شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مقدمة
بقلم: الدكتور سمير سرحان
عبد الله الجفري كاتب عربي مرموق، استطاع على مدى العقود الثلاثة الماضية أن يشد انتباه القارئ العربي في كل مكان بفكره المتجدد، وأسلوبه الرشيق، وأن يكتسب احترام هذا القارئ لأنه يحترمه، وأن يحوز ثقته لأنه يثق به، وهو خير مثال للمقولة المعروفة إن الثقافة موقف، فهو كاتب تشي كتاباته بالفكر الناضج المتفتح على عالم اليوم، الواعي بتياراته المتلاطمة، والمدرك لأهمية التكاتف في سبيل رفعة أمته ولغته، وتاريخ أمته ومستقبلها، وهذه هي العناصر الأساسية التي تشكل موقفه الثقافي، أي إنه حين ينظر إلى المستقبل لا ينطلق من فراغ بل من أسس صلبة تقوم على الإيمان بتراث الأمة العربية وكنوز فكرها الدفينة التي ما زالت في حاجة إلى الاستكشاف والاستجلاء.
ويطلق عبد الله الجفري على كتابه عنوان ((المثقف العربي والحلم)) ولكن القارئ بعد أن يسبح في موج الفكر الزاخر في الكتاب يجد أن أفضل عنوان له يجب أن يكون ((دعوة إلى التفكير)) فهو مواجهة صريحة للواقع الثقافي العربي بجميع أبعاده، يتوجه فيها الكاتب إلى القارئ فيطلب منه أن يفكر معه، وأن يفكر له ولنفسه، وقبل ذلك وبعده أن يفكر لأمته ولأجيالها الصاعدة، أي إنه يشرك القارئ معه في همومه الخاصة، حتى تتسع رقعة التفكير، ويكون قد أتى في نهاية المسعى بقارئ ((جديد)) قادر على التفكير، مؤكداً أنه إذا كانت الكتابة ثمرة للفكر، فالقراءة مولدة للفكر أيضاً، ويتجلى ذلك في رصده - مثلاً - لمفارقات القرن العشرين المنصرم، فهو يرصدها في عبارات موجزة تحفز القارئ حفزاً على إعمال ذهنه ومحاولة الإجابة عن الأسئلة المضمرة في هذا الرصد البديع:
((في القرن العشرين - وهذه ثمالته التي ضحلت كثيراً - كان عصر انتشار التعليم، وتقدم الطب.
وكان عصراً حاول الانتصار على الأمراض المستعصية التي اكتشفت فيه! وكان عصر محاربة الفقر بكل الأساليب.. وعصر تكثيف الفقر والمجاعة! وكان عصر التزوّد بالمعرفة في رحاب الإنسانية. وكان عصر ((الإعلام)) الموجه أو المزوّر للحقيقة.
وكان عصر الصعود العلمي، والمتمدين والصناعي.. وهو - في ذات الوقت - عصر السقوط لكثير من المثل والقيم والثوابت في سلوكيات الشعوب!
من الفصل الرابع ((ما هي الثقافة)).
أي إنّ الكاتب هنا لا يسجل ما يرى أو رآه، بل يفكر ليدفع القارئ دفعاً على التفكير، ويتضح للقارئ مدى أصالة هذا المنهج عندما ينتهي من أحد أجزاء هذا الفصل، الذي يستند إلى التحليل العلمي لواقع العالم اليوم، إلى جوهر موقف عبد الله الجفري باعتباره داعية الثقافة الحقيقية. وهو الجوهر الذي يتلخص في مقولته البالغة الدلالة على إيجازها وهي أننا سوف نفشل في مسعانا إذا لم يستطع الإنسان أن يعثر على ((الإنسان)) في أعماقه - أو كما يقول ((أن يعثر كل ((إنسان)) منا على نفسه)).
بهذا يصل عبد الله الجفري إلى الجوهر الإنساني للثقافة، وفي سبيل ذلك ينزع الأقنعة التي يضعها الكثيرون على وجوههم ليستروا الخواء الفكري والثقافي، ويسلط الضوء الباهر عليها، أو فلنقل الضوء أو الأضواء الكاشفة، وهو هنا يضرب أمثلة واقعية مستقاة من الحياة التي يعيشها الجميع، حتى يكشف الزيف وينبذ البهتان.
((حقيقة تقول: إن مجتمع المثقفين منشغل بنفسه، أو بتكثيف الإضاءة على أسماء وتعتيمها ضد أسماء.. فما زالت الشللية تسيطر!
وهذا الإنشغال جر بعض المثقفين أيضاً إلى طرح موضوعات، ولا نقول قضايا.. ليمتد (الإشكال) حولها وعنها، ويستعرض البعض عضلات قراءاته، أو ملاحقته لمدارس الغرب النقدية (البايتة) التي أكل عليها الدهر، وأنف أن يشرب.. وقد شغلونا، مثلما شغلوا مجتمعنا، وأشغلوا صفحات الجرائد (بمطولات) من البحوث المنتمية إلى هذه المدارس والكتب.. دون أن يفهم الكثير - لو قرأوها - شيئاً من مصطلحاتها، وتنظيرها، و.. (إشكالاتها)، لأنها في مضمونها هي: المشكل، أو المشكلة التي تعيق انطلاق الثقافة، وتعرقل دور المثقف نحو مجتمعه!!)). (الفصل نفسه).
وهذا التعليق العميق المؤلم في سخريته يذكرنا بموقف ماثيو أرنولد، الشاعر والناقد الإنجليزي في القرن التاسع عشر من ((مثقفي)) عصره الذين كانوا يرون في الثقافة ترديداً للعبارات اليونانية واللاتينية المرتبطة بتراث بائد وغريب، ودعوته إلى ارتباط الثقافة بالحياة النابضة لا بالغريب الزائف الذي يقصد منه البهرج والإبهار، ومثلما كان أرنولد يعلي من شأن القيم الروحية والنفسية، في مجتمع ينزع إلى المادية. يدعو عبد الله الجفري في فصل (المثقفون إلى أين؟) إلى الاستمساك بالقيم الروحية التي تربط الإنسان بمصيره وجوهر إنسانيته ((فالدين والروح هما الملاذ والشاطئ للنفوس وللعقول القلقة.. في عصر يتسم بالقلق)) كما يقول، ولكنه يختلف عن أرنولد في أنه يرى في هذا الاستمساك بالقيم العليا وسيلة تمكّن المثقف العربي من الانطلاق إلى الإبداع وتجديد الفكر، ولذلك فهو يهاجم بكل ضراوة اتجاه بعض المثقفين إلى المحاكاة العمياء لبعض التيارات الأدبية ((المستوردة)) من عهود فات أوانها في الغرب. ولا تزال بعض الأقلام تتحدث عنها كأنها وليدة العصر الحاضر، ويكشف عبد الله الجفري عن سعة علمه وإحاطته بحقائق هذه التيارات حين يتحدث فيها تحديداً قائلاً:
((قد استغرقنا في مناقشة موجبة أطلقوا عليها: ((الحداثة))! وكأننا.. بذلك نبدو مثل المأخوذين أو المسيرين))!!
إن ((الحداثة)) تخلو من هدف التطوير أو معناه.. فهي لا أكثر من تقهقر إلى مدارس أدبية كاد الزمن أن يطويها.. وقد ظهرت قبل أكثر من سنوات صارت بعيدة، ومنها: البنيوية، أو الألسنية، وتفرعت إلى بنيوية لغوية - ألسنية - وبنيوية ثقافية، وبنيوية نفسية أو سيكلوجية وبنيوية أيديولوجية!!.. (القسم 6 من فصل المثقفون إلى أين؟).
لقد لخص عبد الله الجفري في سطور قليلة إحدى المحن التي تعرض لها المناخ الأدبي في الأعوام الأخيرة، وعبر عنها بإيجاز المبدع الواعي، وقلم الشاعر المرهف، فإذا بالنص ينطق بالحيوية، ويصب في رافد النهر في مجرى الهم الثقافي الذي يؤرق الكاتب العربي في هذه الصفحات!
ويضع عبد الله الجفري يده على مكمن الداء في ((المناخ الثقافي)) حين يميط اللثام عن انفصال الكثيرين من ((المثقفين)) عن قضايا وطنهم العربي الكبير، بسبب انشغالهم ((بموضوعات)) غريبة لا تمس أرضهم ولا تعني أبناء الأمة الكبرى، وأهم مظهر من مظاهر هذا الانفصال هو انعدام ((التحاور)) فهو دليل على ضيق الأفق، وكلل العصر، ويلخص ذلك في القسم 8 من الفصل نفسه قائلاً:
((.. تتجسد المتطلبات ((الانتصارية)) في رحلة الإنسان إلى الغد.. بكل طموحاته وهمومه، وأحلامه، وأمانيه، وجهده، واجتهاداته.. فتصاغ في قلب المسؤولين وتنتصب مهداً وعشقاً للأرض!
وبذلك يعطي الإنسان من أجلها نبضه، ويسفح عرقه، ويرخص دمه.. ويتصاعد بهذا العشق إلى ذروة الإخلاص للتراب، والإخلاص للقيم والمبادئ.
وحينما نلتفت إلى دور الفكر والعلوم والفنون.. لا بد أن نهتم ((بأرضية)) ليس شرطاً أن تكون ممهدة.. بل هي بالغة الوعورة، لتكون هذه ((الأرضية)) تمثيلاً لانبثاقة نطق فكري وإبداعي.. تجعل الحوار عنه مستشرقاً أبعاد المصلحة الوطنية، وتمجيد الشعور الإنساني!)) (القسم 8 من فصل المثقفون إلى أين؟).
وهكذا - مثلما يفعل البناء العظيم أو المهندس المعماري البارع - ينتهي عبد الله الجفري في فصل من أروع فصول الكتاب إلى وضع النقاط على الحروف، فهو يقوم بتحليل الكثير من الأعمال الأدبية العربية بمنهج الناقد المحترف حتى يصل إلى نتيجة العالم المتخصص، وهو يأتي بالنتيجة مستشهداً بأقوال فلاسفة ومؤرخين شهد لهم العالم بالموضوعية وبالحباء مثل ((توينبي)) و ((برتراند راسل)) فيورد المقولة التالية لتوينبي:
((الانطلاقة العربية المقبلة.. لن تأتي من أذهان مفكري العرب وأدبائهم، ولكنها تأتي من معاناة الذين تهدمت فوق رؤوسهم البيوت، وهدمت إسرائيل قراهم، وقتلت أطفالهم ورجالهم.. أولئك هم فلاسفة الحياة في العدم، وظهور الحياة من العدم))!!
ويقول ((كأن ذلك)) يشير إلى الانفصال القائم حالياً بين بعض المثقفين العرب والأرضية الواقعية التي يدعو الكاتب إلى إدراكها والوقوف عليها، كما يدلل به على وعيه التام بمسار التاريخ الذي يطالب كل مثقف عربي بأن يعي تماماً ما قاله ((برتراند راسل)) الذي يبدو - في رأي عبد الله الجفري - مكملاً لمقولة توينبي، وقبل استفحال شراسة العدوان، إذ قال راسل:
لقد انتهى عرض إبداع الكلمة.. لأنه جاء عصر غلو القتل، وسيطلع القرن الواحد والعشرين على البشر، وهم أكثر أمية مما قبل الحضارة والإنجاز العلمي.. لأنه سيكون عصر القوة المدمرة بالتهديد!!
والدافع الذي حدا بعبد الله الجفري على الإتيان بهذين المقتطفين لا يقتصر على السخرية من انفصال الكثير من المثقفين العرب عن الواقع، بل هو يتضمن رسالة إيجابية تتلخص في ضرورة بعث دور المفكر والأديب ((من تحت الركام))، وهو يرى السبيل الناجح في عدم فصل الروح عن العقل، وفي تكامل الإنسان في زمن يهدد بالتقنية والتشتيت، وينادي نداء المهموم بأزمة الكاتب والمثقف في الوطن العربي بأن يهب الجميع للتفكير وأن يشغل الجميع أنفسهم بقضايا الواقع على اختلافها وتباينها، فهذا هو جوهر الثقافة الحقيقية لا ثقافة الفنون والأقنعة!
وليس من الغريب أن يتحول عبد الله الجفري في خضم انشغاله بقضايا الثقافة والمثقفين في الوطن العربي من نبرة إلى نبرة، بل ومن صوت إلى صوت، فهذا يكتب أحياناً بنبرة العالم الذي يسوق الحجج ويقدم التحليلات المنطقية، ويكتب أحياناً أخرى بنبرة الشاعر المرهف الذي ينفعل ويوجز العبارة البليغة التي لا يستطيعها سوى الشعراء وهو يجمع بين النبرتين وبين الصوتين معاً في فقرة من أجمل فقرات الفصل الأول:
إن أخطر ما في هذه الغربة الثقافية، ليس ((المنتج)) أو ((المستهلك)).. لكنه (المنظر) والمتسقط، والذي يطالبك بفصل الروح عن العقل، أو اعتبار العقل وحده هو النموذج، والروح هي ((السلوك السري)) في حياة الإنسان!.
وهذا هو الانفصام.. نجده في واقع السياسة العربية، مثلما نجده في واقع الوجدان العربي!
الغربة: أن لا يستطيع كاتب عربي، في بلد ((ثوري)) أن يكتب عن الحرية، فيصيغ قصيدة شعر.. بغازل ويلعن فيها امرأة!
أصبحت الأنثى - بالرمز - هي الوطن.. لأن الأنثى محرمة عند التعبير عنها، أو تصوير أحاسيسها.. فإما أن تكون ((أماً)) فقط وإما أن لا تكون.. والمرأة العربية قد تخلت عن هذه القناعة، لأنها تحاول أن تحارب.. ولكثرة ما عاملها على أنها ((هجرته)) إلى نفسه، وهي أن تكون عودته إلى نفسه ووطنه!!
الغربة: أننا نحاول العودة إلى طفولتنا.. ونعجز!
الغربة: أن نكتب ما نشعر بأنه صوت الداخل في كل إنسان ويرفض الإنسان صوته! إننا نحتاج إلى ((تنمية)) المشاعر - قبل تنمية الدخل!
نحتاج إلى تنمية ((الأفكار))، ليس بالجامعات وحدها، بل بالقراءة الجالسة المتعمقة وبالوعي الوجداني، وبالثقة في الفكرة التي نطرحها، ثم ندافع عنها بإيمان.. قبل أن نستخدمها لغرض!
لقد تثقفت عقولنا.. وسقطت وجداناتنا في ((أمية)) قاسية!
وهي أشد آلام الغربة!!
إن القضاء على ((الغربة)) هو حلم عبد الله الجفري، وهو الحلم الذي وضعه في عنوان كتابه، ولكن الكتاب أبعد ما يكون من تهاويم الأحلام، فهو ينفذ إلى أعماق الواقع ويحلل ويناقش، وهو ((دراسة)) بالمعنى العلمي للواقع الثقافي، وأما الحلم فهو الأمنية التي تدفع كل مثقف إلى التفكير، وإذا كان القارئ لن يخرج من ذلك كله إلا بطاقة جديدة على التفكير في ضوء التحليلات والمناقشات، فذلك هو ما يرجوه الكاتب ويطمح إليه، إذ إن ذلك يؤكد قيام الحوار المبدع الذي يسعى إليه عبد الله الجفري، وهو الكفيل برأب الصدع وإنهاء الانفصام، ووضع حد نهائي للعزلة.. فهل هذا حلم؟
د. سمير سرحان
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1272  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 458 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج