شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المحاضرة (1) (1)
سادتي -إخواني
عندما يكون الإقدام على المخاطر ضرورة، لا يعد شجاعة، ومعنى هذا أن النسبية تدخل في حساب الحقائق الفكرية.
والضرورة هي التي تدفعني اليوم أن أقف منكم هذا الموقف على إيماني بضآلة شأني في ميزان الفهم العام... فما كان يسعني أن أرد لجمعيتكم المخلصة طلبين في عام واحد.
وللضرورة في حساب الحياة أبعد الأثر. ونعتقد أن التطور ما لعب دوره الخطير في تكميل أسباب الحياة الاجتماعية إلا على أساس الضرورة الحافزة.
إن حديثي في الواقع ولا أسميه محاضرة، عن الخلق الكامل كعماد للرجولة، لا عن الضرورة كأساس للخلق الفاضل، أو كعماد للرجولة، لكني اخترت أن أمهد لهذا الحديث هذا التمهيد، وأن أزحزح العنوان المقترح عن وضعه قليلاً فيكون "الرجولة عماد الخلق الفاضل" لا الكامل فما يزال الكمال نشدة الحياة المطولة، ووهمها الذي تنساق أبداً في طلابه، وما دامت مراحل الحياة تمتد ولا تنتهي. وقوافل الأحياء تسير ما يثقِّل خطاها الزمن الجاهد. وما دام التغير الدائم دأب الحياة وسبيل ما فيها، فهل نقول إن شيئاً كمل، قبل أن يوفى على غايته، ويبلغ تمامه؟
وأنا لست أعرف معنى لهذه الحرية، بيد أني ألفت أن أطلق لفكري عنانه فهذا عندي أخلق بأن يجعلني أكثر شعوراً بحياتي، وفهماً لها، وأنا طامع بعد في أن تحمدوا لي نتائج هذه الحرية إن شاء الله.
لا تكون النظرة إلى حقائق الحياة والفكر خالصة، إلا من أناس يرون أنفسهم فوق قيودها وقوالبها، وهؤلاء يدعون بالمجانين تارة، وبالفلاسفة وقادة الفكر تارة، لأن حظ الصفات والمبادئ والنزعات يرتبط دائماً بحظ الداعين إليها، والمتصفين بها، من النجاح والفشل.
هذه حقيقة فطن لها الناس من القدم، فقالوا كثيراً ما معناه:
الناس من يلق خيراً قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
ليس هذا حظ الأحياء فحسب، بل حظ المبادئ والأغاني والنظريات والفضائل، وحظ موقفي بينكم الليلة أيضاً.
وأنا أريد التجريد والتعرية كباحث لا كمحاضر، فإني لو قصرت كلامي على الرجولة، أو على الخلق الفاضل، خشيت أن يتحول حديثي إلى موعظة لا تعدو أن تكون تمدحاً حماسياً بالفضائل، دون تحليلها، وردها إلى مصادرها وتحديد قيمها، ومعاييرها، وأثرها في صميم الحياة وعلاقتها بالنفوس.
والتجريد مبدأ قديم لي أو هو مرضي الذي لا أشفى منه. عرفني به من عرفوا طريقتي في الحياة ومن قرأوا نظراتي القديمة في الخير والشر. في الفضائل والرذائل، وفي الحب، وفي الشعر.
فإذا ظن ظان أن في ما أقوله الليلة خلطاً أو إطلاقاً أو شذوذاً، فإنما يكون هذا الظن معقولاً لا أضيق به، فهو عندي شبيه بالنظرة إلى مجهول لم يتكشف، لا إلى مجهول أخذ سبيله في التكشف والوضوح.
* * *
كان الحديث عن المسائل الجنسية، وعلاقتها بحياة الإنسان الفكرية، وأخلاقه، وميوله، وعقده العصبية ووجدانه؛ أول ما فوجئ به الناس مساً لمواطن العفة والتقديس في نفوسهم وعقائدهم الفكرية، حتى نالت المسألة الجنسية نصيبها من الفهم والتقدير، فإذا تناولها اليوم باحث بالتوليد والتكرار والتمحيص والاكتشاف، لم يلق العنت الذي لقيه الباحث الأول.
وأنا لا أزعم لكم أني الباحث الأول في الفضائل والرذائل، ولكني أظن أني أول من يتناول البحث فيها بهذه الطريقة التجريدية وبهذا الأسلوب العاري.
والتجريد في مرحلته الأولى، رد للمسائل إلى أصولها المفروضة، وإلى أساساتها العارية. فهو يمس العقائد الفكرية -لا شك- ويهدم منها شيئاً، ليقيم شيئاً محله.
وهو فرض ينازل حقيقة تحجر بها الاصطلاح، وهم ينازل اعتقاداً، وشك تعارض به معرفة.
وما زالت النفوس أضعف استعداداً لقبول المفاجآت التي تحاول أن تنتزع من معتقداتها ومشارعها، شيئاً له قيمته وقداسته، وله صلابته العنيدة.
وشأن الجديد في هذه السبيل، أن يكون رمز الإقلاق والبعثرة، وما يهون على النفوس والأفكار أن تنزل عن قوانينها الأدبية، وتقاليدها وعقائدها، إلا مكرهة.
والجديد متى استطاع أن يقيم الشك في نفس، كان قد غزاها الغزوة الأولى ولكن هذا ليس سهلاً كما يظن.
فقد يكون هدم قانوني رياضي، أو هدم قاعدة علمية، أهون كثيراً من مس عقيدة في رجل، أو في فضيلة، بل هو هكذا.
قلب أينشتين -العالم الألماني- بعض القواعد العلمية والرياضية رأساً على عقب، فما عبأ به الناس، ولا تنكروا له. ولعله لو اقترح تحويل كنيسة مهملة إلى ملعب رياضي، لمس بهذا الاقتراح أطراف مشكلة قد تجر إلى الاعتداء عليه.
إذاً نحن نعرف الخطورة في اعتراض عرف متصلب، حتى في أهون المسائل النظرية المتعلقة بعقائد الفكر والنفوس، فلماذا نجازف...؟
إن المجازفة الليلة ضرورة، ومن الخير أن نستفيد من قوانين الضرورات المرتجلة، لنكون باحثين مجازفين. فالمجازفة في تاريخ نشأة الحياة، وفي تاريخ تطوراتها، قادت روادها إلى القمم الشامخة وأعانت على كشف مساتير الوجود والفكر.
والفكر المؤمن بنظرته إلى شيء نظرة خاصة، لا يسعه إلا أن يؤدي الأمانة.
ونحن لا نحلم بالقمم الشامخة، ولكننا نرجو أن نصحح مقياساً من مقاييسنا الفكرية، ولو بالشك فيه، لأن الركود في تاريخ أمة تتطلع إلى ما وراء حدودها الجامدة، شر من الخطأ.
لهذا ستكون نظرتنا إلى الفضائل -على أن أساسها التجريد القاسي- نظرة من يريد أن ينطلق بها من حدودها الضيقة المتصلبة، إلى حدود رحيبة من الشك والوسواس، خاضعاً لسعة إدراكه لأطرافها، وخفاياها ورموزها، وعلاقتها بأشباهها، وهو لا يفعل بها هذا ليضعفها، بل ليبلغ بها أبعد حدود القوة والاحتمال.
والناس يمتحنون قواهم الجسدية، بألوان عنيفة من الرياضة، والكد المصطنع، لتمرينها على احتمال الأعباء، ولشحذ طاقتها، ولتقوية مراكز الإرادة والسلطان فيها. على أن الرياضة في ذاتها -كمشقة- نصب للجسم، وانتهاك صريح لحرمة نشاطه المذخور.
وسأكون الليلة أكثر حرية. وإن كانت أفكاري ونظراتي، ستفقد الترابط والانسجام، لضيق المجال الذي يشعر به باحث أو محدث، يجيء في غبار السادة المجلين قبله. فهنا تنتصب الموازين الدقيقة، وتضيق دائرة التسامح والتغاضي. فقد عرفت الأذهان أنماطاً عالية من التفكير وأنماطاً قوية من أساليب القول المجود، كونت ذوقاً أرستقراطياً، لا يرضيه من الجمال إلا أن يكون فتنة تهز المشاعر، ولا من القول إلا أن يجيء عبقرية.
وهذا لون من ألوان الإدمان الأدبي، بل هو عندي الليلة شر ألوانه، فإن الأذواق متى ألفت أن تصيب لذتها من جمال محدود، تاقت بعد ألفته، واستصفاء معانيه. إلى ما يكمن وراء حدوده الظاهرة، وإلى ما يقودها بعيداً عن هذه الحدود، على وفاق نصيبها، من سعة التخيل، وجشع الإحساس، والمقدرة على تصور الصور واستحضارها وانطلاق الميول.
وإدمان النظرة إلى صورة جميلة، يفقدها شيئاً من تأثيرها القوي كلما تجدد إليها النظر المشغوف، وارتوى منها الحس المنهوم، حتى تفقد مقدرتها على التأثير والأداء.
وإنك لتعجب بالمنظر يفتنك، ويلقاك بألف معنى. أول ما تلقاه فما تزال نفسك دائبة في تحليل معانيه وإذابتها، حتى تنتهي بها إلى الإصغاء والإفلاس، وتكون قد حولتها إلى دمك شيئاً منه، فما تلبث أن تتصرف عن هيكلها العاري، وقد تركته مادة جامدة، وأضفت إلى قانون الجمال وفهمه، والإحساس به في نفسك، مادة جديدة، لا يبلغ بها الرضا عندك، إلا أن يضمن لك المنظر الجديد، معنى جديداً، يزيد عما تعرف.
ولبعض النفوس والأذواق قوة النار واستشراؤها، شأنها في الإذابة شأن النار، ما يستقيم فيها شيء إلا إن كان في معناه معنى الصخر والحديد وهو بعد ذاهب لا يدوم، وذائب ما يبقى!
فإذا خفت الليلة، فإنما أخشى خطراً عرفت مشابهه في نفسي، فإن كتبت لي السلامة -ولا أتوقعها- فإنما تكون أثر الحظ، وخارقة من خوارقه المعروفة.
ولست أرجو أن أصيب النجاح في مثل هذه السبيل الجانحة، لكنها الضرورة، وما كنت لولاها أوثر أن أتكشف لكم عن سرائر ودخائل ضئيلة تخيب أملكم فيَّ، وأملي في نفسي.
ولقد يواجه المرء خطراً لا معدى له عن مواجهته، فتكتب له النجاة. فيقول الخليون: إنه شجاع، فإن أسلم روحه قالوا إنه الجهل والتهور واختلال القياس، أو ذهبوا يعددون منادح الخلاص التي يرون أنه كان خليقاً بأن يتفطن لها.
ولا شك عندي في أن سراوة مظهري ستجني عليَّ كثيراً، وتردد اسمي بين أسماء إخواني الأدباء، يوهمكم فيَّ، ويعدكم بما أعجز عن تحقيقه. ورب قائل يقول: أليس هذا عصر الانتهاز والإعلان؟ فأقول له: بلى، ولكنه عصر المنطق والوزن والتقدير والمقارنة أيضاً!؟ وإنما يقاس النجاح فيه، بما تعد به الطاقة المتخيلة، والإمكان المفروض. والناس إن أدهشهم الرجل العادي، لأنه لعب على الحبل بمهارة، لم يقنعوا من البهلوان الشهير إلا بما يدخل في حدود السحر من الأفعال الخارقة.
ونحن نفرح بالطفل يهدينا ما لا يساوي في ميزان المادة شيئاً، أضعاف ما نفرح بهدية غني تساوي العشرات؛ ذاك أنّا ننظر من وراء القيم والمعايير، إلى الطاقة والإمكان، وإلى بواعث الشعور ونسبتها؛ فالكبير إن أهدى فسبيل مثله أن يفعل، أما الطفل فسبيله الأثرة والشح، فهو إن أهدى شيئاً فإنما يهديه من نفسه، وإنما يعبر بهذه الدلالة عن عاطفة ساذجة في حرارة اندفاعها، وصدق انفعالها، غير ناظر إلى الربح والبذل.
والكبير يقدر الغاية، ويرسم الوسيلة إليها، أو يؤدي الدين، أو يفتتح السبيل، وميزانه في ذلك ميزان الحساب الدقيق، إما في اعتبارات المادة، أو في اعتبارات الشعور بمطالب القلب والفكر، ونوازع الأريحية والوجدان فشأني الليلة أمامكم، هذا الشأن. وما أود أن تكون خاتمتي بينكم موتاً، بل انتحاراً. فالانتحار -هنا على الأقل- أضمن لتحقيق معنى الاختيار من الاستسلام للموت. ولعله أدل عندي على الحيوية، وتركز الإدارة، ووضوح الفكرة، وقديماً قالت العرب "بيدي لا بيد عمرو" و:
"تأخرت أستبقي الحياة، فلم أجد
لنفسي حياة، غير أن أتقدما"
* * *
ليس من السهل أن يتكهن باحث بالعهد الذي عرف فيه الإنسان الخير والشر، وإن كانت معرفتهما -على الأرجح- متصلة بحياته الفطرية الأولى، أو منتزعة من صميمها.
وإذا كان صعباً أن يحدد التاريخ الذي عرف فيه الإنسان، الزراعة وزاولها، والتاريخ الذي اكتشف فيه النار، وعرف صنع السلاح، وإقامة الأكواخ، فإن من أصعب الصعاب، أن يكتشف اليوم باحث، تطور نفسيات الإنسان الأول، وتطور مدركاته الفكرية.
وقد يمكن ترتيب الأطوار الكبرى التي اجتازها الإنسان القديم بشيء من الفرق الدقيق، وبشيء من الاستقراء، ولكن التعرض لسلسلة المراحل التي تخللت هذه الأطوار الكبرى، ليس هيناً.
وإن كانت دراسة أحوال الجماعات الهمجية اليوم، تشير إلى أحوال الإنسان القديم، وتحل بعض الرموز، فإن ما لا شبهة فيه أن حياة أية جماعة همجية في هذا العصر الراهن، تختلف كثيراً عن تاريخ همجية الإنسان الأول ولا يمكن أن تعطي صوراً تقريبية لها.
فانتشار الجماعات الأولى على سطح الكرة الأرضية، يعد وثبة مجهولة لا يمكن أن يهتدي فيها فكر الباحث أو المفترض إلى نتيجة، يطمئن إليها العقل. وتحديد المجتمع الأول، للجماعة الأولى، لا يقوم إلا على ترجيحات ذهنية ضعيفة، يسهل نقضها.
فآثار الإنسان والحيوان المتحجرة، تكتشف في نواحٍ كثيرة متباعدة من الأرض، لا تصلها ببعضها وسائل النقل السريعة في هذا العصر إلا بصعوبة.
والذي دفع الجماعات البشرية الأولى إلى التفرق والتباعد، لا يمكن أن يتعدى الدوافع التي تنشأ عن الحاجة إلى الطعام، أو الشعور بعدم ملاءمة البيئة؛ لأن نظرية التكاتف الاجتماعي، لا يمكن التسليم بصحتها، بالنسبة للأطوار الأولى.
ولو أمكن التسليم بأن الجماعات المشتقة من الجماعة الأولى، اندفعت بعوامل بيئية، أو غذائية إلى الهجرة عن مواطنها الأولى على شاطئ نهر مثلاً، لما جاز أن تقطع طول هذا النهر، لتهجره إلى بيئات جافة، يقل استعدادها الطبيعي للزراعة، ولتكوين مجتمع حيواني، أو إلى بيئات بعيدة يستغرق الوصول إليها عمر الجماعة المهاجرة قطعاً.
ولا شك أن عوامل الانتشار والهجرة من أول بيئة عمّرها الإنسان ستبقى لغزاً مبهماً.
وعلى قدر الصعوبة في استنتاج النتائج المتعلقة بالحياة الاجتماعية للإنسان الأول، تتضاعف الصعوبة في الحكم على تطوراته الفكرية والنفسية.
ولا تزال الفكرة عن الخير والشر في بقايا الجماعات الهمجية، الآن غامضة كل الغموض، بالرغم من أن همجيتها، تعد حياة اجتماعية عريقة، إذا قيست فكرياً إلى ما يفرضه العقل لهمجية الإنسان في أطواره الأولى.
وقد تستغربون العلاقة بين الأطوار الاجتماعية الأولى، والبحث في الأخلاق، ونحن نراها في أوثق العلاقات، وألزمها لباحث يريد أن يحدد الفضائل، التي تقوم كل فضيلة منها مقام شريعة أدبية قامت بمجهود كبير في تهذيب النفوس، وتحديد ميولها، وكبح نزعاتها.
إن القوانين التي تسن اليوم، تشير إلى المجهود المضني الذي تبذله قيادة كل جماعة، لتنظيم حياتها، وعلاقاتها، وإقامة الحدود بين أفرادها، وتشير إلى التنازع المستمر بين رغبات الفرد، ورغبات الجماعة، أو بين الرغبات التي تمثل المصلحة الفردية، والرغبات المثلى للجماعة.
ومصادر التشريع اليوم، لا تلقى المقاومة التي تلقاها مصادر التشريع في الأطوار الهمجية الأولى. فقد كان كل فرد في جاهلية الحياة، حكومة تمثل نفسها، وتفرض رغباتها، وتمهد السبيل لمصالحها، بقانون قوتها الغاشمة!
فالعهد الذي برزت فيه أول فضيلة، أي أول شريعة أدبية، هو العهد الذي انبثق فيه فجر المدنية الفكرية للإنسان بلا شك، وهو العهد الذي تهيأت فيه الولادة المستمرة للفضائل، والشرائع الأدبية.
كيف نشأ الشعور بهذه الفضيلة؟ وكيف فرضت؟ وكيف تم الإيمان بها، أو الاصطلاح عليها؟ وكيف سادت أحكامها؟ وممن ممثلوها في الجماعة؟ وهل كانوا يمثلون سلطتها؟ وهل كانوا أقوياء، أم ضعفاء؟
تتداعى هذه الأسئلة في فكر الباحث باعتبار علاقتها بأهم خطوة في الأطوار الأولى لحياة الإنسان القديم.
ولا شبهة في أن الإنسان عرف النفع والأذى قبل أن تقوم في نفسه فكرته الأولى عن الخير والشر باعتبار مفهوميهما العام، فاهتداؤه إلى فكرة الخير والشر، كان بعد عقيدته في النفع والأذى.
والنفع والأذى جاءا، أو جاء الشعور بهما بعد اللذة والألم، لأنهما صادران عن أحكام جسده وحياته في نطاقها الحيواني الضيق.
ولما كان بحثنا أشبه بمحاولة أدبية جريئة لتحليل الأخلاق، وعلاقتها الأصيلة بالحياة، فإنا سنتسامح كثيراً في التقيد بالقيود التي تستوجبها الدقة العلمية، في أبحاث تحمل شارة التقيد بأحكام العقل، والعلم المدقق.
* * *
نبدأ بتعريف الفضائل، والرجولة، والأخلاق، وهي الكلمات التي شملها عنوان هذا البحث مع إيماننا بأن تعريفنا لا يمكن أن يضمن تحديداً دقيقاً لها، إنما يكون أساساً تبنى عليه النظرة الخاصة، وتقوم عليه فروضها.
ولا نستبعد أن يكون ما نقوله في هذه التعاريف، وفي ما يتلوه من الفروض والنظرات متأثراً بما سبقنا إليه الباحثون. ولنا في هذا رأي نرى إيراده ضرورة.
إن الأساسات المدرسية، والأدبية القديمة، في اللغة العربية، وفي ما دخل عليها من اللغات الأخرى، تكون جزءاً من فكرة الأديب ومبدئه الأدبي، وجزءاً من نزعاته الفكرية.
وإذا كان الشاعر في عصرنا لا يخرج بلغته عن جملة الألفاظ التي استعملها الشعراء قبله، ولا عن قوانين الصياغة والرصف، ولا عن قوانين التخيل والتصور، فلأنه لا يستطيع أن يبتدع لنفسه لغة خاصة، ولا فكراً يصاغ على غير ما صيغت عليه أفكار الشعراء قبله، ولا قوانين صياغة غير قوانين لغته التي ورثها.
ومصادر الشعر النفسية والفكرية، وأسبابه العاطفية، والعقلية، ما تزال هي هي في شاعر اليوم وفي شاعر الأمس.
وإذا كانت أوضاع الحياة قد تغيرت، فإن خصائص النفس والفكر لم تتغير، تغيراً انتزع عواطفه الإنسانية وبدلها.
وإذا كانت العلوم قد تقدمت فليس تقدمها دليل أنه صار ذكاء الإنسان إلى غير ما كان عليه قبل ألف سنة.
إنما معناه أن الاكتشاف وتقدم وسائل التعليم، وتطور نفوذ الثروة والسلاح، والتقدم الآلي، وسعت مجالات الذكاء وضاعفتها.
وإن كان الإنسان المتحضر اليوم لا يعيش كما كان يعيش سلفه، فإن قلبه لا يزال ذلك القلب، وقريحته الشعرية ما تزال تلك القريحة، وما تزال أسباب الحب، ومشاكله، وابتعاثاته، وأوهامه في نفس شاعر اليوم، هي ذاتها في شاعر الأمس.
فالباحث في الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، لا يمكن أن يأتي في تعريفها بجديد يختلف كثيراً عما أتت به الملكات والأفهام قبل ألف سنة مثلاً وما يصيبه من تقدم الاكتشافات الفكرية، وتعدد سبل الحياة والعقل، يوسع مجالات العلائق فقط، ولكنه لا يخرج الاعتبارات الفكرية عن حدودها إلا قليلاً.
وجمود بعض الحقائق النفسية والفكرية معروفة، ما نجدنا بحاجة إلى التدليل عليه، وإنما تختلف العصور في الإيمان بالحقائق والتوسع في فهم علاقاتها. فإذا قال مفكر اليوم إن الفضائل أوهام عقلية أو نفسية، غايتها إيجاد مثل عليا للجموع، تستمد منها روح العزاء والعزيمة والأمل، لم يكن معنى هذا إنكار صحة تعاريفها، أو صحة الأحكام التي أعطيت عنها.
فالشيء قد يكون صحيحاً في ذاته، وصحته لا تستدعي صحة الفكرة عن الاعتراف بإمكان تطبيقه، أو استحالة هذا الإمكان، ولا تستدعي الإيمان به أو رفضه.
على أن تحديد بعض الحقائق وتعريفها قد يختلف في عصر عن عصر، بل في فكر عن فكر، ولكن حقائقها الأصيلة لا تختلف.
فإذا قال قائل عن الكذب ليس هو حكاية غير الواقع، لاختلاف التصورات والإدراكات في بعض النفوس عن بعضها، لم تكن مقالته إنكاراً لحقيقة الكذب، بل لتحديده وتعريفه.
وقد نكون مسبوقين إلى هذه التحديدات، أو مخالفين بها تحديدات يظن أنها أكثر دقة واستغراقاً لمعنى ما تحدده. فما نضطر أحداً إلى التسليم بما نقوله، أو قد يكون كل ما نقوله عن الفضائل والرذائل شيئاً قديماً فيما ندعي له الجدة أمامكم. وقد يكون شيئاً تجدون مشابهه في الجديد فما تنفى عنه هذه الشبهة.
إنما ندعي الاستقلال، وإنما نقول إن الأساسات المدرسية والفكرية القديمة، والأساسات الفكرية الجديدة، وشيوعها، جعلت بين الأفكار العامة روابط صلات، ما ينكر أثرها في إزالة الفوارق وتقريب الأفكار وتشابه السمات.
وحسبكم أن تقرأوا اليوم في الحجاز، أساليب من الشعر، وأساليب من الكتابة، لا يختلف بعضها عما تعرفون لخيرة الكتاب والشعراء في مصر، فمن يَعُدَّ هذا تقليداً أو سرقة؟ إنما هو أثر الاشتراك العام في مؤثرات فكرية متشابهة، وأثر انتشار الثقافة، وتهيؤ أسباب العلم لمستحدثات العقل والفكر والصناعة والفنون، وتوثق الصلات الفكرية والأدبية، وتوحد اللغة والدين، وتقارب الطباع والأمزجة وتأثير الاختلاط والامتزاج الاجتماعي والفكري.
وفي شعراء مصر من نجد على شعره سمات شاعر عربي قديم، وطابع صياغته في كُتَّابها من نجد في آثاره ما يعلن صلته الصريحة بأديب من كبار أدبائها، وفي كبار أدبائها من تطالعنا آثاره بأفكار أديب، أو نظرات عالم، أو مذاهب فيلسوف من الغرب، فماذا نحن قائلون؟؟
أغير أن مجال الفكر اليوم قد اتسع، وتحرر من القيود التي أقامتها العزلة القديمة بين الشعوب؟ وإن آثار حرية الفكر وشيوع مذاهب التفكير وأساليبها في أنحاء العالم، وتقدم المواصلات والصلات الاقتصادية والفكرية والسياسية قد خلقت طائفة من القرابات الذهنية والأدبية بين الناس؟؟ وكانت سبباً في القضاء على كثير من أسباب التباين الفكري والأدبي بين الشعوب المتباينة!
وما نرى بعد ما قلناه، دليلاً على براءتنا من تهمة التقليد أو ترديد المألوف، أقوى من ضعف هذا البحث، واضطراب مذهبنا فيه، هذا الاضطراب الواضح.
والآن نبدأ:
الخلق الفاضل يعرفه الناس، فلا يزيدهم فهماً له أن تقيم الكلمات والتعاريف حدوده.
فهم يكذبون ويخونون، ويؤمنون بأن الصدق والأمانة نبل.
ويتبذلون، ويشعرون أن العفة سمو.
ويضعفون، ويكبرون القوة.
ويَظلِمُون، ويقدسون العدالة.
فالفضائل إذاً صفات وأعمال، تؤمن الجماعة الغالبة اصطلاحاً بفائدتها وضرورتها، أو بأنها خير.
والرذائل صفات وأعمال تؤمن الجماعة الغالبة اصطلاحاً بضررها أو بأنها شر.
فالنفع والأذى أساس الاعتبار في الفضائل والرذائل.
والأخلاق هي آثار الفضائل القائمة في النفوس، أو أثر مزاولتها، والرجولة في ميزان الاعتبار الأدبي، ليست هي الفارق الطبيعي بين جنسين ولكنها مجموعة من الصفات الرائعة في الرجل الرائع.
* * *
ومن حسن الظن أن الألفاظ في مجال البحث الأدبي، وتقرير التعاريف لا تحدد المفاهيم تحديداً هندسياً، ولكن تُقربها، لأن مدركات الذهن عادة تقوم بنصيب وافر في تكميل الصور، وحل رموزها، وتوسيع مدى مضامينها وإشاراتها.
وواضح أني لو أردت أن أضع تعاريف أدق وأكمل للفضيلة والرذيلة والرجولة والأخلاق، لوجب أن أسوق أمامي قطيعاً من أفكار الحكماء والعلماء والأدباء والفلاسفة، وأكون قد عرضت عليكم بضاعة غيري وبهذا تكون اللعبة أقل خطراً مما يراد، أو مما ينتظر.
والإيمان بالفضيلة قديم، كما أن الكفر بالرذيلة قديم، والحرب بينهما لا تزال قائمة، ما تهدأ لها ثائرة، وهي سجال بينهما، ميدانها النفس الإنسانية تارة، ومجال الحياة الظاهر تارة أخرى، وستبقى سجالاً هكذا. إلا إن أراد الله، فإذا انهزمت الرذيلة في مجال الحياة الظاهر، لم تنهزم في مجالها الباطن، فعرشها ما يزال موطد الأركان في النفوس.
فهل كانت الرذيلة ضربة لازبة على الحياة؟
أم أن في النفس الإنسانية ضعفاً؟ ما تكون الحياة كاملة معاني القوة إلا به. وإلا بأن يبقى قائماً يذكي نار الصراع فيها حتى تنتهي إلى غايتها المقدورة لها، أم أن الشر فطرة النفس الإنسانية، والخير عدوها اللدود فما ينفك يغزوها، وهي تدفعه؛ لأنه الدخيل الواغل على حياتها، فإن استكانت له فإنما تكون استكانة المجاهد المغلوب على أمره، لا استكانة الإيمان بالحق، فإذا استعادت قوتها على الصيال صالت، وعادت سيرتها التي مما تتبدل ولا تزول.
ذلك ما لا يجد الفكر عليه جواباً.
لا خلاف في أن الإيمان بالفضيلة، والكفر بالرذيلة، غير سلوك سبيلهما، لكن الخلاف يجيء من التفرقة بين الإيمان والعمل به، والكفر والعمل به، والموقف من الدقة بحيث يخشى فيه الزلل على العقل البصير.
هذه مسألة لا يجيب عليها العقل وحده، بل يجب أن يُستنجد لها الضمير؛ فالإيمان بالفضيلة عند الفارابي -الملقب بأرسطو العرب- خير من سلوك سبيلها على غير إيمان.
وهو يريد بالإيمان هنا المعرفة. معرفة الفيلسوف المتعمق المنتهي إلى الطمأنينة والاعتقاد؛ فكأنه يقول: إذا عرفت أن الصدق خير من الكذب، وآمنت بهذا إيماناً قاطعاً مستمداً من معرفتك، كنت عندي خيراً من الصادق ما دام لا يماثلك في هذه المعرفة. واسمعه يقول: "لو وجد رجلان أحدهما واقف على مبادئ وتآليف أرسطو، ولكن لا يسلك سلوكاً منطبقاً على مبادئ هذا الفيلسوف، والآخر يسلك سلوكاً منطبقاً على ما جاء في هذه المؤلفات، ولكنه جاهل بها، فإن الأول أفضل من الثاني، لأن المعرفة أفضل من الفعل الفاضل!".
هكذا يقول هذا العقل الجبار، فهل هي كبوة من كبواته، أم هي حقيقة الحقائق في الإيمان بالفضيلة؟
إننا نرى وراء هذه الكلمة أمداء مترامية ما يحيط بها الفكر، فما نود أن نهيم فيها على وجوهنا، قبل أن نعود إلى الإيمان بالفضيلة، نحدده أو نقيسه، أو نزنه عساه يكون عدتنا لهذه الرحلة العسيرة.
ولا مراء في أن الإيمان الكامل الصحيح بالفضيلة، معرفة، وعمل، تقتضيه هذه المعرفة، وإرادة، وحرية..
هذا هو المظهر الكامل للإيمان بالفضيلة في اعتقادنا. فلنستعرض الآن ألواناً أخرى للإيمان بها.
إن الإيمان بالفضيلة دون العمل بمستلزماته، ضعف لا يتناول حقيقة الإيمان، بل يتناول قوة النفس وضعفها، وفتورها ونشاطها، فهو إيمان المعرفة، لا إيمان اليقظة.
وهناك لون من ألوان الإيمان بالفضيلة يعمل بمستلزماتها، ولكنه لا يعرفها المعرفة التي هي الإيمان، فهو اندفاع آلي لا اختيار فيه للنفس ولا إرادة، فنصيب النفس فيه، نصيب الآلة في حركة تؤديها، فهي تتحرك ولا تعي، وتفعل ولا تريد، كالصخرة تتدحرج فتصيب حياً فتقتله، وكالحيوان يطأ حياً فيودي بحياته، لا إرادة، ولا إدراك.
ولون آخر من الإيمان بالفضيلة تولده الضرورة، لا يكون لاختيار الإرادة فيه مجال، ولا لحريتها مساغ، كإيمان المرء بضرورة الثبات على الاستبسال دون نفسه أمام خطر داهم لا مناص له من مواجهته.
فالثبات هنا ليس إيماناً بالثبات، والعمل بمستلزماته ليس عملاً بمستلزمات إيمان يقوم على اقتناع الحرية المختارة، لكنه إيمان ضرورة بهذه المستلزمات والاستجابة لها.
فهذا إيمان، وعمل بمستلزماته وإرادة ظاهرة. لا ينقصه إلا الاختيار ليكون إيماناً كاملاً، ففيم يختلف عن إيمان رجل تحمله بالسيف على أن يؤمن بأن الصدق خير من الكذب، وعلى أن يكون صادقاً؛ فإذا عرف وصدق، فإنما يكون هذا إيمان ضرورة، وعملاً آلياً لا اختيار له فيه ولا حرية، وإنما يكون إيماناً تنتقض عليه نفسه كلما مارسه!
وإيمان بالفضيلة يولده الانقياد التقليدي، لا تنتقض فيه النفس على شيء، لأنها لا تحس شيئاً، بل تساير عليه الناس، تراهم يفعلونه فتفعله، لا مختارة ولا مكرهة، وإن كان ظاهره الاختيار والإرادة.
هذا إيمان بهيمي.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1093  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.