شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فضائل مجفوة (1)
من الواجب أن تتغير نظرة الناس إلى كثير من الفضائل. فإن العفة لم تعد في موازين الحياة العامة إلا ضعفاً، والأنفة حماقة وأفنا في العقل!!
ومن طبيعة هذا الاعتبار أن يصرف الرغبة عن تشجيع الفضائل وإكبارها فتضعف وتتلاشى، ويتسع المجال لأضدادها فتقوى وتنمو.
وليقل لنا من يمارى في هذه الحقيقة ما هي نظرة الناس إلى الحياء الذي كان معدوداً من أكثر الفضائل تمثيلاً لكمال النفس؟.. أليس هو اليوم معدوداً من دلائل الضعف والفتور وانحلال الحيوية؟
ولا ننكر أنه معدود فضله في نفوس الناس، وعلى ألسنتهم، كما هو معدود هكذا في بطون الكتب، ولكنه ليس كذلك في زحمة الحياة، ومقاييس الواقع الملموس.
وقد تجسد رجلاً يستحي ويأنف أن يريق ماء وجهه في التسكع على أبواب العظماء واستجدائهم وإرهاقهم بمطالبة، عزوفاً عن الضعف فيتنكرون له ويحاربونه ويعملون على محوه كأنما يعدون انصرافه عن غشيان مجالسهم واحتمال انكماشهم عنه، تعالياً يستحق عليه العقاب، وهو لو لاقاهم لذاق الويل من الغطرسة والخيلاء ولما كان في اعتبارهم أكثر من فرد لا يأبهون له في جد أو هزل، ولما لاقوه إلا بما تنفجر له النفس الأبية، وهم إذا أباحوه عطفهم أو بشاشتهم وإقبالهم، فإنما يفعلون بعد أن يكون قد أبلى كوجهه، وأحنى رأسه وقدميه في مسابقة خدمتهم إلى أداء أحقر واجباتهم وأدقها تمثيلاً للمذلة والهوان.
وربما مات الأنوف جوعاً، والناس خبيرون بحاله، فلا يدفعهم إلى تفقده والعطف عليه بدافع من دوافع الإنسانية والرحمة وكبار الفضائل ولا يكون ذنبه بعد ذلك إلا أنه ترفع عن السؤال.
فما هي هذه الفضائل المجفوة المنكورة؟ ولماذا يلقنها الناس أبناءهم إذا كان نصيب المتحلي بها الإنكار والاحتواء؟
والجرأة الأدبية، وعلو النفس من جملة الفضائل التي تربي الأمم أبناءها عليها وتأخذهم بها أخذاً لا هوادة فيه، وتوسع المجال لاهتبال نتائجها. فما هو المجال الذي يهيئه فهمنا وتقديرنا لهذه الفضائل؟ إنه ليس إلا مجال السخرية والامتهان والكبح في ما نعرف..
ولو أن مفكراً حراً زين للناس أن يربوا أبناءهم على الوقاحة في مواضع الحياء وعلى الضراعة والاستخذاء في مواقف الإباء والكرامة، وعلى الكذب والرياء والملق والخداع، لقال الناس إنه إباحي لا يقيم للفضائل وزناً، جاهلين أنه إنما يبني جيلاً ناجحاً بهذا المبدأ ويقضي على آخر ضعيف متعثر.
وها نحن نرى اليوم وسائل النجاح محصورة في مجموعة من الرذائل والصغائر كان الواجب أن نتنكر لها ونحاربها بكل ما أوتينا من قوة الإيمان والخلق، كما يفعل غيرنا من بني آدم.
وبعد، فما يدفعنا إلى إجمال هذه الفكرة عداؤنا للفضيلة، ولكن رثاءنا لها، وإنا لمن أول المؤمنين بأن الفضائل التي مشت الإنسانية على ضوء هديها، وما تزال تستمد منها حياتها، لخليقة بألا تحارب بتشجيع أضدادها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :854  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.