شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بين يدي القارئ (1)
راودتني فكرة الكتابة عن تاريخ مكة في سن مبكرة من حياتي وشاركني الرأي في هذا زميل كان -يرحمه الله- من أنشط من عرفت من شبابنا هو المرحوم محمد سعيد عبد المقصود وحاولنا معاً أن نشرع في الكتابة ولكننا وجدنا الموضوع أوسع من أن يستقصيه شخص أو اثنان فأخذنا نتصل ببعض من عرفنا من الزملاء وكنا نؤمل أن نتضافر على دراسة الفكرة وكتابتها فاستجاب لنا بادئ الأمر أكثر من واحد ثم تراجعوا وتراجعنا مهزومين أمام ما يتطلبه موضوع البحث من جهد.
وعاودتني الفكرة فانطلقت أناقشها، ما يمنعني أن أعالج الكتابة والبحث في حدود إمكانياتي وإذا كان تاريخ مكة لم يدرس إلى اليوم دراسة عصرية مستوفاة فما يمنعني أن أخطو الخطوة الأولى لتكون تمهيداً لغيري؟
قلت لنفسي إن الأعمال لا تبدأ كبيرة قط، وإذا ظللنا ننتظر ألاّ نخطو إلاّ مستوفين شروط الكمال فليس لهذا غير معنى واحد هو أننا لا نخطو.
كنت أعلم أن تاريخ مكة مغبون عند أكثر من أرَّخ من أسلافنا، وليسوا ملومين على ما غبنوا. فقد كانت النظرة إلى تاريخ هذه البلاد إسلامية بحتة عني فيها المؤرخون بهذه البلاد يوم كانت مهداً للعرب، وعنوا بها عندما أنجبت سيد العرب صلى الله عليه وسلم، كما عنوا بها في الفترة التي تعاقب فيها خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ثم ما لبثت أقلامهم أن عرّجت بعروج الخلافة الإسلامية إلى الشام ثم إلى بغداد وتركت الحجاز دون أن تذكره إلاّ في مناسبات اقتضاها السياق والاستطراد.
وعندما أرَّخ لمكة أهلوها لم تكن نظرتهم اجتماعية بقدر ما كانت دينية؛ لهذا ظفرت الآثار والمشاعر وأسماء الجبال المفضلة بما لم تظفر به ناحية أخرى من نواحي التاريخ.
وقد أرخ بعضهم للسياسة فسجل لنا حوادثها العامة واضطراباتها وأسماء من تولى الإمارة فيها فكان له فضل في ربط العصور بأجزائها ولكنهم لم يكتبوا ذلك إلاّ متأخرين بدليل هذا الفراغ الهائل الذي نجده في حوادث أواخر العهد الأموي وأكثر العهد العباسي الأول والثاني، فقد ضاعت على التاريخ حتى أسماء الولاة واشتد الخلاف حتى في ترتيب ولاياتهم وتواريخها.
وحتى هذا الصنف لم يُعنَ فيما كتب عن السياسة بالدقائق التي تعنى بها فلسفة التاريخ، فقد كان يكفيه في أكثر الأحيان أن يذكر وقوع فتنة في مكة أو عرفات ويذكر اسم صاحبها وما انتهى أمره فيها دون أن يضطر إلى بحث الملابسات التي أدت إلى نشوبها أو النتائج الدبلوماسية التي ترتبت عليها، وليسوا ملومين في هذا فقد عاشوا في عصر كان وعيه العام يعنى بأخبار الفتن ونتائجها في غلاء الأسعار وشؤون الاستقرار أكثر مما يعنى بالدبلوماسيات أو علاقة البلد الواحد بمعاصريه من الحكومات والدول.
فنحن نقرأ في أكثر ما كتب مؤرخونا القدامى عن حوادث لها أهميتها في عهد الفاطميين أو العباسيين أو المماليك، فلا نستطيع أن نستنتج علاقة هذه الحوادث بالدول إلاّ في النادر القليل، بل يتعذر علينا أن نعرف علاقاتنا الصحيحة بهذه الدول! أكنا مستقلين عنها تمام الاستقلال؟ أو بعضه؟ أم كنا تابعين لها تبعية مباشرة؟
ولست بهذا أريد أن أغمط جهود هؤلاء المؤلفين أو أنكرها عليهم وهي ثابتة في ما خلفوه لنا من ذخائر نفيسة، ولكني أريد أن أشير إلى ما قلته عن الوعي العام الذي كان لا يعنى بما نعنى به اليوم من أبواب التاريخ.
أما نواحينا العمرانية والاجتماعية والعلمية والأدبية والفنية فتلك بحوث لا نجد لها ترتيباً يصح اعتماده والأخذ به لأن الوعي الذي ذكرت كان لا يأبه بتبويبه أو تنظيمه على أنه كان لا يرفض أن يصادفه ذلك في سياق أو مناسبة أو قصة يراد بها التسلية والترفيه أكثر مما يراد بها البحث والتسجيل.
إذن فنحن لا نستطيع أن نكتب عن تاريخ مكة كتابة ترضي جيلنا لأن ما نملكه من مصادر لا يصح اعتماده إلاّ في الأبواب التي كان يعنى بها أسلافنا.
قد نجد في خزائن التراث الإسلامي مطولات لا علاقة لها بمكة ولكن آفاقها الواسعة وفنونها المتنوعة تسوقها أحياناً إلى الاستطراد في شيء هام له علاقته بمكة. فإِذا استطاع المطلع أن يقتنص الاستطرادات من هذا النوع فإنه سيستنتج مادة لها قيمتها في الكتابة عن تاريخ مكة ولا يتيسر هذا إلاّ لمتفرغ يقضي سني حياته في القراءة واقتناص ما يصادفه فيها.
لهذا كان من رأيي أن يخدم التاريخ في مكة لجنة تعينها الحكومة وتهيئ لها وسائل الاطلاع بصورة واسعة المدى.
مثل هذه اللجنة تستطيع أن تكرس جهودها إلى أعوام طويلة في مطالعة كل ما يصادفها من ألوان الكتب واقتناص جميع ما يفيد موضوعاتها حتى إذا اجتمع لديها في كل باب من أبواب التاريخ ذخيرة صالحة استطاعت تنظيمه وتبويبه وتكليف كل عضو بكتابة ما تخصص فيه.
كل هذه أشياء قدَّرتها قبل أن أبدأ في كتابة التاريخ، وكاد مفعولها يثبط فيَّ عزيمتي لولا أن أهبت بنفسي بأن لا بد من الخطوة الأولى وأن استيفاء جميع شروط الكمال لا يعني إلاّ الإخلاد إلى الانتظار الممل.
كنت أقرأ في فترة مبكرة من حياتي ما يصادفني ثم أدون ما استنتجته فيما يشبه المذكرات بعد أن أضيف إليه اسم الكتاب وصاحبه فاجتمعت لي مع السنين مدونات لا حصر لها من جميع الألوان غثها وسمينها.
ما كنت أدونها لأن فكرة التأليف مختمرة في رأسي تماماً -وإن كانت قد راودتني- بل لأن إحساساً عميقاً يزين لي تدوينها كما يزين لغاوي العاديات اقتناء القطعة من النسيج الأثري أو النقد القديم ليشبع إحساسه في ما يقتني.
وغابت هذه المدونات عن عيني طويلاً وشغلت عنها بشؤون كثيرة في الحياة حتى رأيتني فجأة أستيقظ من حلمي وأعقد العزم على كتابة تاريخ لمكة أستوفي فيه ما أملك من جهد لتكون خطوة أمهد بها لمن يستوفي شروط الكمال بعدي.
هذه كلمة كان لا بد لي أن أقولها كفاتحة لما أنشره ليدرك القارئ أنه ليس في إمكاني غير ما بذلت وأنه إذا تراءى له ما يتراءى فليجرب حظه في تأليف جديد يستوفي في الإمكانيات التي لم أستوفها ويساهم به في خدمة عامة مساهمة فعّالة، تهدف إلى البناء والإنتاج أكثر مما تستهدف إلى شيء آخر!!
ولا شك في أن ما يكتبه الكاتب بعدي سيمتاز بجودة الخطوة التالية وحسبي أني مهدت له السبيل وأيقظت فيه فكرة البحث.
وبعد فليس لدي ما أقوله بعد هذا إلاّ كلمة أخيرة أريد ألاّ تفوتك: ذلك أني عندما اعتمدت الكتابة في تاريخ مكة لا بد لي أن أعتمد -كمصادر للكتاب- تلك المدوّنات التي عشت في جمعها وقد سهلت عليّ تلك المدوّنات أعمالي لأنها أغنتني عن مراجع كان يجب أن تتقاضاني عمراً جديداً خشيت ألاّ أعيشه لأبدأ كتابتي بعده إلاّ أنني وجدتني أخيراً مطالباً بصفحات تلك المصادر لأجعلها في الهوامش تمشياً مع الطريقة المستحدثة، ولم يكن في مدوناتي إلاّ أسماء الكتب وأصحابها، لأن العهد الذي جمعتها فيه لم تكن قد شاعت فيه طريقة تسجيل الصفحات فتحيرت في الأمر، ولم أجرؤ على استئناف مطالعة ما قرأته من قبل خشية نفاد العمر قبل إنجاز ما أردت فاكتفيت بذكر المصادر في الهوامش دون الصفحات وفعلت مثل هذا في شأن المصادر التي طالعتها مؤخراً لتكون الوتيرة الواحدة ثم ما لبثت أن غيرت رأيي عندما حاجني زميل من نوابغ كتّابنا وأطلعني على مؤلف تاريخي حديث للمؤلف الدكتور طه حسين اكتفى فيه بسرد مصادره في نهاية الكتاب فرأيتني أتأساه وطابت نفسي لمتابعة منهجه فألغيت المصادر من هوامش الصفحات وأدرجتها في نهاية الكتاب وأسأل الله أن يجعل خطوتي في كل ما بذلت مسددة إنه الهادي إلى سواء السبيل.
أحمد سباعي
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1095  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الرابع - النثر - مقالات منوعة في الفكر والمجتمع: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج