شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إبراهيم مفتاح.. شاعر الغجرية الحسناء!!
الحب عند جماعات ((الغجر)) المنتشرة في أغلب أنحاء العالم تحكمه حسب اعتقاداتهم حالتان: هما ((الحياة الأبدية))، أو ((الموت النهائي)) للمحبين معاً لهذا فإن من عاداتهم إذا أحب أثنان بعضهما (رجلا، وإمرأة) أخذا سكيناً ليقطع كل واحد منهما أحد شرايين رسغه، وحين يسيل دمهما يجمعان الدّمين فيصبحان دماً واحداً، يؤرِّخ اتحاد المحبين للأبد، لا يفصلهما عن بعضهما إلا ((الموت))، وبعض الروايات تقول إنه إذا مات أحد المحببين، فإن الآخر يقوم بقتل نفسه ليلحق بمحبه، وسواء كانت هذه ((الظاهرة)) شائعة فعلاً بين جماعات الغجر، أم مجرد أسطورة أو خرافة، إلا أن الكاتب المسرحي الإنجليزي الذائع الشهرة والصيت (( وليام شكسبير )) قد صورَّها درامياً في روايته الرومانسية المعروفة ((روميو.. وجوليت))، فهل الرواية من خيال ((شكسبير))، أم أنه عرفها من مجتمعات الغجر؟
وكلنا نعرف قصيدة الشاعر العربي العملاق (( أحمد شوقي )) حسب ظني العذبة، التي صاغها الموسيقار العربي الكبير (( محمد عبد الوهاب )) لحناً أعذب.. كما أذكر ـ:
جفنه علَّم الغزل
ومن الحب ما قَتَلْ
فإذا عرفنا أن الشاعر ((شوقي)) قد عاش فترة من عمره في (( اسبانيا )) المعروفة بوجود جماعات من ((الغجر)) فيها، وفي زيارتي الشخصية لمدينة (( غرناطة )) بالأندلس العربية سابقاً، وإسبانيا حالياً، زرتُ المنطقة التي يعيش فيها جماعة ((الغجر)) خارج مدينة ((غرناطة)) كما هي عادتهم فهم لا يسكنون داخل المدن، بل يسكنون أرباضها، حيث يعيشون حياتهم، ويمارسون عاداتهم بحرية مطلقة في الهواء النقي داخل أنفاق، وكهوف، أو في خيام.
وقد عُرفوا في العالم أنهم شعب ((الحرية المطلقة))، والرقص، والغناء، ومن أبرز الغناء، والرقص اللذين اشتهروا بهما (الفلامنكو) في إسبانيا، إذا كان شاعرنا قد عاش فترة من عمره في إسبانيا فلا نستبعد أنه عرف عن ظاهرة (( الحب الأندماجي )) الأبدي، حياة وموتاً، عند الغجر، فكان يؤكِّد الظاهرة، أو الأسطورة أو الخرافة ـ سموها ما شئتم ـ الشائعة بين جماعة ((الغجر))!!
وصديقنا العزيز الشاعر الرقيق (إبراهيم عبد الله مفتاح) وقع في حب (( غجرية )) حسناء، ذهبت بلبه، وسيطرت على مشاعره الإنسانية الشاعرة، وخلبت قلبه، وتمكَّنت من ذاكرته، وتغلغل عشقه لها مخترقاً مسام جسمه، معربداً في دمه، ممتزجاً بكرياته الحمراء والبيضاء، فأصبح مثل (( مجنون ليلى )) هائماً في أزقتها، كعصفور مغرِّد على شواطئها الجميلة، ورملها الأبيض الناعم، هذه الشواطئ التي لا تقل في روعتها، وجمالها عن شواطئ (( الريفيرا )) الفرنسية، و (( هاواي )) الأمريكية!!
حين جاء للعمل في الرياض بمجلة (( الفيصل )) لم يمر عام على مكوثه حتى أصبح بعده طريح الفراش يمتص (( الاكتئاب )) ذوب نفسه، ويرخي بأسداله السوداء على روحه، كسمكة أُخرجت من الماء فانتابتها نفضة الموت، والحنين العنيف إلى الماء!!! أو كطائر حر حُبس وحيداً في قفص ضِّيق، وقد كان في الهواء الطلق يبلِّله القطرُ، وينعم بفضاء الحرية!!
توقَّف عن التغريد، لم يقل خلال العام بيتاً واحداً من الشعر، خِفتُ عليه، وقد كنتُ سعيداً بوجوده معي في العمل، لأنه كان بأخلاقه النبيلة، والتزامه بعمله، وثقافته الجيدة، ولغته السليمة مرشَّحاً لتسنم منصب ((مدير تحرير المجلة)) بعد أن تمكَّن من العمل، وترافقنا في رحلة إلى (( صنعاء )) باليمن لتصوير معالمها، وآثارها، وتركته يذهب في رحلة مع مصور المجلة لزيارة ((مأرب)) والكتابة عن سدِّها التاريخي، وكانت رحلة خطيرة، وشاقة، وطويلة نوعاً ما!! وقد نجح في مهمته، كانت بداياته في العمل الصحافي، وهو عمل جديد عليه، لأنه كان في الماضي مدرِّساً يتعامل مع الصحافة عن بُعد بإرسال قصائده الشعرية إليها، كانت بدايته، وقدراته تبشِّر بنجاحه، وأنه سيكون في المستقبل نجماً صحافياً لامعاً بقدرة، واقتدار.
ولكن، وألف آه من لكن، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد كان لمرضه كبير الأسى والحسرة على نفسي لأنني شعرتُ بالذنب، وأنني السبب في فراقه عن معشوقته الغجرية الحسناء، فتأكَّدتْ وترسَّختْ في نفسي ظاهرة، أو أسطورة ((الحب الغجري))!!
حين أخذناه إلى المستشفى همس الطبيب في أذني بأنه معرض للموت إذا لم يعد لمعشوقته الغجرية فوراً، لسوء حالته المرضية!!
وكان لابد مما ليس منه بد، لأن كلام الطبيب كما تقول العرب (( قطعت جهيزة قول كل خطيب ))، فحملناه إلى المطار، وترك الرياض في ليل أظلم، ذهب وقلبي، وكل مشاعري معه، وحزني لفراقه، وخسارتي لزمالته في العمل!!
لقد أطلتُ الحديث عن معشوقة صديقي العزيز (إبراهيم مفتاح) الغجرية الحسناء، الساحرة، وجاء الوقت لأذكرها باسمها، إنها (( جزيرة فَرَسَان )) الواقعة في وسط البحر الأحمر بمنطقة جازان، قطعة من الأرض يحيط بها الماء من كل الجهات، يسكنها في الوقت الحاضر ـ حسب تقديرنا ـ ثلاثة آلاف نسمة يزيدون، أو ينقصون قليلاً، يتحلون بالطيبة الفطرية، والكرم غير المتكلف، وحب زائر الجزيرة، والترحيب بضيوفها.
ويتبع هذه الجزيرة (الأم) مجموعة من الجزر التي تربو عن المائتين حسب علمي ـ وفوق كل ذي علم عليم ـ دون الرجوع إلى مرجع، بعض هذه الجزر مأهول بالسكان، وبعضها غير مأهول، ومن أشهر هذه الجزر (( قُمَّاح )) جزيرة النخيل، و (( السَّقيد )) و (( زفاف )). وغيرها.
وقد أطلقتُ على جزيرة (( فَرَسَان )) لقب (( الغجرية الحسناء )) لأن من يزورها ويتعرَّف على أهلها ويلقي بجسده على رمال شواطئها، ويسمع شعر (( الدَّانة )) وقصص (( الغوص )) بحثا عن اللؤلؤ الطبيعي، ويعرف أنها اتصلت ليس بالخليج العربي فحسب، بل ببعض البلدان الأوروبية مثل (فرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، والبرتغال) منذ أمد طويل، وأن تاريخها يمتد إلى ما قبل (( الكنعانيين )) كما يرى صديقي الباحث الدؤوب (عبد الرحمن الرفاعي) وأن الألمان وصلتها بجنودها، وتركت أثراً لها يسمونه بيت (( الجَرمَنْ )) المأخوذة من كلمة (( Germany )) إلى جانب غيرها من الآثار والعالم.
قلنا، من يزورها لمرة واحدة، ويتعرَّف على كل هذه المفردات التاريخية والاجتماعية والإنسانية يحرص على زيارتها مرتين، وثلاثاً، وأربعاً، فهي جزيرة جاذبة، لا طاردة!!
ومن الطريف، وقد تحدَّثنا عن ((الغَجَر)) أن في خارج جزيرة ((فَرَسَان)) جماعة ترجع أصولها إلى ((الغَجَر)) قدموا الجزيرة، واستقر بهم المقام كما هي عادتهم خارج منازل سكان الجزيرة، منعزلين بحياتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم في الأفراح والأحزان، يسميهم أهل الجزيرة ((العُبُوس))، وقد قدموا من أماكن لا نعلم عنها شيئاً، حتى لو كنا نعلم فلا نريد الخوض فيها، لأسباب لا نري أيضاً داعياً لذكرها، والحليم بالإشارة يفهم!!
وحين نعود لصديقنا (إبراهيم مفتاح) نجد أن علاقتنا به تربو عن أكثر من أربعين عاماً قبل أن يُعرف أول ما يُعرف كشاعر، وقد سعدتُ بلقائه، والتعرف عليه شخصياً يجمعنا العمر الزمني، حيث ذهبتُ إلى جزيرة ((فَرَسَان)) بصفتي ((أخصائياً إجتماعياً)) مندوباً عن فرع ((الضمان الاجتماعي)) بجازان، لبحث حالات الفقراء، والمحتاجين لمنحهم مخصصات مالية شهرية لمساعدتهم على الحياة، ولعدم وجود فنادق نزلتُ ضيفاً على منزل الصديق (مفتاح) لعدة أيام فتعرفتُ على والده الرجل الإنسان الذي أخاطبه (( بالعم عبد الله مفتاح )) تغمده الله بواسع رحمته، وكان من وجهاء فَرَسَان، وشعرائها الشعبيين.
كان إذا انتصف القمر كبد السماء، نسهر على ضوئه، والنسائم البحرية تداعبنا على قصائد العم (عبد الله مفتاح) الشعبية، ورواية ما يصاحبها من قصص قد يكون أحياناً هو أحد أبطالها، كما كان يسمعنا قصائد لغيره من الشعراء الذين سبقوه، والذين عاصروه، كم أتمنى لو قام الصديق (إبراهيم) بجمع هذا الشعر على ألسنة بقية رواته قبل أن ينتقلوا إلى رحمة الله فيندثر هذا الفن، وهو رغم عاميته إلا أنه لا يخلو من إبداع، وتاريخ وقائع، وأحداث، ومناسبات تعد جزءاً مهماً من ذاكرة فرسان التاريخية، ومفاصل مجتمعها العام، وهو في الوقت نفسه يعد صورة من صور (( فولوكلورها )) بما يصاحب بعضه من أغان، وأناشيد، ورقص، رغم أنه قدَّم نماذج منه في الكتب التي أصدرها عن تاريخ فرسان، ولهذا الشعر في الجانب العاطفي والاجتماعي والإنساني جماله وصدق مشاعره التي تسكن أعماقه، وتغفو على صوره، وتنام على قوافيه.
والوسط الأدبي في المملكة يعرف الصديق (إبراهيم عبد الله مفتاح) شاعراً رومانسياً اجتماعياً وعاطفياً ووطنياً بما أصدره من دواوين شعرية متعدِّدة، ومشاركاً في الندوات والأمسيات الشعرية في النوادي الأدبية، وبعض المحافل الشعرية في داخل المملكة وخارجها، وإذا كان قد أكثر من (( القصائد العمودية الخليلية ))، إلا أن له بعض القصائد في ((شعر التفعيلة)) استطاع أن يؤكِّد من خلاله قدراته الفنية، وبراعة مخيلته، وجمال صوره الشعرية في النوعين، وهذا دلالة على أصالة موهبته، وتطويعها للتجويد، والتجديد.
وهو كشخصية مرهف الإحساس، قريب إلى النفس، سليم الطوية، لا يعرف الكذب، ولا الرياء، ملتزم في غير تزمت، منفتح في التزام، لا يحب السفر طويلاً عن جزيرته، يعشق صيد السمك، يسعى اجتماعياً ورسمياً إلى كل ما فيه تقدم جزيرته، يشارك في كل المناسبات التي تقام فيها، يعرف فيها وعنها كل حفنة من ترابها، وكل حبة رمل على شاطئها، وكل صوت ((قُمري)) من قماريها، ومن عشقه لها قد لا نبالغ إذا قلنا إنه يعرف حتى عدد نجوم سمائها، لأنه العشق، أو الحب الذي يرى بالبصيرة، لا بالبصر.. بالأحاسيس والمشاعر، لا بالحروف الهجائية!!
إذا أردت أن تدخل فَرَسَان فإن بوابتها الرئيسة هي (إبراهيم مفتاح).. لأنك من خلال هذه البوابة لا تحتاج إلى جواز سفر، أو تأشيرة، أو تذكرة دخول.
وإذا أردت معرفة معالمها الصغيرة، والكبيرة، وآثارها فإن خير خرِّبت تختاره لمرافقتك هو (إبراهيم مفتاح) هذا الشاعر الرومانسي الرقيق الذي قال فيها أفضل من قال شعراً مورقاً، مونقاً.
اختزنت أذناه أحاديث أمواج شواطئها الهادئة، وأصغت إلى زقزقات عصافيرها طائرة حرة، أو في أعشاشها، قال فيها (( المقامات الفرسانية (1) )).. وأصطحب (( أشجارها في أدبياتها (2) )) جعل لأشجارها شفاهاً ترتعش، ولساناً يتحدَّث عن تاريخها الموغل في القدم!!
نَبَشَ أرضها بيديه، وذاكرته يحكي للآخرين تاريخها القديم، والجديد ((جيولوجياً))، وسبح في بحرها ليعلِّم الناس لغة البحار نثراً، وشعراً!! واصطاد سمكها، و (( جراجيحها ))!!
شارك علماء الجيولوجيا والباحثين، والدارسين في رحلاتهم ليقدِّم لعشاق المعرفة ما يستطيع عن جزيرته، والجديد في المعرفة عن جزيرته وكان آخر كتاب من كتبه العلمية البحثية، المزودة بالخرائط، والوثائق، والصور جاء بعنوان (فرسان، بين الجيولوجيا.. والتاريخ).
إذن، لا غرابة، ولا مبالغة فيما قلناه في هذا الموضوع عن صديقنا العزيز (إبراهيم عبد الله مفتاح).
فهو ليس شاعر فَرَسَان المعاصر، فحسب، بل مؤرِّخها، ومجغرفها، وأديبها، وصاحب مقاماتها، وجيولوجيتها، ورائد السياحة فيها، وبدونه لم يكن لفرسان صوتها المسموع، ولحنها العذب، وموسيقاها الخاصة، ومكانتها الحضارية التاريخية لدى جيلنا الحاضر، والأجيال القادمة!!
فإذا أردت سماع أغاني فرسان، وأنغام شواطئها، وبحرها، وتغريد قماريها، فاقرأ دواوين شعره، وإذا أردت معرفة أي معلومة عنها فاقرأ كتبه!!
وتظل ((فَرَسَان)) هي ((إبراهيم مفتاح)) ويبقى هو ((فَرَسَان)) وقلمي عاشق حين يلقى العاشقينا، وفوق كل ذلك فإن ((مفتاح)) شقيق روح، وصديق عمر يسكن في عيوني كما يقول الشاعر ((نزار قباني))!!
ولو وَجَدتُ فندقاً فخماً عند زيارتي لفرسان فلن أسكن إلا في منزل صديقي العزيز (مفتاح) لأنه بالنسبة لي سيكون ((الأفضل)) و ((الأجمل))، و ((الأحسن))، و ((الأفخم)) و ((الأحب))، من أي فندق عالمي بنجومه العديدة، في أجمل مدينة في العالم!!
وكلما تذكرت الحب، وقصصه العذبة تذكرت بيته الشعري الأعذب:
عارٌ علينا بأن نحبَّ، ولكن
منتهى العار أن نرى الحب عارا
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2149  التعليقات :1
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.