شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حمار (1)
(1)
في الحمير شيء جدير بالاحترام والدراسة. والعناية بالحمار ليست فضولاً فإنه رفيق الإنسان منذ كانا، ومساعده ومطيته، على قلة ما تستوجب هذه المرافقة من التكاليف والقيود...
والحمار من أنشط الدواب، وأقدرها على احتمال المكاره، وما نشك أنه كان من أكثر الحيوانات طيبة، وأن ما دخل على أخلاقه وغرائزه من الشذوذ المنكور إنما جاءه من قسوة الإنسان وعنته... وما نظن أن حيواناً آخر ينافسه صفاته الطيبة غير الجمل.. وليس هذا وحده ما يجعله أجدر باهتمامنا... فإن في الحمار جاذبية لا يفسرها تناسب جسمه، ولطف حجمه وفراهته. وما نظن أن مردها إلى شيء خفي وراء لحمه وجلده وشياته الظاهرة..
وفيه أناقة ووجاهة يفوقان كثيراً من الآدميين. وله ابتسامة محجوبة يدركها ويدرك موضع السحر والفتنة فيها كل من يعنيه من أمر الحمير ما عنانا..
والحمار بعد، يؤدي واجباً في حياته لا يؤدي مثله إلا قليل من الحيوان ومن بني آدم. وهو جم اللطف والتواضع، وفيه إنكار عميق للذات، ووفاء يجب أن يكون مضرب الأمثال.. ونحسب أن الله خلقه على أن يكون خير الحيوانات وأكثرها شبهاً بالإنسان الكامل، من الناحية الخلقية والنفسية، وإن باعد بينهما في الخلقة والإدراك والمقدرة على استخدام الفكر والتصرف بالإرادة، ونستبعد أن تقترن بهذه الفضائل الممتازة، رذائل تتنافى في جوهرها، وسماتها الأساسية، مع تلك الفضائل الثابتة...
والعناد، -على أنه رذيلة أو شذوذ مكروه- إنما هو صفة من صفاتنا، وليس في فطرة الحمار، ولا في مطالب عيشه ما يقتضي أن يكون معانداً... فلم يكن مقدراً للحمير في ما نرجح، أن تحمل على ما تأباه فطرتها، وتنكره طبيعتها، ولا أن تحمل من حماقة غير أبناء جنسها وشذوذ تصرفاتهم ما يثير فيها روح العناد ويقويها حتى تنقلب طبيعة ثابتة، أو صفة لاصقة!!.
وقد أساء الإنسان فهم الحمار، وركبه بالسخر والدعاية حتى أصبحت كلمة الحمار منذ أجيال سبة الآدميين، وموضع تنادرهم، والحمار في هذا أخسر الأحياء صفقة مع الإنسان، وأبينها ظلامة، وأوكسها نصيباً. ولا نشك أن صدفة من الصدف السيئة قضت على سمعته هذا القضاء الظالم.
ولعل حماراً من حمير التاريخ القديم! تمكنت منه الفلسفة، أو تمكن منه الضعف والخرف، ونشأ عن هذا إخلاله بواجباته المفروضة عليه إخلالاً يدل على الغباء والذهول حتى اشتهر أمره، وتنادر الناس ببلادته وغبائه، فكانت عثرة ينبذ بها كل حمار بعده استحثاثاً له، وحفزاً لنشاطه، أو كسر السورة شرفه وعرامه.. ثم.. درج التاريخ فإذا هو الحكم الذي لا يقبل النقض...
ولسنا في حاجة إلى أن نسوق الأدلة على ظلم الإنسان وتعديه، ففي تاريخ الإنسانية نفسها شواهد حمراء.. ناطقة بذلك.. والحمار ضحية من ضحايا هذا الظلم..
... وفي الحمار خفة، وفي حركاته حلاوة، ونظراته لا تخلو من معان تفيض منها العذوبة. وفيه ديمقراطية تصرفه عن الخيلاء، فهو أبداً مقضي على أخلاقه وعاداته وميوله التي يندر ألا تكون هادئة جداً، في سبيل إرضاء صاحبه أو راكبه. فيكون مؤدباً على أن يسير سيراً ليناً موزوناً، فيأبى ممتطيه إلا أن ينهب الأرض ركضاً كالخيول في الطراد، فلا يجد في ذلك غضاضة، على ما فيه من إجهاد له ومصادرة لإرادته، وإفساد لآدابه وتقاليده...
ويركبه الصبيان أو أشباههم من ذوي اللحى والشوارب، ويعملون فيه أيديهم نخساً وأقدامهم رفساً، وعصيهم ضرباً، وأصواتهم المنكرة زجراً، ويأخذونه بين ذلك كله... بقيادة مضطربة مجنونة لا تتخذ اتجاهاً ثابتاً في السير، مائلين به إلى اليمين تارة، وإلى اليسار تارة.. وقد يحلو لأحدهم أن يترنح عليه، أو يكون جهله بفن امتطاء الحمير، يلزمه هذا الترنح فما يكاد يمسك نفسه فوقه، ويعاني الحمار المنكوب من هذا، شر ما يعانيه حمار من راكبه.. ثم لا يكون منه إلا احتمال هذا الأذى، والمسايرة فيه، فإذا مس السوط جلده، وجن جنونه، فطفر أو رفس، أو قام على رجليه الأماميتين وألقى راكبه، قيل حمار حرون شرير، وما به شر ولا حران ولكنه فساد ذوق الإنسان وتحجر عواطفه.
وصوت الحمار من أنكر الأصوات ما ننفي هذا. أو هو أنكرها، إن كنا نعتبر النعومة والاعتدال، كل مقومات الصوت الحسن، أما إن جرينا في نقد الأصوات على النهج العصري الجديد الذي لا يدين إلا للمقدرة الفنية في التأليف والتنويع، وأحكام النسب وتحريرها... والذي ينكر النعومة ويعدها أنوثة لا تليق بفن إنساني يقود الأفكار والعواطف والمشاعر -كالغناء، كان الحمار معدوداً في طليعة الموسيقيين الموهوبين.
وقد يخطر لحمار أن يرفع عقيرته مغنياً ليطرب أمثاله من الحمير.. فيضحك الناس ويمطرونه وابلاً من الشتائم والازدراء وفي هذا حجر لا شك فيه، على.. الحرية.. الشخصية.. كان من الواجب أن يتنزه عنه الإنسان تسامياً بذوقه. وماذا يبقى للحمار من الحقوق إن حرم الحرية في استعمال هذا الحق؟؟...
والناس؟ أليس فيهم من إذا قيس صوت الحمار بصوته، كان أخسر القرينين وأخلاهما يداً من أدلة الفوز؟؟.
والحمار أرق ذوقاً في هذا، فما يفاجئون الناس [أعني الحمير] بالغناء إلا عندما يكون المجال مهيئاً لمثل هذه المفاجأة... ولكن الإنسان يدندن حيثما اتفق له أن يفعل. ويكفي أن تتهيأ له دواع من نفسه، أو من خياله المريض، حتى يندفع في ذلك الهواء المغثي، غير عابئ بما يصبه على رؤوس الناس من هول وألم...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :834  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج