خالصة تستقل وتنفرد لتنتزع انتزاعاً عند الاستشهاد والتمثيل.
وفيهم من يقول الأبيات الأربعة والثلاثة والخمسة فلا تسمى حينئذ رباعية أو ثلاثية أو خماسية، بل تسمى مقطوعة. فلما جاء العصر الحاضر استقلت الرباعيات بطابع جديد في التحديد المركز واللمح الدقيق.
والشاعر الكبير الأستاذ محمد سعيد العامودي، أديب موهوب ذو تاريخ حافل في المجال الأدبي نثراً وشعراً، وقد زاول القصائد الطويلة في إنتاجه الكثير فكشف عن قوة قادرة، وعن شاعرية مطبوعة، ثم عنَّ له أن ينظم بعض الرباعيات استجابة لإيحاء قوي يركّز الخواطر، ويبلور الانفعالات، وأصحاب الرباعيات لا يهتمون كما يهتم الشباب ببريق اللفظ وحلاوة النغم وحدهما، ولكنهم أصحاب أفكار يوجهون الناس لها في خفة روح، وسرعة إيحاء، وقد كشف الشاعر العامودي عن رأيه في الشعر الصادق حين قال:
أهو قول منضَّد اللفظ، فضفا
ض المعاني، يتيه في أوزانه؟
ثم لا شيء من سُمُو وإيحا
ء، يهزُّ النفوسَ سحرُ بيانِه
إنه الوهم، ما أضلَّ سراب الـ
ـوهم للمرتمين في أحضانِه!
ليس شعراً إلاّ الشعور، وما الشا
عر إلاّ المبين عن وجدانِه!
وكأنه بذلك يرسم منحاه الفني في الرباعيات؛ فهي ليست كلمات منضَّدة الألفاظ، حائرة المعاني دون تحديد. ثم لا شيء من سموِّ الفكرة، وإيحاء السياق. إنها لو كانت كذلك -وهي كذلك فعلاً عند أكثر الناظمين- لكانت وهماً يأتلق كالسراب اللامع، فالشعر شعور جيد، يتطلب البيان الجيد، ومن وراء الشعور عقل يحلل، وفكر يتأمل، وهكذا فلتكن الرباعيات لمح ذكي، يهتدي للأسرار الدفينة، فينقلها إلى منطقة الضوء في سرعة تظهرها وكأنها أمر بدهي لا مجال لنقاشه، فاستمع مثلاً إلى قول العامودي:
قلتُ للنفس: ما الذي يحفز الغِرَّ
-إلى الاعتساف في كل أمرِ؟
أهو ومض الذكاء، أم هو إحسا
س، يُريه أن النُّهى في الشرِّ؟
قالت النفس: في سؤالك ما يُو
مي إلى ما ترومه من سِرِّ..
إنها -يا أخي- الغرارة، فَلتُشـ
ـفِق، ولا تعجبنَّ من أي غِرِّ!
فاللمحة الذكية في هذه الرباعية رائعة، لأن الشاعر يجد الغر يعتسف في كل أمر، ظاناً في نفسه ما يتخيله لها من الذكاء والعبقرية حتى ليضل أصحابه فيتساءلون عن حقيقة سره حائرين، والشاعر يعجب من حيرتهم في اكتشاف هذا السر، لأن الغرارة وحدها مدعاة هذا النزق المعتسف، فالسؤال عن سر الغر يتضمن الإجابة إذ هي على ضربة معول من السائل، ولو فحص بقدميه الأرض مرة أو مرتين لتفجر الماء..
ولصاحب الرباعيات تهكم مرير تلمس لذعه هادئاً يسيراً، حين ينقل لك صورة صادقة من خير ينقلب إلى شر حيث لا يتوقع منطق عاقل، فقد تزرع الجميل الطيب في نفس إنسان فيثمر في أرضه السبخة حنظلاً وصاباً فتتحير أكبر حيرة في شيء تراه شاذاً غير مستساغ، ثم تتلمس أسباب التعليل لهذا الشذوذ المنكر فتجد الشاعر يبتسم لك ابتسامة الألم المرير حين يقول:
روِّح عن نفسك، ولا تبحث عن أسباب الشذوذ تلك.. لماذا؟ لأن البحث عنها -وإن صدق- ليس مما يفيد، وكم من باحث اهتدى إلى رأي ثم ما انتفع به، وما انتفع سواه:
قال لي صاحبي: وما الرأي في هـ
ـذا الذي جرَّه عليك الوفاءُ؟
ما الذي قد صنعته من شرور
حتَّمت أن ينالك الإيذاءُ؟
ما الذي يبتغي، وقد كان منك الـ
ـود صفواً، وكان منه البلاءُ؟
قلت: لا رأي يا صديقي، وهل أنـ
ـت ترى أن تفيدنا الآراءُ؟
فالمقطوعة تجربة أليمة، وبيتها الأخير لفتة ذكية نابهة، وهي ذات طعم مرير، إذ تصور مأساة المفكر حين يتعبه تحديد الرأي حتى إذا انتهى لم يجد شيئاً من جدواه.. ففيم العناء؟
وصاحب الرباعيات واعٍ يقظ، لا تخدعه الظواهر، أو تغره اللافتات، إنه يلمح الظاهرة ليتبطنها، ويتغلغل في أعماقها تغلغلاً يريه المتناقضات، فقد يمر به الغني في موكبه المترف فيسبر أغواره بحَدسِه الملهم، فيراه على مظهره الخادع أفقر الفقراء.. وقد يسمع الأمداح تكال كيلاً فتخدع السوقة، ولكنها في لبابها سرد منسق لا لُبَّ وراءه يشبع مستمعاً ذا اقتناع.. وقد تلوح ومضات خادعة من متحدث فيظنها المتسرع ذكاء يضيء.. وهي فراش يتراءى في الوهج فحسب.. والباطن غباء يستتر تحت زَبَد الخداع، كل هذا السبر الدقيق يفصح عنه العامودي في سهولة، إذ يقول:
ما أكثر الأضداد، تبدو لنا
في صور تدعو إلى الابتسام!
فَمِن غِنى، صاحبُه أفقر النا
سِ إذا ما عُدَّ بين الأنام!
ومِن ثناء، باطل كلُّهُ
لا خير فيه غير حلوِ الكلام!
ومِن ذكاء، ليس فيه حِجى
ومن ضياء يرتديه الظلام!
هذه هي البصيرة النافذة التي يجب أن يتسلح بها كل أديب، فليس كل ذي قلم مكتفياً بتسجيل الظواهر السطحية وحدها وإلاّ لكان مجرد إنسان يأكل ويشرب وينام، ولكن صاحب البصيرة الهادية يزيح ركاماً ثقيلاً حتى يصل إلى الأعماق ليدرك حقائقها الطبيعية دون زيف أو خداع، وهي دائماً مغلَّفة بما يسترها عن السطحي العجول، أما المتفرس المتمرس فيصل إلى اللباب الدفين مهتدياً إلى مثل ما اهتدى إليه أبو الطيب حين قال:
ومن خبر الغواني فالغواني
ضياء في بواطنه ظلام
وهو قول نقرأه فنعجب.. ولكن قائله يسقطه عَبرة، عَبرة من جفن دامع إذ لمس من أهواله ما أقضَّ المضجع، وقد كابد العامودي بعض هذه الأهوال النفسية دون شك حين رأى الفقر طي الغنى.. والزيف داخل الثناء.. والظلام وراء الضياء.. ويا لها من مفاجآت!
والأستاذ العامودي ينشد الكمال لدى الأفراد ولدى الجماعات؛ فإذا وجد بعض مظاهر الكمال دون البعض عزَّ عليه أن يحدث هذا النقص، وتمنى أن يكون الكمال كُلاًّ لا يتجزأ، فالحلم مثلاً خُلق نبيل إذا اكتملت أصوله النفسية في ذات الحليم، لا سيما والحِلْم جماع الفضائل، وملتقى المكرمات، لأن صاحبه يكظم من أمواج الغضب والنقمة والتحفز ما ينوء به كل طود منيع، فكان المنتظر منه بعد ذلك أن تتم صفاته الخلقية، فلا يشين الحلم بكبرياء أو تغطرس، كان المنتظر منه ذلك في رأي الأستاذ العامودي حين يصيح به هاتفاً:
يا صديقي! وما انتفاع أخي الدُّ
نيا بحلم يشينه استعلاءُ؟
أوليس الخليق بالسامق الأخـ
ـلاق أن لا يغره إغراءُ؟
ما التعالي؟ ما الاستطالة؟ ما الإ
عجاب بالنفس، كلها إغواءُ!
إنما يرفع العظيم إذا كا
ن عظيماً، سجاحة وصفاءُ!
وقد أتجرأ فأقول: إن صاحب هذا الاستعلاء ليس حليماً في واقع أمره بل هو متحلِّم.. يتكلف الحلم دون أصالة نفسية، يجد ينابيعها في أعماقه، وإلاّ فأي شيء يدفعه مع حلمه الرصين إلى الاستطالة والتعالي والكبرياء؟ أكبر الظن أن صديقي الأستاذ العامودي يرى ما أراه ولكنه وصفه بالحلم تهكماً، أو تصويراً لاعتقاد الموصوف في نفسه.. دون أن ينتقل إلى سواه من الحصفاء.
هذا بعض مظاهر النقص في الأفراد.. أما مظاهر النقص في الجماعات فقد أدرك منه صاحب الرباعيات مآسيَ دامية أجاد تصويرها حين تحدَّث عن ضياع العالم الغربي في أوروبا والأمريكتين.. حين يزعم لنفسه أنه يعيش في عصر التكنولوجيا وهذه الكلمة "الثقيلة" قد أخضعها العامودي لأوزان الخليل.. فأتى بها في بيت من الرباعيات، وهي ثقيلة في النثر، فبأي قوة قهارة استطاع الشاعر أن يدخلها في بيت من البحر الخفيف؟
أقول يزعم الغرب لنفسه أنه يعيش في عصر القمر والصاروخ والفضاء اللانهائي، ثم نجده في مجتمعاته ضائع الثبات، قلِق المستقر، خائف المصير، يشتكي كل ذلك، وجِلاً حائراً في زمن قال عنه الشاعر:
هو عصر الفضاء، والغرب يعتز
بأمجاد غزوه، وغُزاته!
هو عصر الصعود للقمر السا
خر من رائديه، في سبَحاتِه!
ويقول:
وعجيب أن يصبح الغرب باليقـ
ـظةِ فيه، كأنه في سُباتِه!
لم ينله ثراؤُه أيَّ غُنم
لم يُفِده انطلاق حُرِّياته!
والصراعات بين حزب وحزب
كل ما قد جناه من فلسفاته!
أيُّ جدوى من التقدم -لا أد
ري- إذا كان هدمه من بُناتِه؟
فيا لله من كمال عاد وبالاً.. إذ إنه كمال مظنون موهوم، لا ثابت متمكّن، ولو كان كمالاً أصيلاً لاستند إلى تربية روحية تعتصم بالدين، وتستضيء بالأخلاق والمُثُل.
هذه إشارة سريعة إلى نماذج من رباعيات الأستاذ العامودي، وله من جهاده المناضل، وإنتاجه الحافل، ما يهيئ له في نفوس قرائه أطيب مكان، ولكني أجد نسَقاً عالياً من الفن الأصيل، فأوثر أن أكون بين متذوقيه ومُحَلِّليه.
الدكتور محمد رجب البيومي
 
طباعة

تعليق

 القراءات :926  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.