شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خرافة فوران بئر زمزم
أما آن لها أن تزول؟؟
الأمور إذا خرجت عن دائرتها المحدودة تترك في النفس أثراً سيئاً، وبالأخص إذا صُبغت بصبغة دينية أو أُتخذ لها عن طريق الدين سبيلاً، حالة كون الدين بريء منها لا ينكر مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر فضل ماء زمزم، ولا يجحد أحد ما لماء زمزم من البركة، وأنها طعام طعم وشفاء سقم، ولكن ليس معنى هذا أن نختلق الأكاذيب على حساب تلك الأفضلية وهذه البركة، ليس معنى هذا أن نخلط الدين بالخرافة ونمزجها لمصالح نفعية، إن هذا لا يتفق وكرامة الدين في قليل أو كثير، ثم هو استسلام للأوهام والخرافات لا يتفق والحياة الصحيحة.
شاع لدى العامة والخاصة إلا ما رحم ربك أن عين زمزم تفور ليلة النصف من شعبان، وأن الشرب منها في تلك الليلة سنة مؤكدة، وذهب بعضهم إلى أنه فرض واجب، ولهذا تزدحم الردهة الواقعة أمام البئر في عصر يوم تلك الليلة، بالخلائق، ويقفل باب البئر، ويفتح باب الحيل والخداع والخرافات، وقبيل الغروب يُشاع أن ماء البئر قد فاض وأن ماءها طغى، فيشتد الزحام ويباع زمزم بأغلا ثمن، ويغش البعض فيأتي بماء فيه شيء من ملوحة زمزم فيبيعه على الناس باعتبار أنه من الماء الذي فاض من البئر، وكذا تمثل هذه الرواية سنوياً لمصالح خاصة على حساب الدين، والدين منها براء.
ولقد بحثت في كثير من المصادر الدينية عليَّ أجد لهذا الحادث ما يؤيده فلم أعثر على شيء يمكمن الاعتماد عليه أو يكون مبرراً لما يمثل أمام أعيننا وكل ما تحصلت عليه أقوال لا يستند عليه أو يكون مبرراً لما يمثل أمام أعيننا وكل ما تحصلت عليه أقوال لا يستند عليها وهي تؤكد أن الموضوع اختلاق لمصالح نفعية وإني أنقل ذلك ليطلع عليه القراء.
جاء في كتاب نشر الأنفاس في فضائل زمزم وسقاية العباس ما نصه: ((أن ماءه ((أي زمزم)) يحلو في ليلتين ويطيب طعمه، أحدهما ليلة العاشر من المحرم، والثانية ليلة النصف من شعبان المكرم حلاء ظاهراً لمن ألهمه الله تعالى ذلك وأذاقه حلاوته والله أعلم أن عين السلوان الكاذنة بالقدس الشريف تتصل بها في تلك الليلتين فيكثر ماء زمزم ويحلو وهذا دأبه في كل سنة وعام)).
وفي التاج للحضراوي ما يلي: ((جاء في شرح الشيخ عبد الرؤوف لمنسك شيخه: ويحلو ((أي ماء زمزم))، ليلة النصف من شعبان ولا يدركه إلا العارفون)).
وعنه: ((في تفسير الضياء للحنفي ويكثر ((أي ماء زمزم)) ليلة النصف من شعبان كل سنة بحيث أن البئر يفيض بالماء على ما قبل ولكن لا يشاهده إلا الأولياء)).
هذه هي الروايات التي عثرت عليها بعد بحث دقيق قمت به، فأما رواية صاحب نشر الأنفاس فإنها رواية لا تستند على أساس يوثق به، وكونه يقول: إن ماءها يحلو.. إلخ لا يكون حجة لأن مثل هذه الروايات يجب أن تنقل بسند صحيح يعتمده المتفقهون، وأما قوله إن عين السلوان.. إلخ فهو خرافة لا أساس لها، ولماذا لا تتصل عين السلوان بزمزم إلا في تلك الليلة؟ ولا أدري كيف يكون هذا الاتصال وعيون زمزم معروفة وقد أوردها الثقاة في كتبهم، ولم يقل أحدهم إن عين السلوان، إحدى عيون زمزم؟ ثم لو افترضنا وقوع مثل هذا الاتصال فإنه يجب أن تكون عين السلوان هي التي تتبرك بماء زمزم لا ماء زمزم يتبرك بعين السلوان، لأنه قد ثبت أن ماء زمزم أفضل المياه على الإطلاق، وأن ماء زمزم لما شرب له، وكل ادعاء غير هذا يكون طعناً في أفضلية ماء زمزم.
إن الحقيقة هي أن الموضوع من أساسه مختلق لمصالح مادية في أول أمره، ومن أجل ترويجه خُلقت له هذه الخرافات، وبتوالي الأيام أصبحت عقيدة يؤمن بها الكثيرون، أما رواية شرح الشيخ عبد الرؤوف التي نقلها الحضراوي فهي رواية لا يقام لها وزن لأن الشيخ عبد الرؤوف لم يذكر مستنده في تعليقه ثم إذا فرضنا صحتها ـ وهي غير صحيحة ـ فهي لا تثبت الخرافة بفوران بئر زمزم، إذ هي تقول بأن الحلا الذي يطرأ على زمزم لا يدركه إلا العارفون، بلا شك فإن ما يدركه العارفون من الأسرار لا يدركه غيرهم، وحلاوة ماء زمزم عند العارفين لا تتوقف على ليلة النصف من شعبان إذ المؤمن الصحيح يشعر بلذة زمزم في كل وقت، وأما رواية تفسير الضياء فهي مبنية على ما قيل، ورواية ما قيل لا يعتمد عليها في أضعف المواقف فضلاً عن مثل هذا الموقف. وإذا كان لا يشاهد ذلك إلا الأولياء فلماذا الازدحام، وكلنا نعرف أننا نبعد عن الولاية بقدر ما تبعد الولاية عن أمثالنا؟ ثم الموضوع موضوع مشاهدة فما بال زمزم يقفل ولا يدخله إلا الذين تشملهم المصلحة. إن المسألة خرافة من أساسها ومن الضرر بقاء أمثال هذه الخرافات لتؤثر في العقول.
وبالرغم من اعتقادي ببطلان هذه الخرافة من أساسها فقد أردت الوقوف على حقيقة الأمر فشهدت في العام الفائت الأدوار التي تمثل هذه الرواية على مسارحها وإلى القارىء ما رأيته:
لقد رأيت السقاة يشد كل منهم طستاً كبيراً على فوهة الفتحة التي يسقى عليها والموجد في الشباك الذي فوق فوهة بئر زمزم ويجعلون طرف الطست خارجاً عن شباك البئر بحيث إذا امتلأ الطست وفاض ماؤه سقط على الأرض. وهكذا يتناوبون العمل ولقد بقيت ساعتين وأنا أشاهد هذه العملية الشيطانية تمثل في بلد الله بجوار بيت الله.
وإنا نهيب بالأمة من أن تسترسل في الخرافات إلى هذا الحد ونطلب من الذين وكّل إليهم النظر في مثل هذه الأمور بوضع حد لمثل هذه الخرافات. فإن ليلة النصف من شعبان ليلة مكرمة مقدسة يقام ليلها ويصام نهارها. فيجب أن لا يدلس فيها المدلسون، وبالأخص وقد صبغت هذه المسألة بصبغة دينية، وبصفة أمتنا أمة دينية وبلادنا بلاد الدين يجب أن يطهر الدين من مثل هذه الخرافات.
قد يقول البعض إن في هذا قطع رزق نفر من الناس، ولكن هذا القطع من صالح المجموع وفي صالح سلامة عقول الأمة من أن تؤثر فيها الخرافات تأثيراً سيئاً. وكنا نود أن نورد بهذه المناسبة تاريخ زمزم وما طرأ عليها وما حدث فيها من حوادث إلا أن الوقت لم يتسع لذلك الآن وعسى أن يتسع لذلك لنؤدي واجباً نحو آثارنا التاريخية لأن زمزم من الآثار التي يجب أن يعتني بها ويُكتب عنه، فعسى أن نوفق.
مكة المكرمة: (( الغربال ))
جريدة (( أم القرى )) العدد 570
11 شعبان 1354هـ، 8 نوفمبر سنة 1935م.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1447  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.