شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ عبد الله بن الشيخ محمود الطنطاوي))
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على مصطفاه، وعلى كل من أحبّه واهتدى بهداه.
اللَّهم أنت ربي
لا إله إلا أنت
خلقتني وأنا عبدك
وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت
أعوذ بك من شرّ ما صنعت
أبوء لك بنعمتك عليّ
وأبوء بذنبي
فاغفر لي
فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
سبحانك
إني كنت من الظالمين
وإن لم تغفر لي وترحمني وتتب عليّ يا ربي
أكن من الخاسرين
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به وله الظلمات
وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة
أن يحلّ بي غضبك
أو ينزل علي سخطك
لك العتبى حتى ترضى
ولا حول ولا قوة إلا بك
أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة
يا أرحم الراحمين
* * *
معالي الشيخ الجليل، الأستاذ الكبير: السيد عبد المقصود خوجه.
راعي هذه الاثنينية البديعة في بابها، تأسيساً، وتطويراً..
النبيلة في غاياتها وأهدافها القريبة منها والبعيدة..
منذ انطلقت في جبر خواطر من لا يجدون جابراً لخواطرهم، بعد أن لحقتهم حرفة الأدب، أو لحقوا بها، في عصر ثقيل الوطآت على الروح الإنساني، بمادياته الطاغية، بألوانها القاتمة.. جاءت هذه الاثنينية وأخواتها، إن كان لها أخوات وأخوة، لتقول كلمة حنان في آذان طال ما تطلعت إليها، إلى سماعها، مخافتاً بها، إن لم يمكن الجهر..
معالي الشيخ الجليل..
أيها السادة الأحباء
أيتها السيدات الفضليات
حدَّثني شيخ الفنانين في حلب الشهباء، الأستاذ بكري كردي قال:
حدَّثني أمير البزق، محمد عبد الكريم قال:
زرت الفنان الكبير، الشيخ سيد درويش في مصر، قبيل وفاته، في منزل شديد التواضع، وفي المساء قال لي سيد درويش:
ـ هيا بنا نخرج، لنسهر حيث يحلو السهر.
ذهبنا إلى دار الأوبرا، وإذا هي تقدم أوبريت من ألحان سيد درويش.
فقال لي سيد درويش: دعنا من سيد درويش، ولننتقل إلى الأزبكية.
وإذا الأزبكية تقدِّم عملاً فنياً من ألحان سيد درويش، فقال لي سيد درويش:
دعنا من سيد درويش، ولنذهب إلى مسرح آخر، فخرجنا، وتنقَّلنا بين عدة مسارح، وكانت كلها تقدِّم أعمالها الفنية بألحان سيد درويش.
قال الراوي محمد عبد الكريم:
ـ وقف سيد درويش، ونظر إليّ في أسى وقال:
ـ أرأيت؟ مصر كلها تسهر على ألحان سيد درويش، وسيد درويش لا يجد في جيبه ما يكرمك به أو يعشِّيك.
ووضع سيد كلتا يديه في جيبي بنطاله، وأخرج بطانتيهما، وإذا هما فارغتان.
أيها السادة والسيدات..
قد تكون هذه البداية محزنة، ونحن نريد إدخال السرور والبهجة إلى نفوسكم، فقد تركنا أحزاننا خارج سور هذه الدارة العامرة بصاحبها وأهلها الكرام، المعمورة بروّادها الأفاضل، وأنتم منهم، ولكني أردت أن أقول:
أما كان الأجدر بأهل مصر الذين أقاموا سرادقات العزاء في أربعين سيد درويش، في القاهرة والإسكندرية وسواهما، وأحيوا ذكرى رحيله مرات ومرات، ونصبوا له التماثيل، وأطلقوا اسمه على عدد من الشوارع، والمنتديات، والمسارح..
أقول؛ أما كان الأجدى على ذلك الفنان الكبير أن ينفق عليه في حياته، ليحيا حياة كريمة، من أن تنفق تلك الأموال في غير طائل بعد وفاته؟
هذه الاثنينية لاحظت هذا المعنى، عندما شرعت تكرّم من هو أهل للتكريم، ولست منهم، في حياتهم.. جهر راعيها بكلمات حبيبة تغسل أحزان تلك النفوس التي لا يتطلع ذووها إلا إلى تلك الكلمات، حتى لو كانت مهموسة..
حضرت مرة محاضرة قيّمة لأستاذ مفكر مؤرخ أديب، وبعد الانتهاء من محاضرته، امتدت الأيدي تطلب الكلام لألسنة ماضية حداد، فنهضت واقفاً، وصحت بهم من دون استئذان:
ـ يا ناس.. يا هو.. ماذا دهاكم؟ ألا يستحق هذا الأستاذ الكبير كلمة شكر، كلمة فيها حنية؟ أم أن هذه الألسنة خلقت لغير هذا؟
بعد أن خرجنا من المحاضرة، تنفّس الأستاذ المحاضر الصعداء، كما يقولون، وقال:
ـ والله ما كنت أنتظر أكثر من كلمة فيها حنّية، كما تقول.
أيها السادة.. أيتها السيدات..
يا ليت أثرياء العرب، يثرون العلم والأدب، ويشجعون العلماء والشعراء والأدباء والمفكرين والفنانين الأصلاء، بمثل هذه الاثنينية الرائدة، التي تجاوزت (يوبيلها) الفضيّ، ونرجو لراعيها أن يشهد (يوبيلها) الذهبيّ إن شاء الله، ممتّعاً بالصحة والعافية والصالحات من الأعمال.
معالي الشيخ الجليل
أيها السادة الأفاضل
أيتها السيدات الفضليات
إني لأجلس أمامكم، وفي المكان الذي جلس فيه وحاضر عدد كبير من أفاضل العلماء والأدباء والشعراء والمفكرين، ومنهم عدد من أساتذتي:
الشيخ الجليل فقيه عصره: مصطفى الزرقا
والمحدّث الجليل الشيخ عبد الفتاح أبو غدّه
والشاعر الكبير حبيب الملايين: عمر بهاء الدين الأميري
والسياسي البارع الدكتور معروف الدواليبي
والعالم المثير للجدل، الكريم ابن الكرام: زهير الشاويش
وغيرهم وغيرهم من العمالقة من مختلف أقطار العروبة والإسلام.. جلسوا في هذا المجلس، وأسمعوكم ما لذّ وطاب وأجدى وأغنى..
إني لأستميحهم من مجلسي هذا الذي ما كان لي أن أجلسه، لولا الامتثال الذي هو خير ألوان الأدب، لمن لا يردّ له طلب، ما دام في مرضاة الله، ومن أجل التخفيف من متاعب الحياة على عباد الله، في هذه الظروف الصعبة التي نحياها، بما فيها من آلام مشوبة بآمال لا تقلّ عن تلك الآلام..
أيها الأحباب..
حديث النفس ثقيل.. ثقيل على المتحدث، وثقيل على السامع.. ولكن.. ما فائدة هذا الكلام يا عبد الله، ما دمتَ مقبلاً عليه غير مدبر، وطوال آلاف الثواني؟
هذا صحيح، ولكني أرجو أن أكون خفيف الظل فيما سأروي من بعض ذكرياتي، مما أظنه من أدب الوقت لهذه الأمسيّة اللطيفة، في هذا الجو الناعش، وأمام أصحاب هذه الوجوه الصِّباح، والقلوب الوضاء..
يعني.. سوف يكثر على هذا اللسان، الذي أرجو ألا يكبّني بحصائده على وجهي يوم لا ينفع مال ولا بنون..
أقول: سوف يلوك هذا اللسان ضمائر المتكلم البارزة، المنفصلة منها والمتصلة،والمرفوعة منها والمنصوبة والمجرورة، ولن يغفل الضمائر المستترة خلف كواليس تواضع مدَّعى.. ليس في اليد حيلة، ولولا ذلك، ما كانت سيرة وما كانت ذكريات..
ولكنني أعدكم، ووعد الحرّ دين، أنني إذا رأيت منكم انصرافاً عما أقول، فسوف أبتلع الكثير من الكلمات، وأطوي سجل بعض الحكايات، وأبقي على القليل الذي لا يؤذي بإطناب، ولا يخل في إيجاز.
الجذور:
ولدت في بلدة إعزاز، وهي مدينة صغيرة جميلة، هواؤها بليل، وجوّها نقيّ، ومياهها عذبة، وأرضها طيبة، تحفها بساتين الكرز، والتفاح، والخوخ، وكروم التين والعنب والفستق الحلبي، وعشرات آلاف أشجار الزيتون والجوز واللوز والسفرجل، وفي وسطها تل أثري يدعوه أهلها بالقلعة، وفيه تعرّض البطل صلاح الدين للاغتيال على أيدي الحشاشين.
وتقع شمالي حلب على بعد أربعين كيلاً، بالقرب من الحدود التركية ترتفع عن سطح البحر 400م، تشتهر بأجبانها، ومعاصر الزيتون، الحجرية والحديثة، وزيتها من أطيب الزيوت في العالم.. ولكن.. مالي ولهذا؟ إلا إذا كنت أريد القول:
إنني عشت طفولتي في جواء الجمال.
كان أبي تاجراً متواضعاً، وكان شيخاً معمماً، يحرص على تربيتنا تربية إسلامية، فكان يوقظنا لصلاة الفجر، حتى في أربعينيات الشتاء القارس، ويأخذنا إلى المسجد القريب من بيتنا، وأحياناً ـ في غير أيام الأمطار والثلوج والبرد الشديد، كان يصطحبنا إلى الجامع العمري الكبير في وسط المدينة، وكان الشجار يحتدم بينه وبين أمّنا الرؤوم الحنون، كانت تخاف علينا من البرد والمرض، وكان يحرص على أن نكون أشدّاء في مواجهة الأعاصير، رجالاً وإن كنا دون العاشرة من العمر، يريد أن تكون قلوبنا معلّقة في المساجد، وقد كان له بعض ما أراد من أكثر أولاده، بنين وبنات.
كان يتوسّم فيّ الخير، ربما لأنني أخذت اسم أخي الذي توفي وهو في الثالثة، وكان يحبّه حباً جماً، ويصطحبه معه إلى السوق، والمسجد، وعندما توفي، وجئت بعد أيام من وفاته، أسماني عبد الله، وحللت محلّه في دائرة النفوس، وفي قلبه معاً.
كان يرسلني إلى الكتّاب لحفظ القرآن وتعلّمه، في أيام العطل المدرسية، وعندما صرت إلى الصف الثالث الابتدائي، وضعني في مدرسة صيفية، أتلقى فيها دروساً في النحو، والتجويد، والإنشاء، وحفظ ما يتيسر من القرآن الكريم، ومن الحديث الشريف، وكان شيخ المدرسة الصيفية عالماً جيداً، وكان إمام الجامع العمري الكبير وخطيبه، وكان يدرس فيه، وأثناء الدرس يطلب مني أن أنهض لأستشهد بآية أو بحديث أو بشيء من الشعر على صحة ما يقول، حتى صار الناس يدعونني بالشيخ عبود.
وقد أفدت من شيخ هذه المدرسة، واسمه الشيخ مصطفى ياسرجي، ما حبّبني بالعلم الشرعي وبالأدب معاً.
وعندما نلت الشهادة الابتدائية ـ السرتفيكا ـ وجّهني أبي إلى الكلية الشرعية ـ الخسروية ـ بحلب، ولكن.. شاء القدر أن أذهب مع صديق لي إلى دمشق، وأتقدم إلى مسابقة كان يجريها معهد العلوم الشرعية التابع للجمعية الغراء، وأن أكون الأول بين المتسابقين، وأن أمضي سنوات دراستي الإعدادية والثانوية في هذا المعهد الكريم، وأن أتعلم وأتربّى التربية العربية الإسلامية على أيدي جلة من علماء دمشق الأبرار الأطهار.. كان مديرنا الشيخ أحمد الدقر، ابن العلاّمة الواعظ المؤثر الشيخ علي الدقر، صاحب أكبر نهضة علمية في بلاد الشام. وقد أفدت منه النظام والحزم.
وأفدت من الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، التلاوة الصحيحة لآي الله، ومخارج الحروف.
وأفدت من الشيخ أحمد المنصور المقداد، الكثير من الفقه الشافعي، فقد كان الشافعي الصغير.
وأفدت من العلاَّمة الشيخ نايف عباس، حبّ المطالعة، والجدّ والاجتهاد في طلب العلم.
وأفدت من الشيخ المجاهد عبد الكريم الرفاعي، كلّ خلق كريم يليق بالشاب المسلم.
وأفدت من الشيخ خالد الجباوي الكثير من علم النحو، وهذا الشيخ كان آية في علم النحو، كما وصفه الشيخ علي الطنطاوي الذي استمع إليه ساعة، وخرج بهذا التوصيف.
وأفدت من المفسّر المحدّث الشيخ عبد الرحمن الطيبي الزعبي شيئاً من علوم التفسير والحديث ومصطلحه.
وأفدت من الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق فن الخطابة، فقد كان خطيباً مفوهاً، وكان يدرسنا فن الخطابة.
وأفدت من الأستاذ الدكتور محمد خير عرقسوسي شيئاً ضحلاً من حب الفلسفة وعلم النفس.
وأفدت من الأستاذ الدكتور الشيخ محمد أديب الصالح، ـ وهو آخر من بقي على قيد الحياة من مشايخي رحمهم الله، ومد الله في عمره، وآتاه ما يؤتي العلماء الصالحين من العمل الصالح، والعلم الذي ينتفع به ـ أفدت منه علماً، ودعوة، وسلوكاً، وهو ممن حببني بالأدب.
وأفدت من العالم اللغوي النحوي الأديب الشيخ عبد الغني الدقر، حب اللغة والأدب، وحب الدعابة في غير تبذُّل أو شطط.
وتعلمت من مشايخي هؤلاء جميعاً أن ما يميز المسلم، استقامته، ووعيه، ونزاهته، وزهده، وتواضعه في غير اتّضاع.
كانوا علماء أجلاء، ما عرفوا في دنياهم غير العبادة والعلم وإرشاد الناس إلى الطريق المستقيم.. رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة.
ملامح وإضاءات:
من الذين حببوني بالأدب، والدي الشيخ محمود رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان يأمر أخي الذي يكبرني ببضع سنين، أن يقرأ لنا، في ليالي الشتاء الطويلة، شيئاً من سيرة الملك الظاهر بيبرس، وكان يجتمع في بيتنا بعض أصدقاء الوالد، فيتناقشون فيما يقرأ أخي في تلك السهرة، وكنت أشعر بسعادة غامرة، وكانت أمي ترسل في طلبي لأنام مبكراً، فأتمنَّع، وأنا أنظر إلى أبي، نظرات راجيات، ولكنه كان يشير إليّ، أسمع كلام أمك، واذهب إلى سريرك، فأذهب، ولكني كنت أقرأ ما فاتني سماعه في اليوم التالي، وهكذا سمعت وقرأت هذه السيرة الشعبية في المرحلة الابتدائية.
وعندما ذهبت إلى دمشق، ازداد تعلّقي بالقراءة، وكنت أشتري ما أستطيع من سلسلة (إقرأ) التي تصدرها دار المعارف بمصر، وسلسلة الكتاب الذهبي.. قرأت توفيق الحكيم، وعلي أحمد باكثير، وعبد الحميد السحار، وأمين يوسف غراب، وبعض أعمال طه حسين، وسيد قطب، وسواهم، في المرحلتين: الإعدادية والثانوية.. وكنت أشتري مجلة الرسالة للزيات، ومجلة المسلمون لسعيد رمضان، وكنت أكتب في المجلات السورية الأسبوعية وأنا تلميذ في الصف الثالث الإعدادي، ثم تجرأت فكتبت مقالاً بعنوان (النفاق الاجتماعي) وأرسلته إلى مجلة التمدن الإسلامي، وكانت مجلة راقية، يرأس تحريرها الأستاذ الأديب الشاعر الوزير لاحقاً: أحمد مظهر العظمة، رحمه الله رحمة واسعة.
كنا جلوساً ننتظر مدرس مادة التعبير الشيخ فلاناً، رحمه الله، وعندما دخل الشيخ صحت في الطلاب: قيام.. فقام الجميع له.
دخل الشيخ متجهم الوجه، وكان يحدّ النظر إليّ، وكان قد وضع أصبعه في وسط مجلة التمدن الإسلامي، وبعد أن أمرنا بالجلوس، وجلسنا، أمرني بالخروج من الصف. سألته: لماذا؟ فقد كنت محبوباً لدى أساتذتي جميعاً، وكنت الأول على صفي دائماً، وكنت عريف الصف، ولم أذنب حتى يخرجني، فقال لي آمراً:
ـ اخرج يا غشاش.
فسأله زميلي الذي يجلس بجانبي، وكان كفيفاً:
ـ وكيف عرفت أنه غشاش يا أستاذ؟
فقال له الشيخ وهو يفتح المجلة عند الموضع الذي كان يضع أصبعه فيه:
ـ انظر يا أعمى البصر والبصيرة.. لقد كذب على المجلة، وزعم لها أنه أستاذ، فكتب مقاله السخيف هذا (النفاق الاجتماعي) بقلم الأستاذ عبد الله محمود الطنطاوي..
عندما سمعت هذا الكلام، مددت يدي إلى المجلة، وخطفتها من يد الأستاذ، وخرجت من الصف، والأستاذ ذاهل عما أفعل.
وطلب الشيخ معاقبتي، فعاقبني المدير بحرماني من الطعام أسبوعاً كاملاً.
وفي المساء، طلبت الإذن من الناظر الليلي من أجل العشاء، فأذن لي.
معهدنا في شارع النصر ـ لمن يعرف منكم دمشق ـ ملحق بجامع تنكز، ومجلة التمدن الإسلامي في باب الجابية.. يعني.. كانت قريبة من المعهد.
دخلت على رئيس التحرير الأستاذ الرائع أحمد مظهر العظمة، وسلَّمت عليه، فردَّ السلام، وبقي مكباً على أوراق بين يديه يقرؤها.
قلت له: عفواً أستاذ.. أنا مستعجل.
رفع رأسه، ونزع نظارته عن عينيه. ووضع طربوشه الأحمر على رأسه، وابتسم وقال:
ـ تفضل. ماذا تريد؟
قلت له: عندما أرسلت إليكم مقالي عن النفاق الاجتماعي، هل كتبت لكم: بقلم الأستاذ عبد الله.
سألني: من أنت؟
أجبت: أنا عبد الله محمود الطنطاوي.
سأل في دهشة: أنت كاتب المقال؟
ـ نعم..
نهض الأستاذ، واقترب مني، وسلَّم علي من جديد وهو يسأل:
ـ في أي صف أنت؟
ـ في الصف العاشر..
وحكيت له ما كان من أمر الشيخ معي..
ومن هنا بدأت صلتي بهذا الأستاذ الكبير الذي حل لي مشكلتي مع المعهد، وأصر أن يكتب أمام اسمي كلمة أستاذ، لكل قصة أو مقال كنت أرسله إليه.
ولهذا الأستاذ الرائع أفضال علي، لا أنساها ما حييت، فقد أخذ بيدي، وشجعني، وأنار أمامي السبيل، ولكن.. كان له موقف من القصة جعلني أتراجع خطوات في كتابتها، فقد كان يلح عليّ ألا أكتب إلا القصة التاريخية، أو الواقعية الحقيقية، وابتعد عن المتخيلة، لأنها مدعاة إلى الكذب، بل هي الكذب نفسه.
ذكرياتي مع هذا الإنسان العظيم لا تنتهي، ولديّ مشروع كتاب عنه إن شاء الله.
وقد شجعني ما ألقاه من قبول لديه، إلى كتابة رسالة إلى الأديب الكبير علي الطنطاوي الذي كان يشرف على باب البيان في مجلة المسلمون، وكانت بعنوان: من الطنطاوي الصغير إلى الطنطاوي الكبير، قلت له فيها:
((محالاً نحاول والله، إذ نريد أن نتصل بأستاذنا الأديب الكبير علي الطنطاوي، وعبثاً نفعل إذ نغالط الحقيقة فنقول: سننهل ونعبّ من ينبوعه الثر القراح.. لأنه أضن من أن يعير معتفي أدبه التفاتة.. ويحق له أن يضن، فمن هم هؤلاء القرّاء الذين (يأخذون المجلة ليمروا عليها نظرة مسرعة، وهم راكبون في الترام، أو منتظرون الطعام، أو متهيئون للمنام، فلا يحاولون أن يستمتعوا بها أو يستفيدوا منها، بل يحاولون انتقاصها وتجريح صاحبها) حتى يرنو إليهم ولو من وراء سجف صفيق؟! أليس كذلك يا أستاذي القدير؟
بالأمس طلعت علينا (المسلمون) بكلام طويل عريض يعتذر فيه فضيلة الأستاذ لأخيه المدرس (حسني)، ولكنه اعتذار أقبح من ذنب ـ كما يقولون ـ كيف لا؟ وإني ألمح خلال هذا الاعتذار كسلاً يشرئب عنقه، ويتطاول على أصابع رجليه.. فإن كانت مجلة (المسلمون) لا تشبع رغباته، ولا تفسح له من صدرها، فليكتب فيها ما تشتهيه، وليعر مجلة (الشهاب) وغيرها من المجلات الأدبية التفاتة خاطفة. وأظن أن هذا العمل ليس رجساً من عمل الشيطان يتأثم من فعله أستاذنا الكبير.. ثم ألا يرى معي أستاذي أن شبابنا اليوم في مسيس الحاجة إلى كتب أدبية حقاً تنمي عقولهم، وتوسع مداركهم، في عصر سادت سوقه كتب خليعة داعرة، ليس لها من الأدب إلا قشوره المزرية، ينبو عنها الذوق السليم، ويمجها من له أدنى مسكة من أدب أو أخلاق أو دين!!..
ظاهرة غريبة والله هذه التي تطغى في سوق الأدب اليوم ـ وإن كان الأدب منها براء ـ وظاهرة أغرب، هي هذا الكساد والخمول في سوق الأدب ـ الحق ـ الذي وأده ذووه ولما يستوِ على سوقه..
ما كان ضرك ـ يا أستاذي ـ لو جمعت لنا تلك الكلمات المبثوثة في (الرسالة) و (المسلمون) وغيرهما؟ وما ضرك لو أعدت طبع (من البلاد العربية) و (من التاريخ الإسلامي) وغيرهما؟!
((حي على العمل. حي على العمل يا أستاذ!!)).
* * *
ونشرت في مجلة المسلمون، في العدد الثامن ـ كانون الأول 1995 فازددت ثقة بنفسي، فمجلتنا التمدن الإسلامي والمسلمون، لا يكتب فيهما إلا جهابذة الكتَّاب في الوطن العربي والعالم الإسلامي، فأرسلت مقالاً إلى المسلمون بعنوان: تنبيهات صرفية، ونشرته المسلمون، فخفت على نفسي من الغرور، والغرور هبة الله للنفوس الصغيرة ـ وتوقفت عن الكتابة في هاتين المجلتين الكبيرتين، واقتصرت في النشر على المجلات الأسبوعية، والصحف اليومية، وكانت بالعشرات، وهذا ما لم يرقَ لأستاذي العظمة، فقد رأى تراجعاً في أسلوبي الأدبي، ونصحني بقراءة الرافعي والعقاد وسيد قطب، ونهاني عن أدب المهجر فهو ضعيف، وعن الأسلوب الصحفي.
رابطة الوعي الإسلامي:
في شهر ذي القعدة عام 1375هـ أسسنا رابطة الوعي الإسلامي نحن الثلاثة: محمد منلا غزيل، ومحمود محمد كلزي، وعبد الله الطنطاوي كنا في الصف الأول الثانوي، وأسندوا أمانتها إليّ، وكانت ذات طابع أدبي، ولعلّها أول رابطة تدعو إلى الأدب الإسلامي في الوطن العربي، وقد انتسب إليها أدباء وشعراء كبار من عدد من البلدان العربية، ومنهم الأستاذ الجليل أحمد محمد جمال، رحمه الله تعالى، من السعودية، وأرسل إلي رسالة لطيفة يدعوني فيها إلى الحج، ومن أجل أن نتباحث في شؤون الرابطة، فاعتذرت بصغر سنّي، فأهلي لا يسمحون لي بالسفر، فأجابني الأستاذ جمال برسالة تفيض رقة و.. دهشة من أن أكون في السابعة عشرة، ولي هذا العقل وهذا الأسلوب، وصار يرسل إلي بعض الصحف والمجلات السعودية، التي يكتب فيها، كمجلة الحج، وجريدة الرياض، وسواهما..
وكان لرابطة الوعي مناشطها المتميزة في الصحف والمجلات السورية، والأردنية، واللبنانية، وكانت لها صفحات مستدامة في عدد من الصحف والمجلات، كنت أشرف عليها، ودخلنا (معارك) أدبية مع بعض الكتّاب والكاتبات، وصارت أسماؤنا معروفة، وكذلك اسم الرابطة.
وبقيام الوحدة المصرية السورية توقّف نشاط الرابطة، وحلّت نفسها كما حلَّت الأحزاب والجماعات نفسها، نزولاً عند شرط جمال عبد الناصر.
ولنا ذكريات وذكريات في عملنا في هذه الرابطة.
مع الكبار:
مرحلة دراستي الإعدادية والثانوية في معهد العلوم الشرعية بدمشق، كانت مرحلة غنية، فقد كانت المكوّن الأهم في حياتي الأدبية، والثقافية، والسلوكية..
كانت صلتي المباشرة مع مشايخنا الأجلاء، قد أكسبتني جرأة أدبية، وحبّبت إليّ الاتصال بالكبار قدراً وسنًّا، وسوف أذكر لكم بعض ما ينثال على الخاطر والبال من أولئك الكبار.
1 ـ في عام 1952 كانت صلتي الأولى بالدكتور الشيخ مصطفى السباعي، رحمه الله، وكان لهذا الرجل العظيم آثار عميقة في نفسي، فقد كان يشجعني، ويرتاح لحماستي، وهو الذي أمرني بالانتساب إلى كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية، بدلاً من كلية الشريعة التي كان السباعي عميدها، وكانت رغبتي ورغبة والدي أن أكون من خريجيها، وكانت رغبة السباعي أن أكون أديباً كاتباً، ورغبته أمر لا أقوى على تجاوزه.
وكان السباعي، كالأستاذ العظمة، يشجعني على الكتابة في مجلته الرائعة: حضارة الإسلام التي كان كاتبوها من طبقة الطنطاوي الكبير.
واستمرت صلتي بهذا الأستاذ العظيم حتى وفاته وهو في أوج نضجه، في التاسعة والأربعين.
2 ـ في عام 1953 زار دمشق الثائر الإيراني نوّاب صفوي، رئيس جماعة فدائيان إسلام، وزار معهدنا، معهد العلوم الشرعية، وخطب فينا نحن الطلاب وفي أساتذتنا، وكان فصيح اللسان، وذا بيان عربي جميل، ولهجة خطابية مؤثرة، ثم صاح بأعلى صوته، وبلكنته الأعجمية: يا.. يا.. يا.. ثم التفت إليّ، وكنت بجانبه، وسألني: ابن الأسد؟ فأجبته: أشبال، فانطلق يصيح: يا أشبال الإسلام، واستُنقذ من حبسته.
وبعد الانتهاء من خطبته الحماسية الجريئة، شكرني، لأنني ـ كما قال ـ أنقذته.
ولي معه ذكريات، وكان شاباً في التاسعة والعشرين، وقد ذكر الشيخ علي الطنطاوي لقاء نواب برئيس الجمهورية الزعيم أديب الشيشكلي.. وكان لقاء حاداً أحرج الطنطاوي والمشايخ الذين كانوا معه.
3 ـ في آخر شعبان 1375هـ زار دمشق، بدعوة من الدكتور مصطفى السباعي، عميد كلية الشريعة، الأستاذ العالم الرباني الشيخ أبو الحسن الندوي، لإلقاء محاضرات على طلاب كلية الشريعة في الجامعة السورية (جامعة دمشق الآن) واستمر في إلقاء محاضراته في موضوع الإصلاح والتجديد والتعريف بكبار رجال الدعوة والعزيمة والجهاد في تاريخ الإسلام، إلى التاسع عشر من شوال 1375 الموافق للثلاثين من أيار/مارس 1956 وكان موعد المحاضرة في كل يوم أربعاء على مدرج الجامعة الكبير.. كان يحضرها طلاب وأساتذة وعلماء، من الجامعة ومن غير الجامعة، وكنت أحرص على حضورها، وكان مدرج الجامعة قريباً من المعهد الذي أدرس فيه.
واحتككت بالأستاذ الندوي، وقمت على خدمته في أيام الجمع، وقد أدهشني زهده، وتواضعه، وأدبه، واستمرت الصلة الكريمة به حتى وفاته رحمه الله.
4 ـ وزار الأستاذ الإمام أبو الأعلى المودودي سوريا عام 1955 وزرته مع بعض الزملاء من طلبة المعهد، وقلت له:
سوف نصير علماء بإذن الله، وسنكون دعاة إلى الإسلام، سوف نسافر إلى مجاهل أفريقيا، وأعماق الهند لأسلمة الناس.
وعندما توقفت عن الحديث الذي كان خطبة حماسية، ابتسم قائلاً:
ـ هل تعرف ما معنى أنكم دعاة؟
ولمّا لم أجب، تابع يقول:
ـ معناه أنكم لن تفكروا في مستقبلكم المادي، ولن تحسبوا له أي حساب.
وزار مدينة حلب، وكان بصحبته الزعيم المغربي الأستاذ علال الفاسي، رحمه الله، وألقى كلٌّ منهما محاضرة قيّمة في المركز العام للإخوان المسلمين، ثم أجابا عن أسئلة الناس الذين ملؤوا ساحة المركز والأسطح والشوارع المؤدية إليه، وكان لنا لقاء معهما استمر إلى منتصف الليل.
ولي ذكريات وأحاديث معه، نشرت بعضها في كتيب صغير، وفي مقال في مجلة المنار.
5 ـ اللواء الركن محمود شيت خطاب، الرجل الذي يحمل سيفه في كتبه، كنت على صلة وثيقة به، بدأت في أوائل عام 1983 عندما استقرّ بي المقام في بغداد، وحتى وفاته رحمه الله رحمة واسعة.
كنت آتيه أصبوحة كل يوم أجد فيه متسعاً، فما كان ينام الصٌّبحة، وأزوره أمسية كل يوم أكون في بغداد، يقدمني لأصلي به المغرب، مرّة يقول لي: طوِّل، ومرّة: قصِّر.. كان يحبّ تلاوتي، ومرّة زرت بصحبته، مفتي دير الزور، الشيخ عمر النقشبندي، رحمه الله، وعندما قمنا لصلاة العشاء، قال اللواء خطاب للمفتي:
ـ يا شيخ عمر، مُر أبا أسامة أن يؤمّنا.
وحاولت الاعتذار فلم أفلح.
وأفدت من اللواء خطاب أكثر مما أفدته من أيّ عالم آخر.. فقد كان عالماً، عاملاً، زاهداً، فيه شموخ وأنفة، يتعالى على الطغاة، ويتواضع لأمثالي من العباد، يعيش على الكفاف، ويأبى المال الكثير الذي لا يكلفه إلا كلمة شكر للحاكم بأمره، أو السكوت عن مخازيه.
كتبت عنه كتابين، وسوف أكتب عنه رواية إن شاء الله، فهو من أعظم من عرفت من الرجال.
6 ـ الرجال الرجال الذين عرفتهم، وتتلمذت عليهم، وأفدت منهم، كثر، وهم موزعون في أنحاء العالم، وإن كان أكثرهم من سوريا الحبيبة، ومن مصر، والأدرن، وفلسطين، ولبنان، والعراق.
منذ الصغر، وأنا أحبّ مجالسة الكبار ذوي الشأن، لأفيد من خبراتهم وتجاربهم، وأوفر على نفسي معاناة مثيلاتها، وأما بعد أن اكتهلت وشخت، فصرت أميل إلى مخالطة الشباب، لأفيد منهم حيوية واتقاداً في الفكر والعقل والقلب والروح.
مع الأديبات:
وهذا غريب.. أليس كذلك؟
ولكنكم نسيتم أن أستاذي الأثير، هو الشاعر الكبير، عمر بهاء الدين الأميري، وأني على شيء من مذهبه في هذا المجال، ولكنّ كل من عرفت من الأديبات، كنّ يكبرنني بسنوات مديدات، كنازك الملائكة، وعزيزة هارون، وهند هارون، وكنّ على خلق، ومتزوجات ولهن أبناء..
إذا بليتم بالمعاصي فاستتروا.. وها أنذا أتحدث فيما لم يطلب مني الحديث عنه.. ولأمر ما لا أدريه، أراني أتحدث وأذيع سراً هو في الأصل مذاع.
في أيلول 1969 نشرت مقالاً في مجلة الآداب البيروتية بعنوان: مع روّاد الشعر الحر، ناقشت فيه كل من زعم لنفسه أو زُعمت له الريادة في هذا الجنس الأدبي، كالسياب، ونازك الملاكة، والبياتي، ولويس عوض، ومحمد فريد أبو حديد، وسخرت من الشاعرة نازك، وقسوت عليها، ثم أثبتّ أن الرائد هو الشاعر الحضرمي المتعدد المواهب: علي أحمد باكثير.
وفي صيف 1974 كنا في لبنان، وقرأنا في الصحف أن الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة نزلت ضيفاً على لبنان، وأنها تقيم مع زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة في فندق الصخرة بعاليه.
قلت لمن معي ـ وهم الدكتور عماد الدين خليل، وأخوه الدكتور نبيل خليل، والأستاذان: إبراهيم عاصي، ومحمد الحسناوي ـ ما رأيكم في زيارة نازك والسلام عليها؟
فرحبوا بالفكرة، وقال الدكتور عماد الدين:
ـ أما أنا وأخي نبيل فسوف ننتظركم هنا.. اذهبوا على بركة الله.
ذهبنا نحن الثلاثة: إبراهيم عاصي، ومحمد الحسناوي، وأنا.. التقيناها مع زوجها، ونشرتُ وقائع هذا اللقاء في جريدة الحياة، وعلى موقع رابطة أدباء الشام، ومنذ ذلك اللقاء، وكلٌّ منا يحمل للآخر كل ود، ويدعو له، شفاها الله وعافاها، وصرنا نتهادى كتبنا..
نازك الملائكة تكبرني بخمسة عشر عاماً، وكذلك الشاعرة هند هارون، أما الشاعرة المبدعة عزيزة هارون، فكانت تكبرني بواحد وعشرين عاماً، كانت في عمر أمي، رحمها الله تعالى وكنا نلتقي بحضور زوجتي، ويعرف أكثر الإخوان هذه اللقاءات، فقد كنت أكتب عنها، وتكتب عنها مجلة الضاد الحلبية، وذكرت بعضها في برنامجي الأسبوعي في إذاعة حلب، وكان بعنوان: أديب من بلدي.. فأنا رجل إعلام، وليس لديّ ما أستحيي من ذكره، ولو وجدت في هذه اللقاءات التي تتم تحت الشمس، وتحت الأضواء، في الأمسيات الأدبية، والمهرجانات الشعرية التي كنت أقيمها باسم الجمعية العربية للآداب والفنون بحلب، التي كنت أرأسها ـ لو وجدت فيها ما فيه إثم ومعصية، لسكت عنها..
البيئة الحلبية:
دعونا الآن ننتقل إلى البيئة الأدبية في حلب، لعلّها تخفف من وطأة الحديث المثير للجدل..
حلب أمّ المحاشي والكبب، والمعالي والرتب، والآداب والطرب..
هكذا حلب.. مطبخها عامر بأجود أنواع الطعام، وسهراتها عامرة بالطرب، وكثير من البيوتات الحلبية العريقة فيها مكتبة، لأن الحلبيين يعتقدون أن الكتب مجلبة للرزق، وفيها من آلات الطرب: الدربكة والعود، وكانت بعض السهرات يتخللها عزف ودقّ ورقص، وبعد دخول الإسلام إلى قلوب الشباب، وتأثر الآباء والأمهات بهم، عزفت كثير من الأسر عن الدربكة والعود، وتابعت الأغنية الملتزمة التي ندعوها الأناشيد.
وكان لفرقة المطرب الملتزم أبي الجود، ولشاعر الفرقة الشاعر المبدع سليم عبد القادر فضل إيجاد البديل لتلك الأغاني، بأشرطتها الثلاثة الرائدة في هذه البابة.
كما كان للفنان المخرج مروان مكانسي دوره المتميز في إخراج شريطين للأطفال.
وكان أن التزم كبير الفنانين في حلب، الأستاذ بكري كردي، وترك الغناء والتلحين، وصار مؤذناً للجامع الكبير.. الجامع الأموي بحلب..
ولأن الطرب أصيل لدى الحلبيين، ولأن الطرب غريزي ـ فيما يبدو ـ في الإنسان السويّ، وكما قال الإمام ابن حزم رحمه الله:
وإنما سكر السماع ألذّ من سكر المدام، وذا بلا إشكال..
لكل ذلك، دعا الدكتور وجيه سلطان الفنان بكري كردي، ومجموعة من المنشدين والتجار والمثقفين إلى دارته العامرة في حي الكواكبي.. ودُعيت، فيما بعد، إلى تلك الحفلات الأسبوعية التي تبدأ بعد صلاة الظهر من كل يوم أحد، وتستمر إلى منتصف الليل.. يعني.. تستمر الحفلة اثنتي عشرة ساعة.. هل تصدقون؟ اثنتي عشرة ساعة كل يوم أحد، نتغدّى هناك.. لكل واحد ربع كيلو من الكباب الحلبي اللذيذ، مع صحن سلطة، وكأس كبيرة من العيران ـ اللبن المروّب.. الرائب ـ ورغيفين من الخبز، ثم يأتي الشاي الحلبي العقيقي اللون، والقهوة العربية المرة، وألوان الفواكه، والحلويات الحلبية، وهذه كانت تتخللها الأناشيد المصحوبة بالدف، تطلقها حنجرة ذهبية، هي حنجرة بكري كردي، وحناجر فضية، كحناجر صبري مدلل، وخان طوماني، وأبي علي الفتال، وحسن الحفار، وأديب الدايخ، ويحضر هذه الحفلات بعض مشايخ حلب وعلمائها ووجهائها، كالشيخ محمد النبهان، والشيخ عبد الرحمن زين العابدين، والشيخ أديب حسون، وسواهم..
أناشيد، وأذكار، وأسئلة شرعية، وأحاديث في الاجتماع والاقتصاد، فضلاً عن الفن.
أطراف السهرات:
هذه سهرة أدبية عجيبة، تضم ناساً من أجيال مختلفة، كان أكبرنا الحاج ياسين شراباتي، في الثمانينيات، والشيخ العلاّمة أحمد القلاش، في الستينيات، والشيخ نعمان حبوش، في الستينيات، والدكتور ناظم نسيمي في الخمسينيات، والسيد أحمد عسلية في الخمسينيات، وكنت أصغرهم، في الرابعة والثلاثين. كان الشراباتي تاجراً، وكان القلاش مدرساً، وكان الحبوش آذن مدرسة، وكان العسلية مصلح ساعات، وكان النسيمي طبيباً، وكنت مدرساً للغة العربية.. فتصوروا هذه التشكيلة من الرجال.. كنا نلتقي في الشهر مرة، في بيت أحدنا، وغالباً في بيتي، نتطارح الشعر والأدب.. وكان الحاج ياسين الشراباتي الذي يمشي نحو التسعين، هو نجم تلك السهرة، وكان هذا الرجل التاجر أعجوبة في حفظ الشعر بعامة، وشعر الهجاء بخاصة.. لا يسمع بقصيدة هجاء إلا يحفظها.. كان يحفظ في ذمّ اللحى أكثر من ثلاثة آلاف بيت، ويحفظ في القباقيب ووظائفها مئات الأبيات.. ويحفظ في ذم النساء مئات الأبيات ويحفظ في ذم التعدد والرجال المعددين في الزوجات، مئات الأبيات ويحفظ في ذم الطوال، وذم القصار، وذم الزمان، الشيء الكثير.. ولنا معه ذكريات طريفة، ولعلّ من أهمها أننا حملناه حملاً على إحراق القصائد الهجائية، ثم الحج إلى بيت الله الحرام، والتوبة والاستغفار عن تلك الأشعار.
وجمع الحاج ياسين شعر الهجاء في صرّة كبيرة، وذهب بها إلى أجير الفران في حارته، وأعطاه ليرة سورية ليوقد فرنه بهذه القصائد.. قال لنا:
وقفت أمامه أنظر إليها وهي تحترق، والدموع السخينة تبلل لحيتي، وكلما رمى الفران بمجموعة أوراق، أحسست بقلبي يتلظى معها.. كانت قطعاً مني..
ومسح الحاج ياسين وجنتيه الغارقتين بدموعه ثم أومأ إلى صدره وقال:
ـ أحرقت القصائد المكتوبة على الورق، فمن يستطيع إحراق القصائد المنقوشة ها هنا؟
صحت: الله..
أيها السادة..
ـ أيتها السيدات
أعلم أني أطلت، وأنكم صبرتم على ما قدّمت، فاحتسبوا هذا.
وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (البقرة: 281)..
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً (آل عمران: 30) والسلام عليكم في الخالدين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :903  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 104 من 252
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.