شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كل وجه... كان حزني!
صعدت.. هبطت.. فعلت عكس ذلك..
الذي نفعله لا نحس به في اللحظة ذاتها.
نحن نبالغ في الانفعال ونتأكسد في الإحساس!
الأهم في نتائج الأفعال: أن تتمخض رؤية واضحة!
من أجل الأهم - وبحثاً عن الرؤية - نحن فعلنا ذلك طيلة سنوات:
صعدنا.. هبطنا، ولم نقدر أن نفعل العكس!
سنوات ثقيلة مرت. العيون لا تقول سوى الحزن. لا تعطي المجيء أبداً.
تحولت دروب التاريخ إلى حجارة نسيان!
تلونت صدور البشر، وتحولت إلى بيادر من بور.
إنه الحزن العربي الكظيم!
كان الخوف منا علينا... خوف من انسجام أحجام المعاناة مع اليأس الصارخ!
كان الخوف على التاريخ من خلال الأرض المسلوبة والحرية المكبلة والحنين المفجوع!!
في لحظات الخوف.. يتحول الحب إلى أكفان!
ولقد خطط أعداؤنا لذلك: أن يزرعوا الخوف في صدورنا.. ليقتلوا الحب، ويوارونه داخل أكفان اليأس والذلة!
يتولد الخوف في الضعف.. استضعفونا فأولموا ليأكلونا.. يأكلوا أرضنا، وعقيدتنا وتاريخنا وحوافزنا، ونضارة وجداننا.
كانت الأصداء ترتفع مرددة: يا حبيبي.. أيها الوطن!
هل كان الحبيب غائباً.. أم أن الحب هو الذي غاب؟!!
وما هو الوطن: الحبيب أم الحب؟!!
الخوف لا يتمثل في غياب الحبيب.. فما دام ((حبيباً)) فلا بد أن يعود..
الخوف كله أن يغيب الحب، فتفري الأحقاد أكباد البشر، وتضيع هوية الحبيب والمحب!
كنا في زمان.. ولا نملك الزمان!!
كان الزمان يأخذنا منا ولا يعطينا. في امتداد ظله فقدنا مساحات جديدة من الأرض، ومساحات غالية من الثقة داخل صدورنا.
_ (كفي عن الذهول يا امرأة)!!
زجرة الصوت الأجش.. من حنجرة رجل ترك سلاحه فوق سيناء، وفوق الجولان وعاد كسيحاً تجرجره هزيمة حزيران الأسود!
_ (إبعد نظراتك عن وجهي أيها الطفل)!
وجاء الأب المخذول، وهو يهم بمداعبة طفله.. فيشعر بالشلل في وجدانه، فقد كان كل أب.. كل رجل، مصاباً بالشلل في عواطفه ومداركه بعد التقهقر الذي كان على الأرض المسلوبة!!
من يعيد ذلك التاريخ الغابر!!
من يوقف أصداء حوافر الخيل.. يوم كان أجدادنا وآباؤنا يصولون ويجولون في ساحات الحرب.. يرفعون راية الإسلام والعروبة فوق أعراف الخيول؟!
من عيوبنا - ذات فترة - أننا جلسنا نسترجع أمجادنا الغابرة، والحاضر متوسط في الوقوف العاجز.. في الهزيمة المهينة!
من يعلم أيامنا التي نحياها كيف تتعود على اليقظة؟!
لا بد من معجزة..
لا بد من تحرر يشيل الخوف من الصدور، والهلع من العيون، وتجار السياسة والزعامة من الصفوف!
* * *
بعد هزيمة حزيران.. تلفت تاريخي كله، رأيت العصور المشهودة.. رأيت الوجوه، فكان كل وجه حزني!!
بعد إجتياح الجنوب اللبناني، ثم بيروت، ومجزرة ((صبرا وشاتيلا)):
الكآبة تسلقت صدور الرجال، ومداركهم!!
الحزن يتكثف.. يمزق الليالي.. يعصر النجوم آهات ودموعاً!!
الأرض.. من يصلح لها؟!
الأمسيات.. من يغنيها فيبعثها بالأناشيد؟!
كانت الإذاعات تردد أغاني الحب المستباح والنازف والرديء!!
الكلمات.. كانت حبلى بالقرف وبالفراق!!
الليلة الحزينة بعد هزيمة حزيران، وخرس المدافع، كان النضال آنذاك يتفتت تحت رحى التمزق!! كل وجه.. كان حزني.. لأنه كان جرحي، وهزيمتي ودمي، وأسئلتي المضرجة بالفجيعة!!
كنا لا نقدر أن نفعل شيئاً.. بعد أن فعلوا بنا كل شيء!
ومرة أخرى.. تلفت تاريخي المقهور نحو أول سفير إسرائيلي يجعل وسادته ظلم الإنسان العربي، وينام قريراً في داخل البيت العربي بعد أن ذبح له عربي من مصر كل الخرفان، وأولم له فرحاً بتثبيت القدس عاصمة إسرائيل للأبد!!
ولم تتبق كآبْة - بعد هذا - في صدور الرجال..
ذلك أن الصدور العربية ملأها الملح!
* * *
يا حبيبي.. أيها الوطن.. أيها الحب العربي: الهتاف الضائع في بيداء الفقد والغياب والألم.. والنداء الذي فقد حنجرته. وتاه عن طريق رجوعه.. الوطن، والعقيدة والشجاعة وانتظار السنين الطوال ترقباً ليوم التحرير واستعادة كل الأراضي المسلوبة!
أبلغ من الحب.. كان الإيمان..
النداء الذي تجدد.. ينطلق.. يتضخم.. يرتفع: يا رب!!
أين كنا.. لماذا فرطنا في الإيمان كل هذه السنين؟!
من يسكن الأمان بعد اليوم في صدورنا الملتاعة القلقة؟!
الإيمان يعيد الأمان!!
كانت الدوامة تلف النضال، والصدق، والشجاعة، والمقدرة.
دوامة التمزق، والتفتت، والتناحر، والتنابذ، وازدهار الشتائم، فتفرق العالم العربي شيعاً، ومبادئ غريبة ومستوردة، وشعارات كلامية.. تستفز الحقيقة ولا تقوى على الحياة!!
الأمان.. كيف يعود؟!
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ
النداء، الهاتف، الأمان.. الإيمان مطلب لاسترجاع جوهرنا.. لتحويل الهزيمة إلى نصر.. لهزيمة الهزيمة!!
* * *
ـ سألوا الجندي المتقهقر من أرض المعركة: ما الذي هزمكم؟!
ـ قال: الفرقة. الارتجال. الصعود والهبوط في المساحات المفرغة من كل شيء!
ـ سألوا الأرض المسلوبة: ما الذي أضاعك؟!
ـ قالت: نسوني حينما كانوا يتذكرون أمجادهم الذاتية!!
ـ كل وجه.. كان حزني!!
على الوجوه.. تطوح الزمن وأنكفأ.
على الوجوه.. تآكل الحب وتسوس..
على الوجوه.. فقدان رهيب يفتش عن اليقين.. عن الحقيقة.. عن الإيمان!!
الإيمان يعيد الأمان!!
ولم يكن ((التوقيت)) سهلاً في اختياره، الاختيار كان حينما عاد الإيمان. الانطلاق كان حينما حررنا نفوسنا من الخوف واليأس. اللحظة الخطيرة التي بدلت المواقف كلها فصنعت موقفاً.. كانت لحظة الشعور بتغلغل الإيمان، وأن لا بديل له!!
ـ في يوم العاشر من رمضان.. ولد تاريخ جديد..
سوف تصدقون هذه العبارة التي أكتبها بدموعي. قلتها وقدماي ثابتتان - ذات يوم - فوق أرض سيناء.. وحدقتا عيني تحولتا إلى ((ألبوم)) يجمع صور الدبابات المحترقة المتناثرة التي خلفها العدو وراءه. كانت حشوده هائلة وكانت عزائم الرجال الذين تدفقوا لتحرير الأرض أكثر هيولة ونفاذاً.
ـ قال لي أحد الجنود فوق خط بارليف المنهار: صدقني.. آمن بربك لقد كنت.. أحارب وأحس أن بجانبي مجموعة من السواعد المحاربة.. لا أراها ولكنني أشعر بها.. أرى فعاليتها في عيوني كأنهم جند الله من الملائكة يحاربون معي.
ـ وسألته: ما هو تفسير ذلك؟!
ـ قال: الله نصرنا.. هو الذي أعاننا وثبت أقدامنا. كانت معداتهم بلا حصر وحشودهم بلا عدد، ولكن في صدورنا إيمان وتسابق إلى الشهادة. لقد انطلقت نحو الموت وأنا أضمن الحياة حتى لو تحقق استشهادي. شعرت أن الموقف قد تغير. إنني اقتحمت ميدان القتال لأحارب من أجل استعادة الأرض. وليس من أجل المناورة!!
وبعد العاشر من رمضان.
(يحتفلون به اليوم في أكتوبر)!
بعده فراغ كبير..
وتفريغ أكبر!!
* * *
ـ صعدت.. صعدت. لا أقبل أن أهبط بعد ذلك!!
كل وجه كان حزني.. ما زال!
وأتطلع إلى الوجوه اليوم.. كل وجه يصبح هو أغنيتي!
تغلبنا على الهزيمة.. فأعدنا إلى وجوهنا بشرها. وعشقها للحياة!! أية مجزرة تتخثر الآن في الصدور؟!
الحياة رصاص. وأزمات اقتصادية وأخلاقية واجتماعية. الحياة لم تعد ملكاً للإنسان.. كل ما يملكه الإنسان هو الموت..
الموت في المسافة الأقصر!!
* * *
ـ يا حبيبي:
أيها الانتصار: يوم افترقنا كان يوم غياب الحبيب. وما دام ((حبيبنا)) فلا بد أن يعود ولكن الحب لم يغب أبداً، فمتى تعود أيها الانتصار.. لتعمر قلوبنا من جديد بالأمل؟!
يغيب الحبيب.. ولكن الحب لن يغيب!!
تلك هي الذكرى الأولى للعاشر من رمضان.. وأيضاً لدخول سفير إسرائيل إلى مصر!
وقوفاً نحن.. نترقب الذكرى الجديدة لعودة الحبيب.. لميلاد نصر جديد.. يصنع التحرير الكامل لكل ما ضاع وسرقوه!!
وقوفاً نحن.. لن نسقط أبداً!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1806  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 367 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.