شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مدخل
• عن الأجيال الصاعدة!
إن هذه الأجيال الصاعدة، والنابتة بعد... قد تستمد مخاضاتها من بشيمة هذه (التهدُّمات) التي أصابت: الإيمان حتى تكاد تشوِّهه، واعتدت على: القيم والمبادئ... ونجحت هذه التهدمات في تكريس واقع (الأنقاض) في نفسية جيل جديد... وهي الأنقاض التي طمرت تحتها: دور ورسالة (الثقافة) أو التثقيف في المجتمع، وهو دور غائب بكل أسف، أو هو دور: يتخبَّط ويقف عاجزاً ومشلولاً أمام ما تتدفق به (الفضائيات) من سيل: التفاهات، وأنقاض القيم، وحجارة المبادئ التي هدمتها... وكأن المجتمع العربي - عموماً - بات يعاني من هذا الفقر المدقع في، القدوة، والمُصْلِح، والزعيم!!
• • •
وهذه الأفلام الأمريكية (المخصوصة)، بدءاً برامبو، ومروراً بالأدوار المغرقة في بجاحة القوة التي مثَّلها: "أرنولد شوارزنيجر" / الولد البطران الذي يقتل جيشاً بكامله/ حذو "رامبو" النعل بالنعل... هي الأفلام التي شكَّلت الثقافة الأمريكية المعاصرة أو النمط المؤثر/ ثقافياً وربما عاطفياً في الشباب، بجانب الهامبورجر والكتشب(!!) وبقي الوطن العربي يفتقر إلى (تشكيلٍ) لثقافته، وإلى بلورة تنسجم مع التطور... حتى كتب / د. جابر عصفور في مطلع التسعينات يقول: "إن منتجي الثقافة، بدل أن يواجهوا الدولة والمؤسسات والأجهزة التي تسلبهم المناخ الذي يساعد على الإبداع، والتي تسهم في إلغاء الحوار... فإنهم يواجهون أنفسهم بالاتهام والإدانة"!! وهذه "العلة" هي أحد أدوائنا التي عرقلت تطور وتقدم الثقافة في وطننا العربي.
أما المخرج العالمي/ مصطفى العقاد، فقال عبارة نحسبها ترنُّ حتى اليوم، لأنها تفضح المعاناة: _ "ميزانية جيوشنا العربية: تقدر ببلايين الدولارات.. فلو خُصِّص ريعها لدعم الفن والإعلام والثقافة، لكُنَّا بألف خير"!!
• • •
هذه - إذن - هي "الهناءة" التي نرصدها، فإذا هي تمثال من إسمنت لزمن كان، وإذا طُرقات العمر هي: خارطة في يد طفلة عربية ضائعة من أمها، عن وطنها، وعن حلمها القادم!! هذا هو "الجوع" لم يعد لغذاء الجسم، بل هو: جوع لضمير، لقيم، لحقيقة، لحق... جوع لنغم ينبع من النفس ولايرتدُّ إليه: يتيماً!
هذه هي "الفكرة": فقدت ذاكرتها في صالونات وأرصفة العواصم، وانتعشت الأفكار الشيطانية المدمرة، و..... القدس: ما زالت عربية، والفلُّوجة: تحولت إلى مقبرة!
والصعوبة: أن تجعل عقلك وقلبك يتطارحان قضية واحدة... ليعكسا صورة رسمها (شاعر) قتلته رصاصة في أي مكان من العالم اليوم، فقال: "ليل يحترق بالأشياء اللامنسجمة: الحجارة، الكلمات، السنين، الدم، العشب"!!
• من "قصيدة" شاعر اللؤلؤ/ غازي عبد الرحمن القصيبي:
ما سِرْتُ من ظمأي إلا إلى قلقي
كأَّن كل حنان الأرض قد نضُبا
هل نحن جيل عاطفي... أم جيل أناني؟!!
يتساقط السؤال حرفاً، حرفاً.
يصبح السؤال: وجعاً، وشجناً، وارتطاماً... حتى يتحول إلى أصداء شبيهة بخطوات غريبة في سكون الليل، كغُربة "إنسان" هذا العصر.. الذي أضاعه القلق، وجَنَت عليه محاولات غمْط حريته واعتسافها، وبعثرَتْه الماديات المجحفة بتأملاته وصفاء روحه!
يتسلق السؤال صدورنا إلى أذهاننا.. إلى عيوننا.. إلى شفاهنا التي شقَّقها العطش لكلمة الحق، وأَدْمتها كلمات النفاق، والخنوع، والركوع بالخوف.. والتي سئمت الثرثرة بالهوامش، والزَّبَد، ودجّنها الملل من حشود الكلمات التي صار الناس يستخدمونها للترافع بها عن رغباتهم، وسقطاتهم!!
لكن السؤال لا يتعب، ولا ينكمش... بل يزداد جموحاً، وتمدداً، وطعناً في النفس!
وفي الوهلة الأولى من إلقاء السؤال... سارعت، فأجبت قائلاً:
نحن جيل عاطفي!!
وفي الإعتراض الأول على الاجابة السريعة، أو المتسرعة.. قال لي من يحاورني:
ـ بل نحن جيل أناني.. نبحث عن ما نريده ونشتهيه، في نطاق اهتماماتنا الفردية الموغلة بنا في الذاتية!
• قلت: لابد أن نربط بين العاطفة، والأنانية أولاً!
العاطفة: حب... والحب: أناني!
بل إن الدرجة الحادة في الحب.. هي تبلغ قمة "الأنا" في الإنسان!
_قال: إن الحديث عن "الذات" هو ضَرْب من الحصر، أو التحديد... لكنّ الحوار، والمعالجة: مطلبان هامان لإيضاح سمات، وسلوك "جيل" أخذ يتخبط منذ استنباته في مطالب أَنَويّة، وفي هزة عنيفة استهدفت التعامل، والمعالجة!
إنها المطالب التي تمليها: الرغبة، أو التفرُّد بقرار، أو بأضواء، أو بتسلط... أو الركض بعيداً عن "اعتبارات" اجتماعية، أو سلوكية، أو فكرية!
• قلت: إنه "جيل" وَلَدتْه قواعد اجتماعية في ثمالتها، أو في لحظات ضعفها أمام هجمات التغير، والتجديد... وقد ترسّبت في القاع بلا حركة والمقاومة!
إنه "جيل".. وَلَدتْه العادات، والتقاليد، والاسترخاء، والإتّكال على الغير... متزامناً مع مرحلة جاءت بالاضطرابات السياسية، والاجتماعية، والحروب، وأحدث وسائل المواصلات والاتصالات، والابتكارات، وقمة مراحل العلم.. في أقصى منخفضات الجهل!!
بينما كان مخاض هذا "الجيل": انفتاحاً على عصر جديد.. ازداد فيه عدد المدارس، والجامعات!
وهو عصر يختلف عن العصور التي سبقته... وقد تجانست فيه ألوان المتناقضات، وتصادمت: الموسيقى الرفيعة مع طلقات المدافع، والرشاشات، والمسدسات: المستَعْمِرة، والمتسلطة، والمدمنة للقتل!
وتواجهت فيه: الحضارة المتجددة، مع التأخر المتجمِّد.. والتكنولوجيا، مع محاولات تأخير الشعوب، وعَصْب عيونها ومفاهيمها!!
• • •
وسألني: وماذا ترى الآن في "إنسان" هذا العصر؟!
ـ أجبت: أرى انعكاساً من "نيرجس"... فهو لاينظر إلى الماء، وإلا استلهم أشياء أخرى.. ولكنه يحدق في المرآة، ليرى "وجهه" أكبر، ويرى مَنْ حوله: أصغر!
إنه عصر: افتقد الاطمئنان، والأمان، والثقة فيمن يقولون "للإنسان" ويكذبون!
إنه عصر: دمّرته أخلاق القتل، والطعن في الظهر، والإسقاط، والاكتئاب!
إنه عصر: يلحُّ - بحدة - على التفوّق، والإبداع... ولكن "الإنسان" فيه مغيَّب عن: عفوية الحب، والنقاء، والصدق!
وهذا "التفوق".. يدفع بالفاشلين إلى: الانحراف الفكري والخلقي، والنفسي!
وحينما كان "الإنسان" يعيش في القرية.. لم يكن هناك تناحر على الماديات، ولا على تفوق.. حتى نزح "إنسان" القرية منها، ومن جذوره، فتخلخل!
وأغلب دوافع الجريمة، كانت تأتي من (العار)... أي: بسبب عاطفي محض، يمتزج بسبب الحفاظ على نظافة النفس، والجوهر، والفعل... والمرأة التي تخون رجلها: كان يقتلها ويقتل نفسه!!
وفي هذا العصر... لم يعد هناك من يقدر على تحديد وتفسير معنى (العار)!!
وقد لا يقتل الرجل المرأة التي خانته الآن.... بل تقتله المرأة لتواصل خيانتها له!
والذي يتسامى، ويستكبر على القتل: انتقاماً في الدنيا من الخيانة.
والذي يتقاعس، أو يستضعف قدراته للدفاع عن حقوقه كإنسان، وعن حريته الملتصقة بكرامة "الإنسان" في أعماقه... فإنه يتمزق حقداً على مجتمع بكامله، وعلى دوافع عديدة... فيقتل نفسه بالبطء وينحرف، أو يدمر قدراته العقلية وصفاته الإنسانية الأجمل!
وقد تكون في هذا الاستسلام: أنانية عمياء إلى حد ما... ولكنها - في الاعتبار الأهم - هي: شعور بخسارة شيء هام.. وهي: ضياع تام.. وهي رفض لتدليس مادي بحت، يجرّ "الإنسان" إلى تغيير سلوكه، وإلى تبديل أفكاره!
ورغم التكنولوجيا، والوسائل الحضارية، والمخترعات، والاكتشافات العلمية... فمازال "الإنسان" أسير عاطفته!
إن الذي تحصَّل على أرقى الشهادات العلمية: تتحكم فيه كلمة إطراء، أو نفاق... وقد تُشوِّه نفسيته حركة غير مقصودة، يرى فيها انتقاصاً من قيمته العلمية، فيحقد!
والذي أصاب شهرة واسعة في ميدان تخصصه، أو في مركزه.. فإنه يستخدم هذه الشهرة بعواطفه وليس بعقله.. وينساق خلف مواقف ضعفه أمام استزادته مما يريده، ومما أغراه.. فيخطئ، ويسقط!
• كذلك... فإن "الإنسان" العادي الذي يعشق "أنثى" - على سبيل المثال - تجده يفرح بهذه المعاناة.. لكنه قد يبغض، ويخطئ بسبب عاطفته!
وفي اليابان.. تحدثوا قبل أعوام قريبة عن: شاب ياباني تحصَّل على "الدكتوراه" وتفوق في عمله الذي أنيط به بعد ذلك، ونال شهرة واسعة!
وهو بشر كالآخرين... أحب فتاة من بلده، اختلفت معه ذات يوم، فقالت له:
ـ لا ترفع رأسك بشهادة "الدكتوراه"، فليست هي كل مكسبك الإنساني.. ولكن عليك أن تثقف وجدانك، وتنتشله من امتهانات الركض وراء المركز الأحسن، لتستطيع أن تتذوق طعم الحياة الحقيقي!!
وكانت عبارة الفتاة قاتلة له.. فقد انتحر الشاب في اليوم التالي، تاركاً لها عبارة واحدة، قال فيها:
إلى التي أحببتها أكثر من نفسي، وأحببت عملي أكثر منها: أُخلي مكاني في الحياة لها بعد أن فشلت أن أحبها بدون العلم الذي بلغْته!!
وهكذا... يبقى "الإنسان" حساساً بالعاطفة.. يفترسه الانفعال، والغضب، وربما الحمق، والعشق، والأنانية، والأحلام العريضة!
ولكن العاطفة غالباً ما كانت سبباً في قتل "الإنسان"، أو على الأقل: في ظلمه... لأن "الإنسان" بدون عاطفة، هو: آلة تتحرك بتوقيت، وبمجموعة من "الزراير"!!
• • •
• هكذا... كانت "العاطفة الإنسانية" فوق العلم، لأنها "الفلتر" الذي يحمي العقل من ترسبات "الأنا" في لحظات تضخمها... ولأنها - في مرحلة متدفقة بأماني الشباب - تصبح: انحداراً إلى جنون الانفعال!
والاتهام المباشر اليوم إلى "إنسان" هذا الجيل: أنه يخطو إلى القسوة، ويسقط في الغضب الانفعالي.. إلى درجة أن الشاب - في مرحلة تخطيه للمراهقة وإقباله على الرجولة في منتصف العشرينات - يشعر بشيء من التعالي على "والده"، لأنه لا يهضم أفكار هذا الأب كلها، ويرفض الكثير من توجيهاته له متهماً إياه بأنه: "دقة قديمة"، أو: لا يتماشى مع روح العصر... أما إذا قسا على أبيه، فإنه يصفه بقوله: هذا أب متسلط!!
وربما زفر الابن من فمه "أفأفات" تعبيراً عن سخطه على أبيه، وتحقيراً لآراء هذا الأب... إذ يشعر الابن في هذه المرحلة: أنه أكثر فهماً لمصلحته من أبيه، وأنه الأكثر وعياً من حصافة أبيه التي اكتسبها بخبرة وتجارب العمر!
إننا جيل عاطفي... لأن الجمال مازال يؤثر فينا، ولأن القبح بمختلف أشكاله ما زال يُكدِّر نفوسنا!
إن الموسيقى: تُهدِّئ أعصابنا.. فصارت تستفزها بصخبها!
إن اللوحة الباهرة: تذكرنا بأشجاننا، وخيالاتنا، وأحلامنا.. فصارت طلاسم!
إن قصيدة الشعر: تجعلنا نُحسن الإصغاء، وانتقاء الأجمل من البوح والصور... فصارت كالأرقام الحسابية، والدرب المليء بالمطبات!
ولو كنا جيلاً أنانياً محضاً.. فسوف ينتهي دور الموسيقى، والشعر، والأغنية، واللوحة... وهذا هو مصدر خوفنا اليوم من تغريب كل هذه الرموز الجمالية!
وإذا انتهت هذه الركائز الإنسانية الجمالية/ العاطفية... انتهى دور "الإنسان"!
إن لحظة صمت وتأمل: تُغيِّر نفسياتنا إلى النقيض لكل هذه الحفريات المؤلمة في وجدان "الإنسان"!
إن "الإنسان" لم يفقد بعد احتياجه الشديد إلى تلك اللحظة...
إنه يناديها في أكثر المواقف قسوة، وضياعاً، وخوفاً من المجهول!!
وبذلك... يفقد شاب هذا الجيل: المميزات الإنسانية الرفيعة في قوام التربية العظيمة التي شذّب الإسلام بها عقولنا وحتى عواطفنا.. حتى يبلغ عنده هذا الفقد: حد ضعفه أمام كبح جماح هوى نفسه!
• • •
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1126  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 469 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج