شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفارس الأول
* هرول ((خالد)) إلى الطبيب بعد أن ناداه.. يسأله بلهفة وقلق:
ـ طمنِّي يا دكتور.. صحة زوجتي أهم!
وضع الطيب يده على كتف ((خالد)) وشدَّه إليه مبتسماً، يقول:
ـ مبروك.. جالك ولد، طبعة 83 .. وهو من الآن مستعد لارتياد الفضاء!
ولم ينتظر نكتة باردة أخرى من الطبيب.. بل انطلق إلى الغرفة التي أُعدَّت لزوجته.. ورآهم يحملونها إلى سريرها، وهي تبدو منهكة، خائرة القوى.. تردد كلمات غير واضحة من تأثير العملية والولادة!
أمسك بيدها متلهفاً، وأخذ يمسح عليها بكفه:
ـ إلهام.. حبيبتي.. الحمد لله على السلامة.. أجمل ولد لأنه منك!
لكن زوجته تعبت كثيراً من هذه التجربة الأولى والصعبة، ومازالت في إغماءتها.. بينما أخذت الغرفة تمتلئ بأفراد الأسرتين، وبالأطفال.. شيء يموج داخل الغرفة الصغيرة وحول السرير، و ((خالد)) لا يعرف ماذا يصنع في هذه التصرفات التي تضر بزوجته.
ودخلت الممرضة تنقذه، وهي ترفع حاجباً، وتردِّد كلمات غير مفهومة لرواد الغرفة، ثم التفتت إلى ((خالد)) تحادثه غاضبة:
ـ المريضة تحتاج إلى هدوء.. ماهذا الصخب؟!
ـ أجابها: معليش.. إنهم يفرحون بطريقتهم، وأنا محرج!
ـ قالت: ولكنها مسؤوليتي.. ولا بد أن تخرج هؤلاء جميعاً، قبل أن أضطر إلى إخراجهم عنوة!!
ـ قالت أمه وقد فهمت من حركة الجدل بينهما: مسكينة، لا بد أنها لم تجرِّب فرحة الولادة.. ((كبَّة)) عليها!
ـ قالت الممرضة: أخرج هؤلاء، وتعال معي لترى ابنك من وراء الزجاج.. لأنه مازال في الصندوق الطبي.. فهو بعد ضعيف ويحتاج إلى عناية مركزة.. إذ يبدو أن أمه لم تكن تتغذى جيداً!...
* * *
وقف ((خالد)) أمام الصندوق الزجاجي الطبي.. يحدِّق في وجه طفله، وجسده الضعيف.. يريد أن يحمله إلى صدره، وفي أحضانه، وعلى ساعديه.. يريد أن يطبع على خده أول قبلة حنان. أخبروه أن هذا المطلب هو من الممنوعات الآن، حتى على أم الطفل.. عليهما أن ينتظرا حتى يكمل الطفل استعداده الجسمي لمواجهة المؤثرات خارج هذا الصندوق الطبي بعد غد، وعاد إلى غرفة زوجته..
كانت قد أفاقت قليلاً من غيبوبتها، وتعاني آلاماً تتأوه بسببها، والطبيب يفحصها، ويطمئن ((خالد)) بأن الأمر طبيعي بسبب فتح البطن، وستنتهي الآلام! لكن ((إلهام)) تريد رؤية ابنها.. كانت تردد:
ـ أين ابني.. أريد أن أراه؟!
سمعت أمها إلحاح ابنتها، فدخلت إلى الغرفة تهدئ من انفعال ابنتها:
ـ غداً يا حبيبتي سيحملونه إليك.. إنه بخير، مثل القمر.. مثل التفاحة ما شاء الله.
ـ قالت أم خالد: ((أنا عارفة زمان إيه ده؟.. كنا نلد في بيوتنا، والطفل ينزل كدة ((مرَبْرَبْ)) وفي صحة جيدة، وكنا بعد الولادة بساعة نقوم نخدم بيوتنا.. إلا الزمن هادا، الطفل ينزل زي العصاية مريض، والأم ما تقدر تجلس، وقال إيه: الطب متقدم))!
ـ قال لها خالد: الطب ليس له دخل.. لكن الناس اتغيروا يا أمي، وطريقة الحياة، والأكل.. أفهمك كيف؟ هذا موضوع يحتاج إلى شرح.
ـ قالت أمه: ولا تفهمني ولا حاجة.. الجيل واضح من عنوانه
ـ قالت إلهام بإصرارها: أريد إبني.. إبني يا ناس.
ـ قالت أمها: بخير.. راح تشوفيه، وتعرفي من الآن قيمة الضنا، وحب الأم!
وضع ((خالد)) يده على كتف حماته، وقال لكل من في الغرفة:
ـ أنتم الكبار خيرنا وبركتنا، والآن.. لا بد نطلع من الغرفة، إلهام بخير وسأكون أنا بجانبها، فلا تقلقوا!
ـ قالت أمها: أنت! إيه يا ابني، أنا أمها، وأنا اللي لازم أجلس معاها.
وانتصرت أم إلهام.. أمضت الليلة الأولى بجانب ابنتها.. بينما أخذ ((خالد)) كل أفراد الأسرة إلى ((الشقة)).. لكنه لم ينم تلك الليلة، فرحة بالطفل، ورغبة منه في الاطمئنان عليه وعلى زوجته إلهام.. ورغم أن البيت كان يمتلئ بالضيوف من الأسرتين.. إلا أن الوحشة كانت تسود في نفسه، وفي أرجاء البيت لغياب ((إلهام))!
* * *
وانتهت أيام الرعاية في المستشفى..
وحل موعد ((السبوع)).. فأضيئت الشموع في ((الشقة)) الصغيرة، وامتد الزحام إلى ((شقة)) الجيران التي استعاروها للاحتفال بهذه المناسبة!
كان ((خالد)) ينظر إلى مجموعات الأطفال التي تحمل الشموع، وتغني للمولود الجديد:
ـ ((يا رب يا رحماني.. بارك لنا في الغلام))!
وكانت الفرحة تفجِّر في صدر ((خالد)) أعمق عاطفة، والدمعة التي تجول في عينيه نقية.. تلمع، فكأن في لمعانها صوت الزغاريد.
وحينما أقفل باب ((الشقة)).. بعد توديع آخر ضيف من الأسرة.. استلقى ((خالد)) على سريره، وأغمض عينيه يحلم في اليقظة بأمانٍ جميلة لهذا الفارس الجديد الذي جاء إلى دنياه.. هو الرقم الأول الذي سيحمل اسمه ولقب عائلته.
وأخذ يسترجع الأيام القليلة التي مضت..
كانت فرحته أكبر عندما أذن الطيب بإخراج الطفل من الصندوق الزجاجي الطبي في وقت قصير، وقال له:
ـ إن ابنك في صحة جيدة.. لقد وضعناه في الصندوق للتأكد، وللحرص.. إن صحته الآن مكتملة، ولكنه بجانب ذلك يحتاج إلى رعاية، فلا بد أن أراه مرة في الشهر!
وعندما ضمته أمه إلى صدرها.. سألها:
ـ ما هو الاسم الذي تقترحينه؟
ـ قالت: أمي اقترحت أن نسميه باسم أبي!
ـ قال: وأمي اقترحت اسم أبي.. ولكن علينا أن نفكر في اسم جديد معاً، ونخرج من هذا الإحراج.. فما رأيك لو جعلنا اسمه: فارس؟!
ـ قالت: اسم جميل، ولكن.....
ـ قاطعها: ((ولكن إيه))؟!
ضحكت مقهقهة، ثم قالت:
ـ أبداً.. إنما جدتي والدة أمي كانت تحب القطط كثيراً، وكان لديها قط تركي ناعم الفروة.. أطلقت عليه اسم ((فارس))!
ـ قال: وبعدين؟!
ـ قالت: أمي حكت لي ذلك.. ولكن الاسم جميل.
ـ قال: ولو.. سيكون قطاً متباهياً، والناس تطلق الأسماء الجميلة على الحيوانات الأليفة التي تحبها، والإنسان يا حبيبتي حيوان ناطق.. وسيصبح فارساً.. في أخلاقه، وفي علمه وسلوكه.
ـ قالت متردِّدة: لكن.... تصور يا خالد، لو أن أمي اعترضت؟!
ـ قال بانفعال لم يكتمه: وبعدين؟ هذا إبننا، ونحن أحرار، والا يكون قصدك أن القط أغلى عند أمك، فلا تريد أن يشاركه إنسان في اسمه؟!
ـ قالت: خالد.. بدأنا نلبِّخ؟!
ـ قال: ما هو الكلام بالشكل دا.. معجون ومخربش!
ـ قالت: خلاص يا حبيبي لا تزعل.. فارس يا أبو فارس!
* * *
لقد دبت حركة الحياة الحقيقية في هذا العش الصغير، وتمنَّى ((خالد)) لو حصل على إجازة من عمله لعدة شهور حتى يضمن البقاء بجانب فرحة عمره: ابنه فارس!
وقالت له إلهام ضاحكة:
ـ ((طلبك غريب.. طيّب إحنا، اللّي هُوَّ إحنا يا ستات، يعني الأمهات لا نستحق إجازة من العمل في مثل هذه الظروف إلا لمدة شهرين فقط، بما فيها أيام الولادة))!
لكن ((خالد)) يشعر أنه لا يطيق البعاد عن ابنه.. فكان يفتعل الأعذار في عمله ليرجع. إلى البيت، ويجلس أمام ((فارس)) يناغيه، ويضعه تارة على حجره ويتكلم معه.. يسأله ويجيب عنه!
وتبدو ((إلهام)) سعيدة بهذا الحنو المتدفِّق.. وهي تقول مازحة ولامزة:
ـ إن شاء الله يدوم هذا الحنان حتى الطفل الثالث، ولا تتغير يا خالد!
وفكرت أن تستغل هذا الحب.. فكانت تطلب من زوجها أن يساعدها في خدمة طفلهما. و((خالد)) يفعل راضياً.. فهو المغتبط بهذا الوافد الجديد الذي سيكون سنداً له في شيخوخته، وسيكون فخراً له في تفوقه.
واكتشف ((خالد)) أنه يقوم بدور أم ثانية، فمرة يبدل ((حفاضة)) فارس بعد أن يبلِّلها، ومرة يشارك في تبديل ملابس ((فارس)) ويضع له البودرة، ويجهز له الرضاعة!
كان يختلف مع ((إلهام)) في مسألة الرضاعة.. فهو يريد منها أن ترضع الطفل من ثديها، وهي تصر أن تغذي طفلها بالرضّاعة لتحافظ على نضارة صدرها!
و((خالد)) يؤكد لها أن أحسن غذاء للطفل هو ما كان من ثدي الأم، ولكنها تعارضه حيناً، وتدعي في حين آخر أن الثدي لا يستجيب!
ويبدو الأب رغم ذلك سعيداً بهذا العمل الإضافي في البيت.. ويحبو هو إلى طفله، ويقترب بوجهه منه، ويتكئ أمامه على مرفقيه، ويبتسم لطفله ويغنِّي له ويلاعبه.. وأتعس لحظات يومه عندما يبكي ((فارس)) فلم يكن يطيق أن يسمع بكاءه.. وتقول له زوجته:
ـ ولكن البكاء ضروري للطفل.. دعه يبكي قليلاً، فهذه طبيعة الطفل في هذه المرحلة، إذا لم يبكِ يكون طفلاً غير عادي.
ـ لا تقولي هذا لئلا أتهمك بالقسوة.. كيف يبكي.. ها؟
ـ ولكنه لا بد أن يبكي، وعندما يكبر سيبكي أكثر.. الله يعينه على زمنه، خلِّيه يتمرن!
ـ يتمرن إيه أيتها الأم الفيلسوفة؟.. فمادام هو يتمتع بوجود أمه وأبيه بجانبه.. إذن ما الذي سيفعله الأطفال الذين يفقدون الأم أو الأب أو الأرض؟!.. قولي الحمد لله يا بنت الناس!
ـ الحمد لله على كل حال.. ولكنك تحاول أن تغير طبيعة الأشياء.
ـ طبيعة الأشياء.. ها؟.. بدأنا الفلسفة، ويمكن تقولي بعض ما قرأتيه عن البكاء عند الإنسان.. أعرف ذلك، فالإنسان يولد في اللحظة الأولى بصرخة، فهو يبكي لأنه جاء إلى الحياة، ويموت الإنسان فيبكي الناس عليه لأنه ودَّع الحياة.. كأن الحياة لا أكثر من دمعة!
ما هذا.. ليه الغم.. ليه ما نضحك؟!
ـ نضحك يا حبيبي.. إنما لازم نبكي أيضاً!
ـ استمري.. ماذا تقصدين أيضاً؟!
ـ ولا حاجة.. هل نختلف من أجل دمعة؟.. خلاص.. اضحك يا شارلي شابلن!
ـ سأضحك من أجل هذا الطفل، وكل طفل... من أجل المستقبل.
ـ تصفيق... ثم ماذا؟!
ـ لا شيء.. من الأفضل أن ننام قبل أن يصحو ((فارس))!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2144  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 65 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج