شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جـ- الصراط المستقيم وعلاقته بالتوازن:
المسلمون في كل ركعة من صلاتهم المفروضة كل يوم مطالبون أن يضرعوا إلى الله، طالبين هدايتهم إلى الصراط المستقيم، فهم لا يطيقون التماسه والثبات عليه إلا بهداية منه سبحانه وتعالى. فما هو الصراط المستقيم، وما مدى صلته "التوازن"؟.
الصراط في اللغة: هو الطريق، يقال الطريق الواضح، ويقال هو الطريق المحدود بجانبين لا يخرج عنهما. ويقال فيه معنى الاستواء والاعتدال، الذي يعين سرعة العبور عليه.
"فالصراط": هو الطريق المحدود المعتدل الذي يصل سالكه إلى مطلوبه بسرعة، وقد ذكر الله لفظ الصراط في كتابه في غير موضع، ولم يسم الله سبيل الشيطان صراطاً، بل سماه سبلاً، وخص طريقه باسم الصراط كقوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ (1) .
ويضيف "ابن قيم الجوزية" للصراط المستقيم شروطاً أخرى فيقول: "ولا تكون الطريق صراطاً حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعينه طريقاً للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة" (2) .
أما في الشرع فيقول "ابن القيم": "قال عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم: الصراط المستقيم هو: الإسلام. وقال عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: هو القرآن.
وقال سهل بن عبد الله: طريق السنة والجماعة. وقال بكر بن عبد الله المزني: طريق رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه علماً وعملاً وهو معرفة الحق وتقديمه، وإيثاره على غيره فهو الصراط المستقيم، وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له" (3) .
ولا إخال طلب الاهتداء إلى الصراط المستقيم إلا متضمناً طلب "التوازن" في الحياة، "التوازن" بين متناقضاتها باستمرار الهداية. وفي هذا يقول "ابن تيمية": "والعبد مضطر دائماً إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم. فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء، فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية، فمن فاته
إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين، وهذا الهدي لا يحصل إلا بهدي الله" (4) .
"ويوحي القول السابق أن للتوازن مستويين:
المستوى الأول: عام يجتهد كل امرئ في الوصول إليه بمقدار طاقته وعدته، مقتدياً بسنة نبينا (صلى الله عليه وسلم) وما جاء به في بيانه.
والمستوى الثاني: خاص وهو ما يكون بملازمة الصراط المستقيم أبداً وفي كل عمل وقول، لا ينطق فيه صاحبه عن الهوى، وهو توازن عسير لا يطيقه إلا النبيون، وعسره على غيرهم في اطراده" (5) .
و "التوازن" على الصراط المستقيم يكون في الفروع، كما يكون في الأصول، فلا يغادر عملاً من أعمال الجوارح، ولا حالاً من أحوال القلب إلا شمله، أي في الأخلاق والآداب. لهذا كان طلبه في كل الأوقات ضرورة ملحة، لمن أراد الاستقامة ولهذا كان العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وفي هذا يقول "ابن تيمية":
"وأما سؤال من يقول فقد هداهم فلا حاجة بهم إلى السؤال، وجواب من أجابه بأن المطلوب دوامها، كلام من لم يعرف حقيقة الأسباب، وما أمر الله به؛ فإن الصراط المستقيم أن يفعل العبد في كل وقت ما أمر به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا يفعل ما نهي عنه" (6) .
ويفصل "ابن القيم" القول في الحاجة الماسة إلى طلب الصراط المستقيم فيقول: "إن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريده، أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه – مما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله، فأمر يفوت الحصر ونحن محتاجون الهداية التامة، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام" (7) .
وهكذا تتضح أهمية سؤال الاهتداء إلى الصراط المستقيم والذي جعله سبحانه وتعالى مطلب كل مسلم في كل صلاة من صلواته المفروضة وغير المفروضة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيِم (8) .
و "للمتوازنين" على. الصراط المستقيم صفات تميزهم من اليهود والنصارى، بل تميزهم من أهل الكلام وأهل الزهد من المسلمين أنفسهم، يصفهم "ابن تيمية" بقوله:
"فأهل الكلام أصل أمرهم هو النظر في العلم ودليله... وأهل الزهد يعظمون الإرادة والمريد... ولا بد لأهل الصراط المستقيم من هذا وهذا، ولا بد أن يكون هذا موافقاً لما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فالإيمان: قول وعمل وموافقة السنة، وأولئك عظموا النظر وأعرضوا عن الإرادة، وعظموا جنس النظر ولم يلتزموا النظر لشرعي ... وكذلك الصوفية، عظموا جنس الإرادة إرادة القلب، وذموا الهوى وبالغوا في الباب، ولم يميز كثير منهم بين الإرادة الشرعية الموافقة لأمر الله ورسوله، وبين الإرادة البدعية، بل أقبلوا على طريق الإرادة طريق النظر.. ولهذا صار هؤلاء يميل إليهم النصارى ويميلون إليهم، وأولئك يميل إليهم اليهود ويميلون إليهم، وبين اليهود والنصارى غاية التنافر والتباغض، وكذلك بين أهل التصوف والزهد تنافر وتباغض، هذا وهذا من الخروج عن الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً" (9) .
"وسنجد بعد أن هذه مواصفات لما يكون عليه الفن الإسلامي عموماً، والأدب خصوصاً من استهداء "التوازن" في جميع ضروب القول الفني فالأدب الذي يرغب في الزهد مناقض لمعيار "التوازن" وأدب الصوفية مهما استهوى بعض القراء مناقض أيضاً لمعيار "التوازن"، والأدب الذي ينظر إلى الإنسان على أنه جسد فقط وشهوات ولذائذ في الدنيا، أو الذي ينظر إلى الإنسان على أنه روح علوية يجب أن يتسامى عن كل ما يعكر هذا الصفو من أمور المادة، الأدب الذي ينزع إلى هذا أو ذاك أدب مغوٍ مضل وإن وجد فيه بعض الناس غير ذلك" (10) .
أما عن الاستقامة على الصراط المستقيم فهي من أصعب الأمور، لا تتم بدون هداية الله، ولذلك روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: شيبتني سورةُ هود وأخواتها. فقيل له: فما الذي شيبك منها؟ فقال: قوله: فَاسْتَقِِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (11) .
"إن القلب في حركة دائبة يتقلب بين المواقف وما يرشد إليه التشريع كما يتقلب الليل والنهار، ويتصارع الخير والشر، وهي حالة تحتاج من المسلم إلى ضبط وتوجيه مستمرين، وإلى يقظة واعية متجددة، وإلى إرادة وإحساس بالمسؤولية لا ينقطع لكي يستطيع استهداء الصراط وهو "الإسلام" أو "القرآن" وهذا يقتضي عملاً متصلاً متلبساً بحالة من الشعور بالقلق والخشية والإتقان، تدفعه بدورها إلى طلب المزيد من توفيق الله، لأن الاعتماد على القدرة الخاصة وحدها، والوثوق بنتائج العمل قد يورث النفس غروراً أو كلالة" (12) .
يقول الله تعالى: فَلِذَلِكَ فَاْدْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ (13) فَاْسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
يقول "سيد قطب" في شرح هذه الآية: "فالاستقامة: الاعتدال والمضي على المنهج دون انحراف، وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً، ومن ثم فهي في شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة.
وإنه مما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة لم يكن نهياً عن القصور والتقصير، وإنما كان نهياً عن الطغيان والمجاوزة، وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر والله يريد لدينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير، وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة، لإمساك النفوس على الصراط، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء. إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والبصر من البصيرة مناسب في هذا الموضع الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير" (14) . وهكذا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عوناً على الاستقامة و "التوازن".
ولكي يضمن المسلم استمراريته عليه من خلال جميع مواقف الحياة اليومية، لا بد له من مرجع يفيء إليه كلما حاصرته المواقف الفردية، هذا المرجع هو القرآن الكريم وسنة محمد (صلى الله عليه وسلم) وبهذا المرجع يختلف المسلم "المتوازن" عن الفيلسوف اليوناني الذي كان مرجعه عقله. فالقرآن والسنة مع معايشتهما للفطرة، إلا أنهما سمحا للفرد بحرية اختيار فردية، ولكن هذه الحرية لا تند عن منهج الصراط المستقيم وسيأتي توضيحها عند الكلام عن ملامح "التوازن" - إن شاء الله. ويعرف "ابن القيم" الاستقامة بقوله: "الاستقامة: ضد الطغيان وهو مجاوزة الحدود في كل شيء... ويقول المطلوب من العبد الاستقامة، وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عنها: فالتفريط والإضاعة" (15) .
ومن هذا يفهم أن السلف أدركوا حقيقة الاستقامة وصعوبة الاستمرار عليها. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسألُ عنه أحداً غيرك. قال: قلْ آمنتُ باللهِ ثم استقم" (16) .
والحديث يوضح منزلة الاستقامة وأهميتها في الإسلام بألفاظ قليلة، وهي مع ذلك تقطع بأهمية تلك المنزلة.
ويجعل "ابن القيم" للاستقامة درجات تعين السالكين على طريق الحق، ويقول في الدرجة الأولى للاستقامة. "الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد لا عادِياً رسم العلم ولا متجاوزاً حد الإخلاص، ولا مخالفاً نهج السنة. وهذه الدرجة تتضمن ستة أمور: عملاً واجتهاداً فيه: وهو بذل المجهود. واقتصادا: وهو السلوك بين طرفي الإفراط، وهو الجور على النفس والتفريط بالإضاعة. ووقوفاً مع ما يرسمه العلم، لا وقوفاً مع داعي الحال. وإفراد المعبود بالإرادة: وهو الإخلاص. ووقوع الأعمال على الأمر: وهو متابعة السنة... والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيراً، وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة" (17) .
وهكذا وجدت أن أهم عناصر الاستقامة الاقتصاد في الأعمال، والاقتصاد في الأعمال – كما هو معروف – ضد السرف. والسرف ضد التوازن.
وأخلص من هذا بأن الاستقامة على الصراط المستقيم، هي التوازن عليه، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوْا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (18) .
وتفسير ذلك عند "ابن القيم" أنه من هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسله، وأنزل كتبه هدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصول إلى جنته ودار ثوابه. وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم" (19) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1163  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج