شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خالد الفيصل.. مجموعة إنسان!! (1)
أكتبُ عن رجل يطول الحديث عنه كطول نهر (( النيل )) رجل عشتُ معه، وبجواره ستة عشرة عاماً، أحسبها من أخصب سنين عمري، كنتُ خلالها تلميذاً تعلمتُ منه الشيء الكثير، علِماً، وخبرةً، وسلوكاً، وتعاملاً إنسانياً رفيعاً.
لم أذكر أنه في يوم من الأيام جرح مشاعري، أو نال من حساسيتي المفرطة، رغم احتكاكي الدائم به في مختلف الظروف، والمواقف الإنسانية المتغِّيرة، كما هو الحال بالنسبة لكل إنسان.
رجل يتحدَّى نفسه، وظروفه في مواجهة كل الأجواء، وتغيّر الطقس، وفي وجه الريح والعاصفة، والأمواج المتلاطمة، ليعانق النسائم الربيعية القادمة.
هو دائماً مشغول ومنشغل، لا يمل التفكير، لأن مسؤولياته المتعددة المتنوعة، تجعله هكذا مشغولاً يفكّر، ويفكّر مشغولاً، يستقبل الأمور الكبيرة، كما يستقبل الأمور الصغيرة، دون أن تدرك تغيراً في سلوكه، وطريقة أسلوبه في تسيير الأمور.
الذي لا يعرفه يعتقد أنه ذو كبرياء في تواضع، وتواضع في كبرياء، وأنه رجل يختلف عن الآخرين، أو عن بعض الآخرين، لكنه يظل لمن يعرفه صاحب (( شخصية نموذجية ))، فيها من والده، وفيها من ذاته، قد يقول البعض إنه إنسان لا يفكّر في ((اليوم)) بقدر ما يفكّر في ((الغد))، لأنه سبق له أن فكَّر ((بالأمس)).
يدرك أن (( الراحة )) لا تُدْرك بالراحة، ولكن تُدْرك (( بالتعب )) !! حين يحس بالتعب يستطيع بعده أن يشعر بالراحة، التعب عنده هو (( العمل )) ، والراحة هي (( السعادة )) التي تجعله يحس بمتعة العمل والتعب.
طموحه ليس له حدود، ولا سدود، يستسهل الصعب لاحساسه بقدراته الذاتية في تحقيق ما هو صعب!! مني أن تصدر مجلة (( الفيصل )) بعد شهرين من بداية التأسيس لأن عمه الملك الصالح (( خالد بن عبد العزيز )) طيّب الله ثراه كان ينوي زيارة ((عسير))، وهو حريص أن يقدِّم له (( العدد الأول ))، لم أقل له أن تحقيق ذلك أمر صعب فحسب، بل يعد مستحيلاً، فرد بثقة: لا تقل مستحيلاً، بل قل: سأحاول وربنا يوفِّقك، كأنه يذكِّرني بالمثل الإنجليزي ((لا تقل لا أستطيع، بل قل سأحاول)).. كان هذا أول درس صغير من دروس كبيرة تعلمتها منه.
أذكر مرة كنا قادمين من (( النَّماص ))، أحد منتجعات عسير الجبلية فتوقَّفنا قبل أن ندخل أبها (( حاضرة عسير )) لنشرب القهوة العربية، وبعد صلاة المغرب دخلنا ((أبها)) حيث شرع الليل يلقي بردائه عليها وأضيئت الكهرباء، وحين وصلنا إلى قصر الضيافة، وأخذ مقعده، نادى على أحد المرافقين الذين معه، وقال: إذهب غداً إلى البلدية، وأسألهم لماذا ((اللمبة)) التي توجد عند ((الدائري)) الفلاني مطفأة، مما يعرِّض السيارات المارة حوله من عدة جهات إلى حوادث مرورية؟
قلتُ في نفسي: هذا هو المستحيل بشحمه، ولحمه، كيف يملك هذا الرجل رغم جسامة مسؤولياته هذه القدرة على الملاحظة السريعة، ويعيرها هذا الاهتمام؟، فربما مرَّ رئيس البلدية نفسه من جانب هذا ((الدائري)) دون أن يلاحظ ذلك، أو يدرك أبعاد حساسيته، وما قد يسبِّبه من حوادث مرورية!!
وربما لاحظ ذلك دون أن يعير الموضوع اهتمامه!! فما أكثر ((اللبمات)) الكهربائية المطفأة في أماكن حسَّاسة، في كثير من مدن المملكة الرئيسة!! لا أود المبالغة فأقول: إنه يملك ((عين سحرية)) خاصة، أو ((كاميرا خفية))!!
هذا موقف، وموقف آخر ذهب إلى المطار ليلاً لاستقبال أحد أخوانه فلم يرتد المشلح، ولم يضع العقال على غترته، وعند عودته كان الوقت متأخراً بعد الساعة الحادية عشر ليلاً، وفي الطريق مرّ ومعه السائق بدائري في طريقهما، النظام يقضي بأن يلف سائق السيارة بالدائري، وبإمكان الذي يود المخالفة أن يسلك عدم اللف على الدائري، وقطع المسافة بطريقة مختصرة، إذا لم يكن جندي المرور واقفاً.
ما حدث أنه أمر السائق بقطع الطريق، لأن الوقت ليس فيه زحام سيارات، وبعد المضي في هذه المخالفة إذا بجندي المرور يقف أمام السيارة في منطقة ليس فيها نور، وطلب من السائق العودة إلى الوراء ليأخذ طريقه النظامي السليم بالدوران حول الدائري، حاول السائق عمداً أن يقنع جندي المرور بإكمال طريقه بعد أن قطع شوطاً ليس بسيطاً، لكن جندي المرور أصرَّ على موقفه، والالتزام بالنظام، فنفَّذ السائق أمر جندي المرور بالعودة إلى الخلف، ثم توقَّف قبل أن يلف بالدائري، بأمر الراكب الذي يجلس بجواره، وأمره بمناداة الجندي، وكانت المنطقة التي وقفت عندها السيارة مضاءة بحيث يستطيع جندي المرور التعرف على من في داخل السيارة، وحين أقترب الجندي من السيارة فإذا به يفاجأ بان الراكب الذي يجلس بجوار السائق هو (الأمير خالد الفيصل) فرفع يده بالتحية، وحين أمره الأمير بالاقتراب منه أرتبك معتقداً أن الأمير سيعاقبه على موقفه.
وازداد إرتباك الجندي حين سأله الأمير عن إسمه ورتبته ظناً منه أنه سوف يفصله غداً، لكنه شعر بالإرتياح والسعادة حين أعطاه الأمير مبلغاً من المال، وقال له غداً راجع رئيس المرور لمنحك رتبة أعلى من رتبتك، تقديراً لموقفك الوطني في تطبيق النظام، وأملاً بأن تكون هذه الترقية حافزاً لك ولزملائك الذين ستمنح الرتبة أمامهم لتكون قدوة لهم!!
تصوَّروا هذا الموقف الرائع للأمير خالد الفيصل!! وتصَّوروا فرحة الجندي، وسعادته!! وبهذه الوسائل وأمثالها تطبَّق الأنظمة على الجميع، ويحترمها الجميع.
وفي أحد الأيام زار الرياض رئيس تحرير جريدة عربية شهيرة، له علاقاته الشخصية الواسعة عربياً، على المستويين الرسمي، والجماهيري، وهو يتباهى بذلك تباهياً يصل إلى الغرور في أغلب الأحيان، وقد سبق لي التعرف عليه.
زرته في الفندق مرحِّباً بمقدمه كما يقضي واجب الضيافة العربية، رغم عدم إرتياحي له، ولأساليبه الصحافية، كما سمعتُ عنها.
وكان على علم بعلاقتي بسمو الأمير خالد الفيصل (مجموعة.. إنسان) بحكم عملي، رئيساً لتحرير مجلة ((الفيصل))، فطلب مني زيارة سموه، للتعرف عليه، كان الزمن ليلتها الساعة السابعة والنصف، ولأنني أعرف أن سموه يتناول طعام العشاء مع ((ربعه))، وضيوفه في الساعة الثامنة، وحين عرفتُ أن صاحبنا رئيس التحرير لم يكن مرتبطاً بموعد، أدرتُ قرص الهاتف لإبلاغ سموه برغبة صاحبنا في زيارته، والتعرف عليه، فرحَّب سموه بذلك، وانطلقنا إلى قصره، وتقابلا، وتبادلا أطراف أحاديث متعدِّدة.
وحين جاء موعد طعام العشاء، دعا سموه ضيفه إلى مائدة الطعام، في الوقت الذي ذهبتُ لأغسل يديَّ، وقبل أن أدخل صالة الطعام، سمعتُ الأمير يسأل عني، وحين رآني دعاني للجلوس بالمقعد الذي بجواره، وكان ذلك بالنسبة لي مسألة عادية، فقد عودَّني سموه عليها، وكان الضيف يجلس على المقعد المجاور لسموه من الجانب الآخر.
بعد تناول طعام العشاء أنتحى بي أحد ((أخويا)) الأمير المقربين إليه جانباً، وكان من أبرز ((الصقريين))، وأكثرهم خبرة بالصقور، وأنواعها.. هذه الخبرة أكسبته معرفة بالرجال، ومعادنها من الإنطباع الأول من خلال حديثهم، وتصرفاتهم!!
سألني هذا الخبير ((الصقَّار)) سؤالاً حاداً: هل ضيف الأمير إنسان مغرور؟ أدهشني بسؤاله من ناحية، ولم يدهشني من ناحية أخرى!!
أدهشني من ناحية بحاسته الفطرية البدوية النقية، كيف استطاع أن يخرج بهذا الإنطباع السليم في وقت قصير، ولم يدهشني من ناحية أخرى لمعرفتي من خلال معايشتي، ومعرفتي بسمو الأمير وأخوياء الصقور لسنوات عديدة، أن من يخبر الصقور، وأنواعها، ((حرّها))، و ((فَسْلها)) لا يعجز عن معرفة الرجال، ومعادنها!!
سألته: ما الذي جعلك تحكم على الرجل بالغرور، وأنت لا تعرفه، وفي وقت قصير جداً؟
ردَّ علي كمن لدغته أفعى: الله المستعان (( أبا صافي )). لا خير فيَّ إذا لم أعرف الرجال من خلال تصرفاتهم، وحديثهم، هذا الرجل منذ جلوسه مع الأمير، وهو يتحدَّث عن بطولاته وفتوحاته وأعماله الصحافية التي قام بها مع هذا الزعيم، وذاك الرئيس، وذلك الوزير، حتى حين دخلنا صالة الطعام سحب الكرسي المجاور للأمير، وجلس عليه قبل أن يجلس الأمير على مقعده، لهذا حين نادى الأمير على إسمك، وأجلسك بجواره، أراد أن يقول للضيف بطريقة غير مباشرة إن لدينا رؤساء تحرير يجلسون بجوار الأمراء، وأولاد الملوك!!
سألته معجباً بلماحيته، وسرعة بديهته، وعلامات الاستفهام ترسم خارطتها على وجهي: وهل أسرَّ سمو الأمير لك بهذا المعنى؟
سألته لأحرجه، رغم أن تصرف سموه ليس غريباً على (( أبي بندر )) الذي أعرف اعتزازه بكفاءات هذا الوطن الغالي على نفوس الجميع حكاماً، ومحكومين، وما ترشيحه لي رئيساًَ لتحرير مجلة لها مكانتها الكبيرة في نفسه، لأنها تحمل اسم والده الشهيد (( الفيصل )) ، ومنحي ثقته الغالية التي أعتز بها، رغم معارضة المعارضين، ومناهضة المناوئين، ما هو إلا نموذج يجسِّد إعتزازه، وتقديره لكل كفاءة وطنية، تمتلك القدرة على إثبات وجودها، عملاً، وإبداعاً، وتفوقاً، ونجاحاً، إذا أعطيت لها الفرصة المناسبة!!
ردَّ عليَّ هذا ((الصقري)) البدوي الرائع دون أي شعور بإحراج قصدته من سؤالي: خذها مني صادقاً، ومسح على لحيته التي يعتزَّ بها، واسأل ((أبا بندر)) ليؤكِّد لك ما ذهبتُ إليه!! وبدوري لم أسأل الأمير عن هذا الأمر!!
وأنا في هذا الموضوع لا أريد أن أتحدَّث عن ذكرياتي، أو بعض ذكرياتي مع الأمير خالد الفيصل، ومجلة ((الفيصل)) لأن هذه الذكريات سوف أوردها في مذكراتي الصحافية التي تنشر تباعاً في (( المجلة العربية )) الشهرية.. لحرصي على أن تكون توثيقاً تاريخياً لمجلة ((الفيصل)) وصاحبها، بصفتي شاهد مرحلة تأسيسها، وانطلاقتها الميمونة، أملاً في أن يستفيد من هذه المذكرات، أي باحث، أو دارس مستقبلاً، سائلاً الله التوفيق، لكني سأتحدث هنا عن بدايات معرفتي بسمو الأمير خالد الفيصل، اعتقاداً مني باستقلاليتها عن المذكرات السابقة الذكر.
حين كنتُ أعملُ في مكتب وزير الإعلام يومذاك الصديق (الدكتور محمد عبده يماني) سكرتيراً للشؤون الصحافية، والإعلامية، بادرني في أحد الأيام بسؤاله: ما علاقتك الشخصية بالأمير خالد الفيصل؟
أجبته: إن خالد الفيصل عَلَمٌ على رأسه نور!! وأنا مجرد مواطن بسيط أعمل بمكتبكم نهاراً، وأعمل بالصحافة، مهتماً بالأدب (هواية) مساءً!!
قال لي الدكتور يماني: أعرف ذلك، لكن سموه تحدَّث عنك بما يوحي بوجود علاقة شخصية بينكما، كأنه يعرفك جيداً لقد قابلته في مجلس الوزراء فطلب نقل خدماتك إليه شخصياً لتكون رئيساً لتحرير المجلة التي سيصدرها في أبها، فسألته: وهل وافقت على طلب سموه؟ ردَّ عليَّ: أنت تعرف مكانة خالد الفيصل عندي، ومثله لا يُرفض له طلب، لكنني أعتذرت بحاجتي إليك، وشعرتُ من حرصه على إسمك ـ رغم وعدي بترشيح شخص غيرك ـ أن علاقة شخصية حميمة تربطكما ببعض!!
لم يكن الوقت مناسباً للحديث عن بدايات معرفتي بسموه مع الدكتور، وهي بدايات عابرة، أجد الآن الوقت المناسب لروايتها.
قابلتُ سموه أول ما قابلته في صالونه الأدبي بالرياض حين كان مديراً عاماً لرعاية الشباب ـ وكانت تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية ـ هذا الصالون الذي يستقبل فيه بمنزله من يقصده من العلماء، والأدباء، والشعراء، وغيرهم.
كان الصالون ليلتها يزدان بكوكبة ممن أشرتُ إليهم أعرف منهم الأساتذة (عبد الله بن خميس، علي العمير، عبد الله نور، والشاعر الفلسطيني فواز عيد رحمه الله).. كنتُ طوال الأمسية صامتاً أسمع دون مشاركة في الحوارات الدائرة، لأنني كنت أصغر الحاضرين سناً، وعلِماً!!
هذه هي أول مرة أشاهد فيها الأمير خالد الفيصل الذي شدَّني بشخصيته المتميزة، وقدرته على إدارة دفة الحوار بأسلوب حضاري رغم أنه كان في منتصف العقد الثالث من عمره!!
والمرة الثانية كانت حين ذهبتُ مع الصديق الأستاذ (خالد المالك) رئيس تحرير جريدة (( الجزيرة )) لتعزية سموه في وفاة والده ((الفيصل))، وكان مقيماً في إحدى ((فلل)) (( فندق صحاري بالاس )) بالرياض، وكنتُ يومها مشرفاً على صفحات ((الأسبوع الأدبي)) بجريدة ((الجزيرة)).
حين دخلنا على سموه وجدنا أن الصديقين الأستاذين (تركي عبد الله السديري) رئيس تحرير جريدة (( الرياض )) ، و (محمد أحمد الشدي) رئيس تحرير مجلة (( اليمامة )) حينذاك، وجدنا أنهما قد سبقانا لأداء واجب التعزية.
كان الجرح ساخناً، لهذا كان حديث سموه طوال الجلسة عن والده الشهيد، روى لنا قصصاً عن حياته الخاصة والعامة.
حدَّثنا، والحزن الكبير يسكن قلبه، ويتطاول هذا الحزن ماداً عنقه ليلامس كل حرف من حروف حديثه الذي يجري على لسانه، كانت كلماته مكلومة، مشروخة، ولولا إيمانه العميق بقضاء الله وقدره، لبكى، وأبكانا معه.
ثم توقف الأمير عن الحديث، فتوقَّف معه نهر الحزن عن التدفق، ليعاود جريانه مع لغة الشعر من خلال القصيدة ((النَّبطية)) التي كتبها سموه في رثاء والد الجميع، وشهيد الجميع، بناء على رغبة الحاضرين، التي مطلعها:
لا هِنْت يا راس الرجاجيل لاهِنْت
لا هان رأسٍ في ثرى (( العَوْد )) (1) مدفون
وقد أعجبتُ بالمعنى الجميل في عجز البيت الذي قال فيه ((وعوَّد الشَّوف مطعون)) مما يذكِّرك بالمعنى الوارد في آية من سورة (( الملك )) التي قال فيها سبحانه وتعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ الآية.. وعجز البيت ((وعوَّد الشوف مطعون)) يحمل معنى ((ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير))، وهذا ما يسميه بعض النقاد بـ (( الاقتباس )) وبعضهم يرى فيه ((تناصاً)) والحقيقة أنه قريب من كليهما لأنهما مصطلحان لمدلول واحد.
وبعد أن انتهى سموه من إلقاء قصيدته الرثائية العصماء. حرص كل رئيس تحرير كان في المجلس على أسبقية نشرها، فأُحُرِجَ سموه، ثم قال لهم بكل مودة، كلكم أخواني، وجميعكم في عينيَّ الاثنتين سواسية، ثم صمت ليشد اهتمام الجميع، بعده قال: سأعطي القصيدة للأخ ((علوي)) بصفته محايداً لا يمتلك جريدة يرأس تحريرها، سأحَمِّله هذه المسؤولية، لأرى كيف يتصرف؟
وأسقط في يدي، أثناء استلامي القصيدة، وكان شعوري متوعكاً بالذهول يئن تحت ثقل، ووطأة جبل المسؤولية التي حملنيها سموه مصحوبة بالاعتزاز لثقة سموه بي، وقد ظنَّ الأصدقاء رؤساء التحرير بي ظناً حسناً، وهو أني سأؤثر جريدة ((الجزيرة)) بالقصيدة، بحكم عملي بها مشرفاً على الشؤون الأدبية والثقافية، ويبدو أنني يومها خيَّبت حسن ظنهم، لأن المسؤولية الصعبة التي شعرتُ بها أكبر من علاقة العمل، ورغم أنني وجدتُ نفسي في موقف محرج، وصعب، إلا أن الله ألهمني إلى قرار أرضيتُ به، جميع أصدقائي رؤساء التحرير، وعلى رأسهم سمو الأمير خالد الفيصل، شاعر قصيدة الرثاء، وهو أن تقوم الصحف كلها بنشرها في يوم واحد، وبما أن مجلة ((اليمامة)) تصدر صباح الجمعة، فإنني سأتولى طباعة عدة نسخ من القصيدة لتوزيعها على الجميع بعد ظهر يوم الخميس في وقت واحد، فرحَّب الجميع بالفكرة، فهل كان تصرف سموه اختباراً لي في كيفية التصرف في الأمور الحرجة؟
بعد وداع سموه، أعلن أنه سيغادر الرياض غداً عائداً إلى أبها مقر إقامته الدائم بصفته أميراً لمنطقة عسير، ثم أضيفت إليه يومها إمارة ((منطقة بيشة)) مما زاد من حجم مسؤوليته، وهو أهل لما هو أكثر من ذلك، والرجال، الرجال دائماً تُلقى على كواهلهم المسؤوليات الثقال، والشاعر يقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
في الطريق إلى مكاتب (( مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر بالناصرية )) سابقاً سألني الصديق العزيز (خالد المالك) سؤالاً محرجاً، أحسستُ معه أنه يضعني في اختبار صعب يجس فيه قدراتي المتواضعة، قائلاً: هل أستوعبت حديث الأمير خالد الفيصل عن والده؟ فأجبته: تقريباً!! فكشف لي عن مكنون سؤاله بقوله: هل تستطيع إعادة كتابته لنشره في جريدة ((الجزيرة)) لأنه حديث ماتع، وجديد على الجميع؟
رَدَدَتُ عليه: أنت تطلب مستحيلاً، لأن حديث سموه كان حديث مجالس، وحديث المجالس أمانة، وخيانة الأمانة بالنسبة لي دونها ((خرط القتاد)) كما يقول أجدادنا العرب!!
قال مهوِّناً الأمر: لا عليك.. فلن ننشر شيئاً إلا بعد موافقة سموه، وأتفقنا على هذا الأساس، وحين وصلنا المكتب أستحضرت ما سمعته بحذر، وبعد أن أطلع الأخ المالك على المسودة كما كتبتها، أقصد بما فيها من كشوطات، وتشطيبات، طلب مني آخذها والذهاب بها إلى الأمير فوراً قبل مغادرته مجلسه.
وفعلاً عدتُ إلى سموه، فوجدته يجلس وحيداً، وبعد المقدمة التي شرحتها لسموه شفهياً، تبريراً لتصرفي، ومحافظة على مشاعره الكريمة، ومراعاة لجرحه الكبير، وحزنه الأكبر، قدَّمتُ له الموضوع على خجل!!
كان كريماً فرحَّب بامتنان وبدأ يقرأ مسودة الحديث كما هي دون طباعة، أو تبييض لها، وكنتُ أقرأ في وجهه انعكاسات ما يقرأ. وبعد الإنتهاء من قراءة الموضوع الذي يتكوَّن من عشر صفحات أو أكثر ـ لا أتذكر ـ نظر إليَّ، وهو يصدر تنهيدة ساخنة قائلاً: بارك الله فيك، وفي أمثالك، لقد كُنتَ أميناً في نقل ما سمعته مني، وإذا كان لي ملاحظة هي أنك كنت مبدعاً، وبخاصة في تحليلك لماهية ((الزعامة))، وتعريفها، وهو ما ينطبق على الوالد.
لم يكتف بذلك، بل زاد من غروري الإنساني حين قال: لو قدَّمت هذا الموضوع لإحدى الصحف والمجلات الغربية، لأعطوك ما تطلب من آلاف الدولارات!! ومثل هذه الأمور يجب أن يعرفها الآخرون عن الشهيد، وحكمه، وتواضعه الفطري، وسلوكه الخاص في العمل والمنزل، وكيف يتعامل مع الآخرين أصحاب المصالح والحاجات.
فرحتُ لما سمعته فسألته: هل كلام سموكم هذا يعني موافقتكم على نشر الموضوع؟
ردَّ: الموضوع لا يخضع لموافقتي الشخصية وإنما لعلاقته بمن هم أقرب إلى هذه الذكريات فأترك لي الموضوع للاستشارة غداً صباحاً، وفي العصر سألقاك في المطار لأخبرك بالنتيجة سلباً، أو إيجاباً!!
وفعلاً، ذهبتُ عصر اليوم التالي إلى المطار فوجدتُ الصالة الملكية مزدحمة بالمودِّعين من الأمراء، وغير الأمراء، فلمحني، وأشار إليَّ بيده، فذهبتُ إليه، والفرح يسبقني فهمس في أذني: إنس الموضوع، لأن الموافقة لم تتم على نشره!!
ورغم خيبة أملي طلبتُ من سموه الموضوع للاحتفاظ به ريثما تتغيَّر الظروف، وتتم الموافقة على نشره، قال: أعرف انك تعبت في كتابته، وتعتز به لكنني أعدك بالاحتفاظ به، وإعادته إليك في الوقت المناسب!!
أمام رأي سموه الكريم، ورغم عدم احتفاظي بنسخة من الموضوع، سلَّمت أمري لله، وودَّعته عائداً مع عاصفة الرياض الصيفية، ولم أسأل سموه عن مصير الموضوع إلى الآن رغم عملي معه لمدة ستة عشرة عاماً، فلا أعلم فيما إذا ما يزال محتفظاً به، أم أن طول المدة الزمنية لم تمكن سموه من الاحتفاظ به؟
هذه بدايات معرفتي بالأمير خالد الفيصل قبل عملي مع سموه، وحين أخترتُ لهذه (( البدايات )) عنوان (( مجموعة... إنسان )) فإنما أخترته استيحاء من قصيدة له بهذا العنوان.. ربما كانت من حيث الأحاسيس ـ مع أنه فعلاً مجموعة أناس، في إنسان!!
فهو ابن ملك كبير، وأمير، وإداري، ورجل اقتصاد بحكم تخصصه في واحدة من أرقى جامعات أوروبا هي (اكسفورد)، ورجل تنمية، وسياحة، ورجل أدب، وفكر برئاسته لأكبر مؤسسة فكرية عربية، هي (( مؤسسة الفكر العربي ))، ومقرها بيروت، ومدير عام مؤسس لأكبر مؤسسة خيرية عالمية هي: (( مؤسسة الملك فيصل الخيرية )) التي تنبثق عنها (( جائزة الملك فيصل العالمية )) التي يرأس هيئتها بفروعها الخمسة (خدمة الإسلام ـ الدراسات الإسلامية ـ الأدب العربي ـ الطب ـ العلوم).. كما أنه مؤسس مجلة (( الفيصل )) الثقافية الشهرية، و (( دار الفيصل للثقافة والنشر )).. ولن ننسى (( مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية )) الذي يعد من المراكز الفاعلة النادرة، بما يشتمل عليه من مكتبة ضخمة معاصرة، وآلاف المخطوطات الأصلية، والمصوَّرة، ومكتبة أطفال، وله نشاطه المنبري العلمي، والثقافي سنوياً إلى جانب إقامته لمعارض كتب متخصصة، ويصدر مجلة دورية.
وهو إلى جانب ذلك كله شاعر مرهف الأحاسيس، حيث استطاع بشعره ((النَّبطي)) أن يكوِّن مدرسة جديدة مستقلة لها تلامذتها الذين اقتفوا أثرها، وتأثروا بها في المملكة والخليج، ورسَّام فن تشكيلي انطباعي، متميِّز بخطوط لوحاته، وألوانها، ومدلولاتها، وبيئتها المستمدة من بيئة المملكة. وهو يرى أنه في رسمه لا يفكِّر حين يرسم في أن يكون انطباعياً، أو سريالياً أو تجريدياً، أو تكعيبياً لأنه يترك المسألة للنقاد، ومحبي الفن التشكيلي.
وحين كان بالمدرسة النموذجية بالطائف كان رياضياً متميزاً في كرة القدم أو الطائرة، والسلة، وكان فارساً في ركوب الخيل ومرت فترة كان يعتني بأصائلها في ((اسطبل)) خاص بأبها، وبعض خيوله شاركت في مسابقات في بريطانيا ومن أشهرها الحصان الذي أطلق عليه اسم ((عطا الله)) وله اهتمام بالصقور يأخذها لقنص ((الحباري)) في الصحراء أيام الشتاء، وقد أنشأ مشروعاً لتفريخ الصقور الحرة.
بعد هذا كله ألا يستحق أن يكون مجموعة.. إنسان وإذا كان هناك وجه للاستغراب، فهو قدرته على جمع كل هذه الصفات في شخصه، مع محافظته على شخصيته كإنسان يحبه الناس، ويحب الناس، ولكن هذا الإستغراب يختفي، ويتلاشى أمام قدرة الخالق سبحانه وتعالى.
ولدوره التنموي الكبير في منطقة (( عسير )) الاستثنائي، مع بقية مواقف لي عاصرتُ بعضها، وسمعتُ الآخر عنها منه سيطالعها القارئ في الموضوع الذي يلي هذا الموضوع بعنوان (( الرجل.. الأصعب )) !!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :793  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج