شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بِسْبَاسَهْ..
الرفق بالحيوانات واجب إنساني كبير.. وجليل.. ولقد تطوع في يوم ما.. وعلى عهد العربات الكارو بعض ذوي الفضل والغيرة والشفقة عليها. فكانوا يومياً يتابعون ويلاحقون أصحابها حتى لا يقسوا على البغال أو الحمير ما لا تطيق.. أو بضربها زيادة عن اللزوم.
كما كان يتجمهر بعض الأهالي.. ويبدون سخطهم على مفتشي البلديات ومندوبيها ـ أيام زمان ـ حين يصطحبون الصياد الماهر ومعه بندقيته لقتل الكلاب التي تزعج السكان بنباحها.. أو التي يشك في سعارها خشية الإصابات بداء الكَلَب.. بفتح اللام.. حيث لم تكن الحقنات موجودة في المستشفى الوحيد ببلدة جدة.. ولا في الاجزخانة اليتيمة فيها..
وطبيعة الرفق بالحيوان لا تأتي بالاكتساب.. أو بالوعظ والإرشاد.. ولكنها في الشخص تنبع من الإحساس وحده.. الإحساس الرقيق بطبيعته.. ولكن قد يتغالى عشاق الحيوانات في العطف عليها.. وفي ترتبيتها لدى اقتنائها إلى الحد الذي يصل بهم إلى الوسواس.. أو الجنون الحاد.
ذلك هو بالضبط.. بالضبط ما حدث للمرحومة الآنسة أسما الجداوية.. والشهيرة باسم ((بسباسة)).. فقد نشأت هذه الفتاة الشعبية وهوايتها العطف على البساس وجمعها وتربيتها.. وذلك قبل أن تنشأ الكثيرات من النساء الإفرنجيات اللواتي يشاركنها هوايتها في تربية القطط سواء في أوروبا أو في الأمريكتين الشمالية والجنوبية.
لقد نشأت الآنسة ((بسباسة)) أو أسما الجداوية.. وهوايتها جمع البسس بكل أنواعها.. ما عدا النوع السيامي حيث لم تكن هناك معاملة تجارية بين سوقي جدة وبنكوك.. لاستيرادنا الرز السيامي.. اكتفاء باستيرادنا الأرزاز بأنواعها من المزه للهوره.. للبَكَّا.. من الهند قبل انقسامها إلى قمسين ـ الهند ـ وباكستان.. ثم إلى ثلاثة أقسام بعد انفصال بنقلاديش!!
وشغلت بساس الآنسة بسباسه معظم أنحاء البيت المكون من مجلس وصُفَّه ومخلوان.. ودقيسي.. وديوان كبير.. ودهليز طويل وإن كان غير مستقيم.. حتى إن والديها لم يجدا.. فيما يرويه الجيران.. الأمكنة الفارغة والمخصصة للنوم أو للأكل أو لوضع أدوات ((الجزة)) التي كانت أم بسباسة تحرص على ((نصبتها)) باعتبار أن الجزة ونصبتها بتوابعها كلها من بنت المنقل للسموار وحتى الملقاط مصدر زهو واعتزاز عند ربات البيوت في تلك الأيام..
.. ولقد أفرطت الآنسة أسما الجداوية والشهيرة باسم ((بسباسة)) في العناية بقططها وبالعطف عليها.. وبتربيتها تربية سليمة.. وتعليمها طرق النوم.. وآداب الأكل.. وقضاء الحاجة في أوقاتها.. وأصبح شغلها الشاغل حماية بسسها من أولاد الجيران.. ثم من تصرفات والديها اللذين كان همهما صرفها عن هذه الهواية البسسية.. حتى عمدا إلى الضرب والمطاردة لها ذاتها ولبسسها بالتبعية.
وكما قال لي جار العائلة العم الشيخ كرشوم ((قصرو.. ما أطول عليك.. المسألة زادت.. والمصيبة راحت وجات من تحت راص البسس.. لأن المسكينة حصل لها لطف في الأول.. وبعدين فصخت.. يعني اتجننت جنان زايد عن الحد..!! قول.. ما أطول عليك برضو.. آخرة المآخر أبو بسباسه كان عندو مقعد أرضي مستقل عن البيت.. فشالها.. وحبسها فيه.. وصك لك عليها الباب.. وصار يدي لها أكلها كل يوم من بره.. بره.. يعني كان يرمي لها هو من أسياخ الروشان حقت المقعد اللي حبسها فيه)) انتهى كلام العم كرشوم.
ويروي أهل المحلة القدامى ـ إن الشهرة التي استفاضت حول بسباسه لم تكن لأحد من كبار البلدة ـ وهكذا تأتي الشهرة الواسعة العريضة أحياناً لمن لم يسع إليها.. كما أنها تأتي عن طرق عجيبة.. شاذة.. وبسيطة.. ولا تخطر على بال.. ولهذا كان لا يخلو وقت من أوقات النهار.. وأطراف الليالي.. إلا وتجد نفراً من الصبيان.. أو الشباب.. أو الرجال أحياناً يتجمعون أمام المقعد ليروا.. وليسمعوا صوت بسباسه.. وعاداتها.. وأصنافها وطبعائها وعما تنعم به من حياة حافلة بالغرائب وبالنوادر التي لاقتها وتلاقيها منها.. فالبسة ((نَجَفَهْ)) مثلاً.. لا يمكن أن تهدأ إلا إذا قامت بسباسة نفسها بتمشيط شعرها.. وخصوصاً شعر الذيل!!
كما أن البسه ((قَمَرِيَّه)) لا يمكن أن تشرب الماء.. وإن تأكل المقرر لها من الفضلات البيتية إلا على طبلة خشبية.. وطبقاً لأصول آداب الطعام المتبعة في تلك الأيام الدسمة.. وهكذا مما لا يتسع المقام لتعداده.
تلكم هي الآنسة أَسْمَا المظلومية الجداوية التي سبقت في جده أترابها من هواة القطط في لندن وباريس وروما ونيويورك وسواها من عواصم العالم الكبرى.. والشهيرة ببسباسه.
أما سبب هذه التسمية فلا يحتاج.. كالعادة.. إلى تعليل.. أو تفسير.. أو إيضاح.. فإنها آتية من لفظة ((بسه)) أي ((قطة)) بالاصطلاح العامي.. وإن كانت القواميس تقول أن: بس وبس بكسر الباء الأولى وضم الثانية مكررة.. دعاء أو زجر للغنم!!
ونعود لجار العائلة العم كرشوم الذي يقول: وفليله من الليالي ما أصحى لك إلا على الصوت اللي قومني أنا وغيري من سابع نومه.. قصرو.. ما أطول عليك.. إيش في؟ ايش حصل؟ قالوا: تعيش راصكم. بسباسة ماتت!! ماتت؟؟ ايوه!! وهادا كان يا محفوظ البقا والسلامة سنة؟ سنة؟ قول معايا يشيخ.. سنة الخديو!! انتهى كلام العم كرشوم!!
ويروي لنا صادق أفندي القاطن في الزقاق اللي يوديك على أيدك اليمين على بيت باعشن القديم.. قبل ما توصل على بيت قابل القديم برضو.. يروي أنه تطوع من سكات لسكات باعتباره محباً على السكِّيتي.. وبصفته شاعراً شعبياً برثاء الآنسة بسباسه مع احتفاظه بورقة الرثاء في علبة تنك رفيعة من اللي كان أهل أول يحفظوا فيها حجج البيوت.. ووثائق العُزَل الصغيرة وقد قال لا فض فوه.. ولا أطال لوعته:
آذَنَتْنَا ببينها أسماء
رُبَّ ثاو.. يَمَلُّ منه الثواءُ
قل لبسباسة لقد كان فخرا
لم تنله باريس.. أو روماءُ
لا.. ولا لندن.. أو نيويورك
.. وحتى .. في جنبنا سيناءُ
أنتِ سَوِّيت للبساس مقاما
في حمى جدة.. فَحَقَّ الثناءُ
يا أهالي المضلوم تيهوا.. فهذي
حارة الشام.. قربكم.. خرساءُ
يا أخا العقل.. لا تهن أي بسَّا
أي عُرِّي أيضاً.. ففيه العزاءُ
بس أوعى تزيد عطفاً.. فحتماً
سوقَ يأتيك بالجنون الشقاءُ
إيه ((بسباسة)) كدا برضو تمضي وتسيبي البساس؟؟ هذا الجفاءُ؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1847  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 40 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.