شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قنصليتنا تتكئ على رَبوة خضراء
لا تشعر وأنت في مدينة القدس أنك تسكن قمة شامخة، ذلك لأن مجموعة الجبال التي تنام القدس فوق أكتافها تتقارب وتستوي منها مسطحات شاسعة تنتظم المدينة بساحاتها وأسواقها وشوارعها الجديدة وعماراتها الفخمة، وتتراوح درجة الحرارة فيها بين 22 و 30 إذا اشتد الصيف، وربما هبطت في شهور الشتاء إلى 3 تحت الصفر.
على أن للمدينة أقساماً تعلو وتنخفض لتساير مرتفعات الجبال ومنحدراتها، وفيها أرباض تبدو أنوارها لامعة في الأفق على رؤوس سامقة تتقارب وتتباعد لتذكرك بالجبال التي تتطامن تحت قدميك أو تتسامى على مرمى عينيك.
وينعشك في جوها نسمات يرفرف فيها ندى فواح، ويلذ لك في حدائقها منظر الحمضيات تتدلّى في أعذاقها في شكل جميل جذاب.
ما أحلى أياماً قضيتها بين أحضان القدس، وما أجملها أمسيات كانت زاخرة بألوان من الشجون لا أريد أن أسبق السياق إليها.
كانت دار قنصليتنا تتكئ إلى ربوة خضراء تطل على مدينة القدس. وكانت حديقتها الواسعة تتدرج في مربعات بعضها أعلى من بعض، وكان لصديقي وكيل القنصل محمد عبد القادر العلاقي شلة منتقاة فيها مفتي المدينة وقاضيها وبعض كبار التجار فيها، ولم يكن بينهم سعادة القنصل لتغيبه في إجازة فكنت أقضي أغلب أمسياتي بينهم نناقش كثيراً من مناحي الحياة وأحداثها.
لقد كان الأستاذ العلاقي موهوباً يجيد فنّ الحديث، ويعرف كيف يفرض حبه على كل مَن يعرفه ويوزع ابتسامته على كل مَن يجالسه، أمّا عنايته بكل سعودي دبت رجله في فلسطين فيستطيع أن يرويها عني كل مَن زار فلسطين من مواطنينا.
قيل لي تسلمت مفتاح غرفتي في الفندق الذي نزلت به في القدس أأنت سعودي؟ قلت: نعم. قال: المتحدث سيسأل عنك وكيل القنصل فنرجو إعطاءنا عنوانك في أي جهة تخرج إليها.
قلت: ولكنه لا يعرف أني هنا وسوف أزوره إذا استقر مقامي. فقالوا إنه دائم السؤال في الفنادق عن السعوديين وأسمائهم، دائم الزيارة لكل سعودي ينزل بنا.
وما تم الحديث حتى رنّ جرس التليفون، وبذلك علم سعادته بوجودي فألزمني بالبقاء ولم تمضِ إلاّ دقائق حتى كان يعانقني في حدة اللهفان.
ومضت أيام لم أندم فيها على شيء ندمي على قصور باعي في الشعر وعجزي عن الإشادة بسجاياه العالية في قصائد يسير بها الركبان ويتناقلها الندمان!! كما كانوا يقولون.
وعرفت في القدس شاباً اسمه زكريا، كان مثال الشباب الفلسطيني اعتزازاً وحماساً وحيوية ما إن عرف أني صحفي من مكة حتى انتدب نفسه متطوعاً ليضع يدي على مبلغ الغبن الذي لقيته بلاده من اتفاقية الهدنة التي فرضت على فلسطين، فحدت من نشاط شبابها وضمنت لليهود من وسائل الترضية ما لا يقره نظام في الأرض مهما بلغ جوره واشتط ظلمه.
كان يقتطع الكلمات من فؤاده وهو يحدثني عن أيام الجهاد المقدس الذي كان يتأبط فيها بندقيته، ويزحف في صفوف الألوف من شباب فلسطين ليلهبوها عليهم ناراً حامية، ويجلوهم عن مواقعهم قرية بعد أخرى ثم يضرب كفه بالأخرى، ويهيب بي في آهة لها مثل زفرات الجمر: "كنا نتمنى لو تركت الهدنة شباب فلسطين يصفي حسابه بيديه، ويجلّي الآثمين عن كل شبر اغتصبوه كنا في غنى عن مندوبي هيئة الأمم ومبعوثيهم.. أمّا العرب فحسبنا منهم أن يزودونا بالسلاح والمؤونة ويقفوا على كثب منا ليسجلوا خطواتنا نحو النصر".
وتستمر جذوة الحماس ونحن جلوس على أحد مرتفعات فلسطين فتتدافع الكلمات في حرارة تحس لها مثل فيح الأتون: "انظر.. أترى العدوة المنبسطة أمام ناظرك خلف هذا الشارع. إنها بيوتنا أترى هذا البيت الأصفر؟ أترى نافذته المفتوحة؟ إنها كانت مجلس عمّي يطل منها على حديقته الصغيرة.. أنظر.. أترى هذا الشيخ الذي يطل منها؟ إنه وريثنا المغتصب من أولاد صهيون.. ثق يا سيدي أن الأمر لا يكلّف الشباب مثلي أكثر من حملة واحدة تستعمل فيها بنادقنا الرشاشة فنجلّيهم عن سائر بيوتنا ولكنها اتفاقية الهدنة ونظامها الدولي الذي رغم أنوفنا".
"انظر.. أترى هذه الثياب المنشورة في (البلكونة) المقابلة التي تسامت عمود التليفون؟ -إنها بلكونتنا.. في هذا البيت عاش جدي ووالداي. وفي ظل هذه البوابة العالية التي تشاهدها كنت أرتع صغيراً مع أترابي في لعبة الشرطي والحرامية، وما كان يدور في خلدي أن التمثيل الصبياني سيصبح في أحد الأيام أحداثاً واقعية، وأن جماعة الحرامية سيظفرون في أحد الأيام باغتصاب ما ورثته من أبي وجدي".
"هذه القدس مدينتي ولكني اليوم لا أملك منها إلاّ الشطر الضعيف الذي ترى!! أمّا هذه المناطق التي تشاهدها تنبسط إلى أعالي التلال وتخوض إلى نهاية الوادي المعشوشب وتتسع باتساع السهول في أحضان الجبال.. كل هذه المناطق باتت لقمة سائغة في فم اليهود" وتتركنا نلتحف العراء.
"أتنشط يا صديقي: سأريك غداً بوابة مندلبوم التي تفصل مدينتي عن مدينتي".
"سأريك جامعة صهيون التي فرض بقاؤها بين بيوتنا وأبيح لقوات اليهود أن تمر بشوارعنا لتنقل إليها التموين تحت حراستنا".
"سأريك القرية التي شطرتها اتفاقية الهدنة وأهدت نصفها للمغتصبين".
"أريك الدسكرة التي فصلت مدرستها عنها لتدخل في قسم المحتلين".
"أريك الحي الذي بتر منه مسجده لأن المسجد كان من نصيب الظالمين".
"أريك المنطقة التي يمر فيها الخط الحديدي وسط المزارع في قسم العرب.. فلا يملك مزارعو العرب إلاّ أن يقفوا عن أعمالهم انتظاراً لمروره".
"سأريك الأبناء الذين يسكنون في حلة اليهود بعد أن تركوا آباءهم في منازل العرب".
"وأريك (العمدة) الذي يعينه العرب حاكماً في قريته.. ويطالبه اليهود بتنفيذ الإجراءات في ما يليهم من جيرانه".
"وأريك البيوت التي تقابل واجهاتها ما يملك العرب وتطل مؤخراتها على ما اغتصب المحتل".
"سأريك سطوح المنازل التي يتصل جيرانها دون أن يتكلموا لأنهم بين منطقتين مختلفتين".
"وأريك الشوارع التي يختلط فيها الرائح بالغادي دون أن يسلموا لأنهم بين حدين متعاديين".
"سأريك لتبكي إذا كنت ممّن يسح الدمع".
"وأريك لتعتبر إذا كنت ممّن تفيدك العبر".
"وأريك لتعرف العدل في القاموس الدولي إذا شاقك أن تعرف حقائقه ومعانيه".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :757  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 91 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.