شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الريَاضَة والهَدَف (1)
حسناً فعل نادي الوحدة الرياضي حين افتتح موسمه الثقافي في موسم من أكرم مواسم الرياضة هو شهر رمضان.
وأحب أن أسجل للأندية الرياضية في بلادنا فضل السبق إلى هذا الاتجاه في حدود ما أعلم - وعلى الأخص في البلاد العربية الشقيقة (2) .
وإذا كان للبلاد الأخرى ما تظن أنديتها الرياضية فيه الغنى عن مثل هذا الاتجاه داخل جدرانها من وجود ندوات ثقافية وعلمية واجتماعية وسياسية فإن ذلك لا يكون كافياً -من وجهة نظري- لأن من رواد الأندية الرياضية من لا يكون من رواد الأندية الأخرى حتى على وجود علاقة له بها. هذا إلى أن تيسير المواصلة أدعى إلى الاستجابة، فإقامة موسم ثقافي داخل النادي الذي اعتاد إنسان أن يقضي فيه كثيراً من وقته أو بعضه أدعى إلى مشاركته في ذلك من وجوده في أندية أخرى يحتاج في حضوره إليها إلى سبق نية وعمد.
ونحن -هنا- أحوج إلى هذا الاتجاه لهذه الأسباب ولعدم توافر عذرهم عندنا.كما أسجل لنادي الوحدة أن كان له فضل السبق إليه من بين أنديتنا الرياضية التي استجابت لهذا الاتجاه خير استجابة.
ولعل في طبيعة أخي الأستاذ الكبير عبد الله عريف كأديب ممتاز ما جعل الأدب والثقافة يدخلان إلى النادي في ركابه.
وبعد كل هذا فلعل في الظروف المواكبة من هذه النهضة الشاملة التي تعم مرافق بلادنا ما ساعد على هذا الاتجاه الخيِّر بل إني أعلم أن الرئاسة العامة لرعاية الشباب قد أصبحت تثيب عليه.
ولأتحدث عن "الرياضة.. والهدف" أحب أن أقدِّم بين يدي البحث نبذة تاريخية عن الرياضة عبر الأجيال الإنسانية.
وليس هذا استعراضاً للتاريخ فحسب وإلا كان خارج حدود الموضوع، ولكن استخلاصاً لعبرتين:
إحداهما عابرة: وهي ليتطامن أهل القرن العشرين حين يعرفون أو يتذكر العارفون منهم أنهم قد سُبقوا إلى ما يظنون أنه حصيلة ونتاج تقدمهم وحضارتهم.
وثانيتها - وهي غرض الاستدلال بالتاريخ هنا: إثبات أنه حين تكون المفاهيم سليمة والأهداف كريمة تزدهر الرياضة وتؤتى ثمارها الخيِّرة من نمو الجسم والعقل والروح، وحين تنحرف المفاهيم وتضطرب الأهداف ومن ثَمّ تختلط الوسائل تصبح الرياضة عملاً جسدياً فارغاً من العبوة المعنوية أقرب ما يكون إلى الأعمال البربرية كما سمى المؤرخون بعض فتراتها وتكون ضياعاً لجهد وتعطيلاً لقوى. ومهما حاول الإنسان أن ينمي جسده فلن يغالب الأسد والفيل في ذلك ولكنه بنمو عقله يعتقل الأسد ويركب الفيل ويجعل من الأول ملهاة ويسخِّر الثاني. وبنمو روحه يحسن استغلال ذلك. فالعمل - أي عمل كان من أعمال الإنسان أشبه بشجرة ريُّها من عصارة روحه وعقله يخصبان ويرويان فتخصب وتثمر ويجدبان فتجدب وتصوِّح.
فقبل أن يخطط الإنسان لنفسه وقبل أن يتخذ الرياضة عامداً فقد زاولها بفطرته بطبيعة حياته وعمله وباعتبارها وسيلة عيشه. صياداً ومزارعاً وراعي غنم. مارس وسائل الرياضة من وثب وقفز وجري وشد وسباحة. كما يمارسها على هذا النحو بعض ذوي الأعمال المشابهة إلى هذا اليوم.
وحين تدرج الإنسان إلى الأعمال التي اقتضت وجوده داخل جدران منزله أو معمله.. وكلما تقدمت به الحضارة والمدنية وجد نفسه داخل الجدران.. ووجد نفسه محروماً من التمتع بالشمس والهواء الطلق وحرية التحرك في جو صحي.. وجد حاجته إلى تعويض الرياضة الفطرية التي كان يزاولها برياضة علمانية.
وكلما استعمل الآلة في عمله كلما زادت حاجته إلى الرياضة العلمانية يُعوِّض بها جسمه عن نقص الحركة ويملأ فراغه من الوقت. فينشئ الأندية ويتجمهر فيها الناس.
ولذلك كانت الشعوب ذات الحضارة أسبق الشعوب إلى "الرياضة" بمعناها الفني. فنجد الفراعنة والإغريق والرومان والسميريين في العراق والصينيين والهنود واليابان ذوي سبق باهر في هذا الميدان.
وشاهداً على ذلك نجد على جدران سقارة وبني حسن نقوشاً تدل على عناية قدماء المصريين بأنواع الرياضة من صيد ومصارعة ورقص وسباحة وتجديف. وليس أدل على احتفائهم بهذه الرياضات من تسجيلها بهذا الخط الذي كانوا يسجلون به أعز نواحي حياتهم وأعظم مفاخرهم.
والمصارعة الحرة التي يعتقد أنها بدأت سلاحاً للإنسان في مواجهة الحيوانات الموحشة والتي تدلُّ طبيعتها (القائمة على المسك أولاً ثم الرمي بالممسوك إلى الأرض) على ذلك وجدت لوحتان بالقرب من بغداد عليهما صور رجلين يتصارعان وذلك من عصر السميريين الذين عاشوا هناك منذ خمسة آلاف سنة. وكذلك دلت تماثيل الفراعنة -كما قلت- على معرفتهم لها وعرفها اليابانيون قبل المسيح بخمسة وعشرين عاماً وعرفها الإغريق من قبل. كما اهتم اليابانيون وقدماء الصينيين والهنود بالتدريب البدني باعتباره وسيلة إعداد للحرب ووسيلة وقاية من المرض وعلاج له.
وعرف الإغريق في ما عرفوا من فنون الرياضة -الملاكمة وسباق العربات وسباق ركوب الخيل وما زال من أنواع المصارعة ما يسمى غريكو- رومان اعترافاً بسبق الإغريق والرومان إليه. وكذلك اللعب الذي هو بعض ألوان الرياضة -والذي كان وما يزال جزءاً من فطرة الإنسان منذ وجد- منه ما هو قديم قدم التاريخ ككرة القدم التي دلت آثار الفراعنة على معرفتهم لها والتي مارستها الجيوش الصينية والرومانية جزء من التدريب العسكري عام خمسمائة قبل الميلاد وعنهما أخذها الإنجليز من آثار الاستعمار الروماني.
وكذلك لعبة الهوكي التي عرفها اليونان والهنود والإيرلنديون.
ولا أريد أن أدخل في مزيد من التفصيل التاريخي وما نشأ بعد ذلك من رياضات وألعاب عريقة التاريخ أيضاً فقد ظل الإنسان يخترع ويجدّد في هذا الجانب من الحياة شأنه في كل جانب من حياته ولكني تعمدت ذكر التاريخ البعيد الممعن في القدم وفي الحضارات البالية.
كما ليس من شأن حديثي هذا الدخول في شؤون فنية عن الرياضة والألعاب.
ولكني أريد أن آخذ من التاريخ عبرته التي حددتها في مقدمة البحث. وذلك مما حفظ من صور عن تجربتين وأتانا بكثير من التفاصيل عنهما ولم يواتنا بمثلها في تجارب الشعوب الأخرى. هاتان التجربتان من تاريخ الإغريق وتاريخ الرومان.
يحدثنا التاريخ أن الإغريق قد عنوا بالرياضة (الألعاب الأولمبية وفن الجمباز على الأخص) واعتبروها القسم الثالث في تكوين الثقافة والمجتمع الراقي بعد الآداب والموسيقى ووضعوا برامج شاملة لتقوية النشء واتخذوا الرياضة والفنون وسيلة ترقية المجتمع فجعلوا التربية البدنية مادة علمية تطبيقية وأقاموا الأندية الفخمة الواسعة فكان النادي يؤلف مربعاً محيطه ثلاثمائة وسبعون متراً أي ما يقرب من مائة متر طول كل جدار من جدران المربع. ويحتوي النادي على أروقة أربعة، ثلاثة منها ذات مقاعد بكراسٍ مخصصة للعلماء والفلاسفة وطلبة العلم والقراءة والمناظرة.
أما الرواق الرابع فيؤلف خمسة أجنحة: الجناح الأوسط والأفسح ملعب عن يمينه جناح للملابس والحمام وبجانبه جناح كانوا يدهنون فيه أجسادهم عند التدريب واللعب، وجناحان آخران يعرف المؤرخون اسميهما ولا يعرفون لماذا هما. ولست أذكر الأسماء بعداً عن التنطع بألفاظ لا تزيد في مفهومنا للوضع شيئاً. وكان يسمح للفتيات في بعض المدن بالمشاركة. وفي بعضها تقام أندية خاصة بهن. وكان للرياضة عندهم -على أساس تأليههم الخرافيّ لما يقدسون من أفكارهم أو يعظمون من شؤونهم- إله اسمه هُرْمُس. كما تغنّى شاعرهم الأكبر الذي أرّخ مفاخر الإغريق- هوميروس بأوصاف مباريات اللكم في شعره. وخصصوا للرياضة أياماً تكون عيداً بين أعيادهم الدينية والقومية حتى ورثت الأمم من بعدهم لهذا الذي نعرفه اليوم بنظام الأعياد الأولمبية والذي دخل تاريخ السنين في أحداث العالم وأصبح تاريخ الألعاب الأولمبية في 18 تموز 776 ق.م إلى جانب تاريخ تأسيس روما والتاريخ اليوناني أو السلوقي والتاريخ الميلادي والتاريخ القبطي والتاريخ الهجري. هذه الأعياد التي تقام عندهم مرة كل أربع سنوات. ويؤمها الآلاف العديدة من أنحاء البلاد فتقام ساحات الرياضة الفسيحة في أواسط المدينة وتنتشر الرسل إلى كافة البلاد تبشر بموعد العيد وتدعو الناس إلى شهوده. ويروض المشتركون في المباريات أجسامهم بتدريبات عنيفة لمدة شهر على الأقل قبل افتتاح الموسم ثم يقسمون أنهم درَّبوا أجسامهم تدريباً يليق بالعيد وأنهم سيبذلون جهدهم للنصر بالطرق الشريفة المشروعة.
وهنا ألفت النظر إلى هذا المعنى الرائع والقسم الجميل الذي سيكون ركيزة من ركائز البحث فيما بعد.
وكان الأبطال الفائزون في هذه المباريات يقابلون بالتكريم ويُمنحون الجوائز وتُحلّى رؤوسهم بتيجان من أغصان الزيتون وتترامى الورود والرياحين عليهم وبين أيديهم. وبلغ من شغف الإغريق بالبطولة أن أقاموا التماثيل لأبطال الرياضة، وكان ذلك من أهمِّ هوايات المثاليين فيهم.
ولكن -وهنا لفتة أخرى تلمس مدار البحث- تحدّث المؤرخون فقالوا إنه لم يكن يحظى بهذا الشرف والاشتراك في المسابقات إلا من ثبتت كفاءته وصلاحيته وغَلَوْا في ذلك فقالوا واشترطوا في هذا الذي يحظى بهذا الشرف وهو الاشتراك في المسابقات نقاء دمه من الدنس وذاته من ارتكاب الخطيئة بل لا يسمح بالاشتراك في المعسكر المقدّس عندهم الذي يستعد الأفراد فيه ليوم العيد الأكبر، إلا لمن أثبت توفر هذه الصفات والشروط فيه.
وتعليقي على هذه الشروط المبالغ فيها أنه إن لم يكن التمسك بها كان حقيقة كاملة فالشعور بها وتسجيلها في مواد النظام أمر يدل على بعد النظر وعمق الإحساس بالفضيلة والجمال.
ولست بعد ذلك بصدد ترتيبات العيد وأيامه وما كان يجري فيها أو في كل منها ولكن أكتفي بهذا القدر من الإشارة إلى المعاني الكريمة التي شغلت نفوسهم نحو الرياضة.
ويقول المؤرخون إن الإغريق قد قصدوا من الرياضة ومن كل هذه الرعاية والتشريف لها والعناية والاهتمام بها إلى أمرين.
(أ) أحدهما: إعداد جند أشداء متمتعين بالقوة والصحة.
(ب) وثانيهما: إشباع ميولهم الفنية وحب الجمال متمثلاً في الأجسام القوية ذات القدرة والمهارة الحركية والشجاعة.
كل هذا جميل وقدوة رائعة على ما فيه من مبالغة وإسراف وهذا جانب من العِظَة في تجربتهم.
ولكن يثبت التاريخ الجانب الآخر من العظة في التجربة نفسها وهو أنه: حين أصبح المران اليومي هو الشغل الشاغل للنشء واهتم اللاعبون بالجوائز وتعددت وغلا ثمنها حتى أغرت الشباب على احتراف الرياضة وانساق المشرفون عليها وراءهم بحب الغلبة وشهوة النصر فقدت الرياضة أهميتها التربوية وأخذ الاحتراف مظهراً بارزاً طغى على الهدف حتى ضيّعه وألغى هيبة الفن وجماله وجلاله وقوّض صروحه. هذه تجربة الإغريق.
والتجربة الثانية مع الرومان.
تحدث المؤرخون عن عناية الرومان بالرياضة وبنائهم للأندية الفخمة لها وتنظيم شؤونها حتى في دقائق أحوالها فلا تفتح الأندية قبل شروق الشمس ولا تظل مفتوحة الأبواب بعد غروب الشمس وهذا كان طبيعياً قبل اكتشاف الكهرباء -ولا يسمح للبالغين بدخولها إذا كان فيها أولاد يتمرنون- وهم الذين يسمون في العرف الحديث بالأشبال - وكانت ملاعب الرياضة بحسب السن فكان لكل مرحلة من مراحل الأعمار بين الرياضيين ملعب خاص بهم في النادي. وغالى الإغريق على سجيتهم وطبيعة عصرهم فمنعوا العبيد من تعاطي الرياضة باعتبارها من أعمال الشرف. وكان على تلك الأندية زعيم مخصوص تقيمه الأمة إلى سنة كاملة لست أدري أهو زعيم لكل ناد أم هو زعيم اتحاد الأندية ولكن الصورة تكاد تصوره بما يقبل المعنيين. وهذا الزعيم نافذ الكلمة لا يخالفه أحد حتى العلماء والفلاسفة وحتى أنه كان له حق إخراج أحدهم أو إخراج عدد منهم من النادي إذا وجد من شؤونهم ما لا يصلح للشباب أو من أبحاثهم ما لا ينبغي أن يطرق على مسامع الشباب وكان بيده كل الحل والعقد في شؤون النادي وكان من شاراته لبس جبة أرجوانية واتخاذ عصاً يحملها أو يحملها معه بعض تبعه. ويعتبر صاحب هذه الوظيفة على درجة عالية من الشرف حتى بالغ المؤرخون فقالوا إن الإمبراطوريين والأعيان كانوا يتمنون هذه الوظيفة. وهذه صورة شيّقة لأن من يلي أمر الناس إرثاً أو عنوة يتمنى لو كان له ذلك فيهم اختياراً منهم وأحقية. كل هذا جميل وصورة رائعة للرياضة والعناية بها على ما فيه من مبالغة وإسراف أيضاً وكل هذا جميل في حدود الهدف الذي أراده الرومان منها وهو الهدف نفسه الذي أراده الإغريق، بل نحن نلاحظ أن أحد الهدفين وهو إعداد الجند أو تدريب الجند كان هدفاً أساسياً للرياضة في تاريخها العريق على أيدي الإغريق والرومان والصينيين واليابانيين والهنود وربما كان كذلك عند الفراعنة والسميريين وإن لم يتحدث التاريخ عن ذلك.
ولكنه حين انتهى أمر الرياضة لدى الرومان إلى أن صارت للنزهة والفرجة - كما عَبّر المؤرخون. وتبعاً لهذه الصورة وما يشتق منها من المعاني أصبحت ضرباً من الأعمال البربرية -كما وصفها المؤرخون كذلك- أو خالطها الكثير من ذلك ولا بد أنه تحت المعنى نفسه الذي هيمن على مشاعر الإغريق ورياضييهم في آخر عهد تجربتهم وذلك أمر لا غرابة فيه. لأنه في عهد قوة الأمة خلقياً وعقلياً ترقى مفاهيمها في كل نواحي حياتها وترتفع بذلك كل هذه النواحي وتزدهر كل شؤونها ومنها الرياضة والعكس صحيح فحين تضعف الأمة خلقياً وعقلياً، وتتراخى مفاهيمها في كل نواحي حياتها تهبط كل هذه النواحي بالتراخي تدريجياً حتى تختل وتتخلخل. والرياضة جانب من جوانب الحياة في كل أمة تشملها القوة والازدهار بقوتها ويشملها الخلل والتراخي بضعفها لذلك ازدهرت الرياضة بازدهار حضارة الإغريق وحضارة الرومان وتلاشت الرياضة مع ما تلاشى من حضارة الإغريق وحضارة الرومان.
واستحال هذا الفن إلى فن التدريب على الضرب بالسلاح والشيش وهذا التحوّل نفسه بقية من معاني الهدف الذي كان مصدر الفن نفسه ولكنه تعبير محض عن معنى القوة التي هي وسيلة الهدف من الرياضة وليست غايته.
وفي التاريخ الحديث شواهد من أُمم أرادت لنفسها الرقيّ والرفعة فاتخذ قادتها من حركات الرياضة وألوانها وسيلة لتعبئة شعوبها نفسياً وجسمانياً لكن هذا التكتل لم يلبث أن أضاع نفسه لأن منطق القوة المجرّد الذي قام عليه لم يستطع أن يروض تلك الزعامات وإن بنى الشعب القوي فانهار التكتل كقوة ضاربة وإن ظل أثر التربية الرياضية في الشعوب نفسها مختلفاً ألوانه بحسب اختلاف الطبيعة الأولى لكل من تلك الشعوب كألمانيا وإيطاليا.
أما حظ عرب الجزيرة من الرياضة البدنية فهو يتمثل في السباحة والصيد والرماية وركوب الخيل والهجن. وهي تمثل أهم ملامح المنحى الرياضي.
فالسباحة عدا أهميتها لإنقاذ الشخص نفسه وغيره فإنها تعوّد على النظافة والمقدرة على التحكم في العضلات وإشاعة روح التفاؤل الذي يفعله بالإنسان مثلاً الاغتسال والحلاقة وفيها الكثير مما يراد بالرياضات الأخرى من بناء الأجسام وتشترك السباحة مع ركوب الخيل والهجن ومع الرماية والصيد في الرياضة الجسدية والثقة بالنفس والتحكم في الأعصاب والدفاع عن النفس والشعور بالقوة التي تطارد الخوف.
وتضيف الرماية والصيد إلى ما سبق التعود على التهديف وتربية الهدف في الوجدان ولكن ذلك كله كان -في الجاهلية الأولى- يبني الأفراد ولم تكن لهم وسائل بناءِ أشكال جماعية غير أن بناء الأفراد كان عُدَّتهم لمجتمعهم وأسلوبه من الحياة ثم أن نوع هذه الرياضات يبني بطبيعته الفرد لبنة صالحة لبناء المجموعة وذلك كان الشأن حين جاء الإسلام فوجد اللبنات القوية التي بني منها المجتمع القوي وهذا موضوع حديث آخر.
وحين أخذ الإنجليز والألمان عن الرومان فن الألعاب الأولمبية وضعوا له تعريفاً ظريفاً عجيباً رائعاً يكاد يكون شعرياً فقالوا هو علم الحركات الإنسانية وعلاقتها بالحواس والعقل والعواطف والطبائع ونمو سائر الخصائص البشرية جسمية كانت أو روحية ويجعل الإنسان أشجع وأذكى وأحذق وأنشط ليقاوم كل التَّغَيُّرات الطبيعية والإقليمية ويحتمل الحرمان والشدائد ويتغلب على العقبات والمخاطر ويذلل الصعاب فهو علم غايته المنفعة العامة والخير الشامل ووسائله التحلي بجميع الفضائل والتضحية ونتائجه صلاح النوع البشري.
ولقد اختصرت تعريفهم الطويل إلى هذا الحد الكافي لإدراك ما استشعروه للرياضة من فهم وصورة يرتفعان بها إلى أعلى درجات المعرفة.
والحقيقة أن في هذا التعريف كثيراً من الصواب يلتقي مع القول المأثور عندنا العقل السليم في الجسم السليم. فجسم الإنسان لا يفترق عن خصائصه. وتعطيل الجسم يشبه تعطيل الآلة إذا تركت واقفة بغير عمل تعطل إنتاجها ثم بطول وقوفها تصدأ وتخرب فالرأي العلمي أن الرياضة تستجلب السوائل التي بها قوام الحياة إلى أعضاء الحركة. وذلك يحدث بالتهيج الحاصل من شدة الحركة ودليل حصوله زيادة الحرارة التي تنتشر على أثر سرعة الدورة الدموية ويشترك فيها سائر الجهاز العصبي والجهاز الدوري والجهاز الحركي وزيادة التنفس كما أن فقد الحركة كلما كان عمومياً كلما ضعف عمل القلب والدماغ وضعفت معها سائر الأجهزة حتى عُدّ السكون من الأسباب الأولية للسلّ الرئوي. وأود أن أوضح هنا أن الجسم غير السليم ليس المصاب بفقد حاسة، ففاقد الحاسة قد يكون سالماً في جهاز جسمه وهناك أيضاً من خطة نظرية التعويض الإلهي بتقوية حاسة أو حواسه الأخرى عند فقد حاسة. وهذا ما أشار إليه الأثر كل ذي عاهة جبار ليس من باب الشتم ولكن بمعنى القوة كما يقال جبار الفكر أو جبار القلم.
ونحن نلاحظ من غير تسبيب علمي أن التخريف مثلاًً وهو عمل الدماغ يصيب الإنسان غالباً في حالة الشيخوخة المقعدة التي تلزمه الفراش وكذلك نلاحظ هنا أن المفكرين غالباً مهما بلغت بهم السن والشيخوخة لا يخرفون لأنهم بالرغم من حالتهم الجسدية يشتغلون بفكرهم دائماً فهو غير معطل فلا يقف أو يختل.
ولذلك أصبحت الرياضة الحديثة علماً يستند في أصوله على علمي التشريح ووظائف الأعضاء، وقد يرجع في طريقة تدريسه إلى مبادئ التربية وعلمي النفس والاجتماع.
ولذلك أيضاً يجب الاعتدال في الرياضة وإلا أدت إلى عجز عن الأعمال الأخرى وهذا واضح في الجانب النظري ولكن الرأي العلمي أيضاً يؤكد أنها تؤدي بالإسراف فيها إلى عجز في الأعمال الأخرى البدنية وتؤثر عجزاً في الدماغ وتتزايد الدورة حتى تورث الحميات ويضطرب الهضم ويقع معظم الضرر على الأعضاء الصدرية. وكذلك ينبغي أن تتوقف مزاولة الرياضة في حالة المرض على رأي الطبيب لأنه يُخشى منها مثلاً في حالات العلل الحموية والالتهابات الترقية، بعكس العلل المزمنة والعصبية والدماغية وبعض التشويهية. وهذه جملة معترضة أوردتها لأدلل على أن الاعتدال واجب طبياً كما هو واجب نظرياً واجتماعياً يتلاقى مع المأثور عندنا خير الأمور أوساطها ولأقترح أن يقوم النادي الرياضي بالمراجعة على صحة أعضائه في فترات وليؤخذ الحذر في حالة المرض.
وما زال الناس يخترعون ألواناً من الرياضة والألعاب حتى ألف بعضهم كتباً عن خمسمائة لعبة مختارة ونحو ذلك.
ولكن كما قلت أكرر كلما كان المفهوم عن الرياضة والألعاب صحيحاً وسليماً كلما ازدهرت وأثمرت وأعطت النتائج المرجوة منها من تقوية البدن وترويح القلوب وترويض النفوس وتجديد الهمم وكلما انحرفت المفاهيم عن الصواب كلما أصبحت الرياضة والألعاب ضياعاً في ضياع ونحن قد مررنا بتجربتين كبيرتين عن ذلك في حضارتين من أعرق حضارات العالم هما حضارة الإغريق وحضارة الرومان.
فالرياضة وسيلة وليست غاية وهذا الاعتبار لا ينقصها بل يزيدها قيمة وتأثيراً لأنه يضعها في صف كل العلوم والآداب والفنون فكل العلوم والآداب والفنون وسيلة وليست غاية.
لنأخذ مثلاً الطب والهندسة والزراعة.
إذا تعلم إنسان الطب ثم قعد في بيته لأنه في غنى عن الارتزاق بالمهنة ولم يعوض هذا بالاكتشاف أو الاختراع أو الدراسة والتأليف ونحو ذلك ما قيمة هذا الطبيب في المجتمع؟... إنه عاطل في ذاته معطّل لقدرة من قدرات أمته. لأن الطب يراد علاجاً للمرض أو وقاية من المرض أو كشفاً جديداً لأسبابه وعلاجه أو توعية بحقائقه. فإن لم يؤد الطبيب مهمته على وجه من هذه الوجوه فقد أضاع نفسه وضيع على أمته.
والهندسة هي تنسيق وتنظيم وتخطيط وبناء. لو درس واحد تخصصاً منها ثم قعد في بيته فلم يفعل من ذلك شيئاً فهو عاطل معطل.
وكذلك الزراعة لو درسها صاحب أرض يغنيه إيرادها المعتاد ولم يدخل -على الأقل- جديداً على أرضه من علم أو عمل كان أبوه الفلاح خيراً منه للأرض وللمجتمع.
ولا أريد أن أستقصي الأمثلة فيطول بنا الحديث ولا أن أمثّل للآداب والفنون وكلها على هذا النحو من الغرض والنتيجة ولكنّ الأمثلة فيها أحوج لمزيد من الكلام والإيضاح. غير أني أعتقد أن الفكرة واضحة وبدهية.
بل أن قدمائنا من العرب قد أحسوا بهذا المعنى وفهموا هذا الفهم حتى في اختلاف درجات المعرفة حين أسموا علوم النحو والصرف وما إليها علوم الآلة لا تصح علماً مستقلاً مؤدياً للنفع بذاته وإنما هي وسائل لطلب علم آخر نافع بذاته.
فحتى بعض العلوم وسيلة لبعضها وليست علماً قائماً بدوره على استقلال في المجتمع. ونحن نستطيع أن نقيس على هذا النحو بعض العلوم الأخرى.
وكل اللغات كذلك. فليس تعلم لغة ما مطلباً لذاته ولا فخراً على حدته لأحد. ولكن بقدر ما يفيد من تعلم تلك اللغة في الاطلاع على شؤون وعلوم تلك الأمة يكون اعتزازه بعلمها.
فالجد واللعب كلاهما وسيلة لا غاية.
الجد كغاية كشغل شاغل كحركة مستمرة كآلية لجمع الثروة للكسب بلا أهداف ولا معنى. للمنصب كوجاهة وراتب. للسلطة كمزاولة ونفعية هم وكرب وتجميد للروح ولنوعية العمل.
الذهب أكداس لا يزيد في شيء عن الحصى أكداساً ولكن الذهب وسيلة لعيش كريم لفرد ولمجتمع أو وسيلة لتجديد أو منفعة في منحى من مناحي الحياة العامة هو الذهب الإبريز والمعدن النفيس. فالجنيه المحبوس كغاية يساوي صفراً والجنيه المستعمل كوسيلة يساوي أربعين ريالاً (3) .
والجد كوسيلة هو الإنتاج وفرحة العامل وتجويد العمل وراحة الضمير.
واللعب كغاية هو العبث بل ضياع الوقت وسوء الأسلوب وسوء النتيجة وكوسيلة هو الترويح والترفيه والترويض وتجديد النشاط.
فالجد واللعب إسما جنس تندرج تحتهما أسماء أنواع كثيرة كالعبث والترفيه والترويض والمادية والتعطيل والإنتاج.
والرياضة ليست فقط صوراً محددة من الألعاب أو التمرينات البدنية فتلك هي الرياضة البدنية. ولقد تلاقى العرب مع الإغريق والإنجليز في فهم رائع للرياضة حتى عرفها أهل اللغة بأنها (استبدال الحال المذمومة بالحال المحمودة). وأي روعة في هذا التعريف الجامع على اختصار ألفاظه وتعدد وضخامة وارتقاء معانيه؟! والرياضة في الاصطلاح الديني هي (رياضة النفس عن متابعة الأهواء وتسخيرها إلى ملازمة الشرع).
والرياضة الروحية هي (حرمان النفس من مشتهياتها لتصل إلى درجة الصفاء وغلبة الروح على الجسم حتى تظهر قواها العجيبة).
والرياضة العقلية أو الذهنية هي (إعمال الفكر في إدراك الحقائق).
وأنا أضع لها هذا التعريف تبسيطاً للتعريفات اللغوية والفنية الدقيقة فهي معقدة ومتعددة وطويلة وخارجة عن الموضوع هنا. وتشميلاً بهذا التعريف البسيط لكل أنواعها ونواحيها الفنية والعلمية والطبيعية والتطبيقية.
والإسلام شريعة خالق العقل والنفس والجسد جاء محركاً للقوى الثلاث ومروّضاً لها.
فلفت العقل: إلى التاريخ والأمم من قبل. وهي طريقة الملاحظة والاستقراء العلمية في البحث العلمي الحديث.
وإلى الكون وعظمته وآياته وهي طريقة الاستدلال والشواهد والبراهين في البحث العلمي الحديث.
وإلى النفس البشرية ذاتها وأسرارها وهي طريقة التجريب في البحث العلمي الحديث.
وإلى التفكر والتدبر في كل ذلك وهي الطريقة المنطقية بالمقدمات والفروض والنتائج في البحث العلمي الحديث.
مروضاً بذلك كله العقل البشري وفاتحاً له أبواب ومناهج الحقيقة عظة لأولي الألباب ولأولي الأبصار. للذين يعلمون. والذين يفقهون. والذين يتفكرون. وردد هذه الكلمات ترديداً كثيراً وفضل العالمين على الجاهلين. ونوه بالعالمين كثيراً وذم المعطلين لحركة العقل والمعوقين له عن التفكير وعاب عليهم ذلك كثيراً.
وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم في هذه المعاني معلومة إلى درجة تجعل الاستشهاد بها تجهيلاً لكل قارئ.
وروّض النفس:
بإيجاد المثل الأعلى – بالتفكر في الله.
وباستحضار المراقبة – باستحضار وجوده وعلمه.
وبوضع نظرية الجزاء – بترقب المثول بين يديه في اليوم الآخر.
وبتشريع القوانين – بإطاعة أوامر الله والانتهاء عن نواهيه والأمر بطيب الأخلاق والنهي عن سيئها وكبح جماح الشهوات والهوى.
وبالإغراء – بالعفو والإحسان ابتغاء وجهه.
وبالتدرج في منازل التربية – بالصبر على بلائه والرضى بقضائه.
وبالتخطيط للمجتمع الأمثل – بالتعامل مع الناس على أساس الخير والصبر والحلم والتواضع وصلة الرحم والرفق والإخاء وشهادة الحق.
وبمحاولة السمو بالسريرة -بالنفس من الداخل- بصفائها وإرادة الخير للجميع والحب للجميع والكسب الحلال مبرءاً من الأثرة والاحتكار والربا.
وبالربط المستمر بين النفس والمثل الأعلى – بالاتصال بالله والاستغفار والتوبة إليه، والزهد في مفاتن الدنيا وعفة السمع والبصر والذات والضمير.
وبتنظيم العلاقة مع المجتمع – بالكلام الطيب والتعاون والإصلاح بين الناس والقرض الحسن والبشاشة.
وبالعون العلوي والمدد الدائم والإيحاء به – بالتطهر والاستعانة بالله بالبسملة في بداية كل عمل من أعمال الجسم ومن أعمال القلب ومن أعمال الفكر حتى على كل ما يدخل إلى الجوف وما يخرج منه.
وبالمقابل:
نهى عن الجدال والتنازع والتنابز بالألقاب والغيبة وشهادة الزور والغضب والفضول والحسد والشح والغش والجشع ولغو الحديث والكذب والإفك والعجب والاستكبار والرياء والخيانة والنفاق والظلم والبطش وسوء الظن.
ووضع كل مقابل إزاء مقابلة مثوبة وعقوبة.
والنصوص في كل ذلك معلومة من غير إيرادها.
فروَّض النفس للاستجابة لكل خير والانتهاء عن كل شر.
وهيأ الإنسان برياضة العقل ورياضة النفس للهيمنة على تصرفات الجسد بكل جوارحه لتحقيق هذه الاستجابة للخير والإمساك عن الشر.
وروض الجسد بالوضوء والغسل والصلاة وشهود المساجد وصلاة الجماعة أو الطواف والصيام والحج والجهاد والذكر والزكاة والصدقة (وأنا أدخل الزكاة والصدقة في ترويض الجسد لأنهما تلزمان صاحبهما بعد جهد كبير يبذله في الجمع).
ولكن الإسلام قد ربط بين الأجهزة الثلاثة في الإنسان -العقل والنفس والجسد- باعتبارها وحدة لا انفصام لها لا يمكن الفصل بينها ولا يمكن لأحدها الانفصال أو ممارسة عمل ما بصورة مستقلة استقلالاً تاماً وهذه هي الحقيقة.
فربط بينها ربطاً قوياً وربطها جميعاً بالمثل الأعلى بذاته عز وجل وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ (النحل: 60) فمنح العقل القوة الخارقة بالإيمان بالرب الواحد الخالق لهذا الكون والمدبر له، وألزمه بدوام الاتصال به فمنطلق العقل هو (الإيمان بالله).
ومنح النفس المثوبة منه وابتغاء مرضاته ولما كان النظام لا بُدَّ له من شرط جزائي فقد رتب على تعطيل هذه الأجهزة الثلاثة أو سوء استعمالها مقابلاً هو العقوبة لأن المثوبة والعقوبة من ناحية أخرى هما كفتا الميزان في الضبط والربط فمنطلق النفس هو (رضى الله) أو هو (التقوى).
وجعل رياضة الجسد (وهي الواردة) فرعاً عن هذين المنطلقين في العقل والنفس وشدها من أحد طرفيها إلى المنطلق الأول ومن طرفها الثاني إلى المنطلق الثاني وبذلك ربطها بالمثل الأعلى في السماء والأرض فالله هو الحق والنور والعدل والسلام ولا يريد لخلقه على الأرض إلا الحق والنور والعدل والسلام.
ولننظر كيف ربط الإسلام رياضة الجسد (وهي العبادة) بمنطلقها من العقل (وهو الإيمان) وبمنطلقها من النفس (وهو التقوى) على النحو الآتي:
فالوضوء والغسل يحتويان على حركات للجسد ويعطيان نتائج له من النظافة وتجديد النشاط وروح التفاؤل ربطهما من ناحية (الإيمان) بالبسملة التي هي توجه إلى الله واستعانة به وربطهما من ناحية النفس بالشعور بالطهارة.
والصلاة هي حركات للجسد تعطي نتائج حركية في الأجهزة البدنية على نحو مما ذكر طبياً ربطها من ناحية (الإيمان) بتلاوة القرآن والذكر والدعاء والتشهد وباستشعار التوجه إلى الله والإقبال منه على المصلي كقوله صلى الله عليه وسلم لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت وربطها بناحية (النفس) بالانفصال والانقطاع بها دون كل مشاغل الإنسان وما حوله لا يلتفت إليها التفاتاً معنوياً ولا يلتفت إليها التفاتاً مادياً وبأنه لا تقبل صلاة بغير طهور و إن في الصلاة شفاء و إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وأنه لا صلاة لمن لم تنهه صلاته عن ذلك.
وشهود المساجد وهو حركات للجسد تزيد في نتائج حركات العبادة ربطه من ناحية (الإيمان) بأن المساجد بيوت الله وبآداب المساجد التي تتلاءم مع حرمة هذه البيوت ومقام نسبتها وربطه من ناحية (النفس) بشعور الجماعة وآداب الجماعة وتلاقي الجماعة وتساوي الجماعة.
وفي الطواف مثل ذلك بزيادة في تجسيد النسبة إلى الله.
وصلاة الجماعة باعتبار إمكان كونها في المساجد وإمكان كونها في البيوت أو الخلاء أو أي مكان ليست إلا مضاعفة لهذا الربط يتضاعف معه الأجر باعتبارها إعلاناً يشبه حالة المباريات في التمرينات الرياضية وتجميعاً للقوى الفردية ربطها من ناحية (الإيمان) بالشعور بأن الأرض كلها لله وبمراقبة الله للإنسان في كل مكان حتى ورد هذا المعنى استحسان صلاة التطوع (النفل) في البيوت بتعبير لا تجعلوا بيوتكم مقابر. وربطها من ناحية (النفس) بما فيها من علاقة بشعور الجماعة على نحو ما ذكرت وبما فيها من عمل على تحسين الأداء والانسجام فيه.
التجرد والتوجه بالتلبية والتكبير والتهليل والارتفاع إلى التوجه إلى الله لا بالامتناع عن الممنوع فحسب بل بالامتناع عن بعض الحلال قرباناً بذلك إلى الله وتسخيراً للبدن على طاعته. واعتيادها وربطه من ناحية (النفس) بشعور الجماعة وآدابها وتلاقيها وتساويها وبأنه لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.
والزكاة والصدقة ربطهما من ناحية (الإيمان) بأنهما حق الله وإقراض الله وربطهما من ناحية (النفس) بأن هذا الحق وهذا الإقراض يؤديان إلى عيال الله والخلق كلهم عيال الله والشعور بوحدة الأسرة الإسلامية في هذا المعنى أن الخلق كلهم عيال الله أحبهم إليه أنفعهم لعياله.
والجهاد ربطه من ناحية (الإيمان) بأنه في سبيل الله وربطه من ناحية (النفس) بأنه من أجل الدعوة إلى الحق أو الذود عن الحق وعدالة الحق وكرامة الحق.
والصوم -هذا الذي يظلنا شهراً فلا بأس من أن نطيل ذكره- هو موسم تدريبات مختلفة الألوان وتنافس أو مباريات في الخير مختلفة الأنواع. وفرحة بهذه التدريبات وهذه المباريات وموسم العظة وخير العظة القرآن لأن المسلم في هذا الموسم يكون متفتح الوعي متفتح القلب متفتح الشعور متفتح الحس لتلقي الموعظة وحسن الاستماع والانصياع إليها موسم تتصل فيه كل الرياضات اتصال الليل بالنهار يصوره النبي صلى الله عليه وسلم ويبشر به أصحابه بقوله أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فينزل الرحمة ويمحو الخطايا ويستجيب الدعاء وينظر إلى تنافسكم في الخير ويباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيراً فإن الشقيّ من حرم فيه رحمة الله ربطه بهذا من ناحية (الإيمان) وبأنه لله وهو يجزي به وربطه من ناحية (النفس) بما جاء في هذا الحديث من حض على التنافس في الخير وعزة النفس المسلمة حين يباهي الله ملائكته بما تقدم من خير وبأن من لم يدع قول الزور والعمل به –وهو تعبير شامل للنهي عن كل سوء- فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه وبأن الصوم جُنّة فلا يرفث الصائم ولا يجهل فإن شاتمه أحد فليقل إني صائم.
ولم ينس الإسلام ما نسيَته كل ألوان الرياضة القديمة والحديثة. لم ينس اللسان هذا العضو الذي نسيته كل الرياضات البدنية لم ينسه حين شرع الذكر ليلينه ويرطبه بالذكر ويجمله ويعوّده على خير الكلام بتلاوة القرآن أو ذكر الله بما تيسر من أسمائه ومن الدعاء إليه لنفسه ولغيره. ربطه من ناحية (الإيمان) بذكره وكلامه عز وجل وأسمائه الحسنى وربطه من ناحية (النفس) بطيب الدعاء والإخلاص فيه للنفس ولجماعة المسلمين فجعل الدعاء للغير سبباً في استجابته أدعو الله بألسنة لم تعص قالوا وأيّنا لم يعص يا رسول الله قال أن تدعو لأخيك بظهر الغيب ويدعو لك بظهر الغيب أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات خمساً وعشرين مرة -وفي رواية سبعاً وعشرين مرة- كل يوم كان ممن يستجاب دعاؤهم ويرزق بهم أهل الأرض وحبب عدم الأثرة حتى في الدعوة الخيرة ودعا إلى تشميل المسلم بها كل أخوته في الإسلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (نوح: 28). (وجعل الدعاء مخ العبادة) وجعل الدعاء بالصلاة على عبده ورسوله من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات زكاة من لا زكاة له ولنتدبر روعة التعبير بزكاة من لا زكاة له فهي تزكية للنفس وبذل من النفس ربما كان أعز من بذل المال وتطبيب للنفوس الزكية الغنية بذاتها والفقيرة بذات يدها وجعل قمة كل ذلك الصلاة على نبيه سمواً بعواطف الحب والعرفان للمعلم والقائد يجتمع تحت لوائه الشمل وتتلاقى حوله القلوب وتتوارث أجيال المسلمين هذه المعاني للمعلم الأول والقائد الأول ولورثته فيهم من المعلمين والقادة. وأشرك العين مع اللسان في الرياضة بتلاوة القرآن وفي الرياضة بالنظر إلى الطبيعة وعجائبها والتفكر في أسرارها وربط ذلك من ناحية (الإيمان) بالعلاقة بين هذه المخلوقات والرب العظيم وقدرته وجلاله وعظمته وأسرار صنعه ومن ناحية (النفس) بضآلة الإنسان في ذاته وبإكرام الله له بتسخير كل هذه الكائنات له فهو صغير بذاته كبير بكرم ربه وتكريمه. وروض السمع بالتنبه إلى الحكمة واستحسان الوقوف عند كل حلقة درس للعلم سماها (رياض الجنة) والإصغاء إلى الكلام الطيب والتأثر به وربطه من ناحية (الإيمان) بأن الكلام الطيب كالمصعد للعمل الصالح إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (فاطر: 10) وربطه من ناحية (النفس) بالنهي عن تتبع عورات الناس وتلمس عورات النفس لمعالجتها وعدم الإصغاء إلى النميمة والوشاية والغيبة وجعلها من أقبح الأعمال وأفظعها أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ (الحجرات: 12) هذا ربط إفرادي، وربط الإسلام هذه العبادات ربطاً جماعياً من ناحية (الإيمان) بجعلها من أركان الإسلام وما ليس من الأركان الخمسة فهو من الأركان الداخلية كركن منها كأنها المواد الخام لتركيبه وربطها من ناحية (النفس) بتضخيم المثوبة تبعاً لضخامة الجهد.
أما الجهاد فلم يكن من الأركان لأنه مما يلزم الجماعة ولا يلزم الفرد والركن ما لزم كل فرد ذكراً كان أو أنثى. وكذلك فهو عمل غير محدود الزمان ولا دائم الزمان وإنما هو من أعمال الضرورة والاقتضاء ولكنه لأهميته يعتبر في وجود الجماعة المسلمة كالسقف الذي تستظل به الأركان أو تتداعى من تحته ولذلك لم تكن مثوبة المضحّي فيه بحياته إلا استمرار حياته ما دامت الحياة للأحياء فالشهداء أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران: 169) وإلا الجنة بعد هذه الحياة.
وربط الإسلام كل ذلك في النهاية كما ربطه في البداية بذاته عز وجل بالمثل الأعلى وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ (النحل: 60) حيث – ربط كل الأعمال بالنية إنما الأعمال بالنيات فالعلم مع اليقين والعمل مع الإحسان والخلق مع الإخلاص.
وتمشياً مع قاعدة الاعتدال التي أشرت إلى وجوب الأخذ بها في الرياضة البدنية نظرياً وطبياً واجتماعياً - دعا الإسلام إلى عدم الغلو في الدين ما غالب الدين أحد إلا غلبه و لا صام من صام الأبد و إذا كان النصف من شعبان لا صوم حتى يجيء رمضان وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه والله إني لأخشاكم لله وأعرفكم بالله ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام أو كما قال ونصح أصحابه أن يصلوا ما قدروا فإذا تعبوا فليستريحوا. وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه ولما صلى التهجد ووجد الناس يأتمون به دخل يصليه في بيته وقال خفت أن يكتب عليكم والشواهد على ذلك من تشريعنا كثيرة.
ثم إن الاعتدال مطلوب نفسياً كما هو مطلوب بدنياً لأن كل رياضة تستمر لأكثر مما هو مقرر لها تفقد تأثيرها أو يضعف تأثيرها كما هو الشأن في الأدوية التي عندما يتعود الجسم على كثرة تعاطيها تفقد خاصية مفعولها. ومنها ما يعطي تأثيراً ضاراً في جانب غير ما خصصت له وبالقدر المحدد لذلك.
هذا عدا وجوب الاعتدال اجتماعياً للتنسيق بين متطلبات الحياة الأخرى.
ونظم الإسلام هذه الرياضات (العبادات) إلى:
عمل يومي كالوضوء والصلاة.
وعمل أسبوعي كصلاة الجمعة.
وموسم في العام كالصيام والزكاة.
وموسم في العمر كالحج.
وموسم عند الاقتضاء كالجهاد (أو موسم المباراة التي تُعَدّ له المسلم طيلة العام وطيلة العمر).
وعمل بدون تحديد زمان كالغسل والطواف وشهود المساجد وصلاة الجماعة والصدقة والذكر.
والإسلام بهذه الرياضات كلها -التي لا ينال الله حركاتها ولا سكناتها ولكن يناله التقوى منا- يحمي الإنسان من:
ترف الجسم وترف العقل وترف النفس، فترف الجسم يضعفه وترف العقل يشقيه وترف النفس يضيّعها.
فترف الجسم ليس الراحة بعد العمل ولا الهدوء بعد الجهد ولا الطمأنينة بعد العناء ولا الاستمتاع بالحلال وطيب الرزق فكل هذا حقه.
ولكن الخلود إلى النعيم والاستسلام للدعة والانصياع للشهوة والعيش في حرام الحال والمال.
وقد يكون أبلغ الترف تسخير العمل للهوى والكد للأسرة واستغلال النفوذ للشهوة وسوء استعمال القوة. فترف الجسم يضعفه في الحالين.
يضعفه في الحال الأولى مادياً فتنهد قواه ويسترخي عوده وتتلاشى مقوماته وفي الحال الثانية يضعفه معنوياً لأن العمل يستحيل إلى فوضى والكد إلى شقاء والشهوة إلى داء والقوة إلى وبال.
وترف النفس ليس الشعور بحقها ولا الاعتدال بذاتها ولا المطالبة بمالها ولا الأخذ بأسباب الرفعة فكل هذا حقها.
ولكن نسيان حقوق الآخرين وعدم العطاء من النفس وعدم الشعور بالغير وفقدان روح الجماعة واللامبالاة بالمسئولية.
وقد يكون أبلغ ترف النفس حب الذات أو عشق الذات وما يسميه علماء النفس بالنرجسية والغرور بالتعدي على حقوق الآخرين والأخذ بلا عطاء والمطالبة بغير الحق والاستعلاء في الأرض والعبث بالمسؤولية.
فترف النفس يضيعها على المرحلتين.
في المرحلة الأولى بالهمل والخمول فيتلاشى وجودها الحقيقي أو تصبح ذاتاً بلا وجود. وفي المرحلة الثانية بالتضخم والانتفاخ أو الانتفاج فتكون حرباً على نفسها بالتضخم بتصرفاتها لا تحس بغيرها فتستثير العداوة من حولها وتستشيط الثورة عليها في الوقت الذي تكون هي فيه فراغاً من داخلها بالانتفاخ الذي يجعلها كالكرة الرخوة (البلونة) تتمزق لأدنى مساس.
وترف العقل ليس الحرية في الرأي ولا البحث وراء الحقيقة ولا إعمال الفكر فذلك كله دوره الطبيعي الذي خلق له.
ولكن ترف العقل على صورتين: إما التعطيل والجمود، وإما الانطلاق بلا ضابط، وكلاهما يشقي صاحبه.
الأوَّل يجعله أسير أوهام أو طقوس أو تخلف. والثاني يوقعه فريسة القوة أو فريسة الهوى.
فالإسلام بترويضه للعقل حماه من شر تعطيله وشر انطلاقه وأعطاه القدرة الكاملة على العمل مربوطاً إلى (الإيمان بالله).
وبترويضه للنفس حماها من شر خمولها وشر أطماعها وأعطاها القدرة الكاملة على العمل مربوطة إلى (رضى الله) و (التقوى).
وبترويضه للجسم حماه من شر سكونه وشر عمله وأعطاه القدرة الكاملة على التصرف مشدوداً إلى الرباطين (الإيمان) و (التقوى) لأنه الأداة الموحدة لتصرف العقل والنفس معاً. لذلك كانت كل التشريعات الظاهرة منصبة عليه لا تأخذ الناس بالنية ولا بالإرادة ولكن تأخذهم بما يصدر عنهم من تصرفات. ولذلك كان نصيبه من الرياضات موفوراً متناسباً مع مقدار مسئوليته.
والإسلام -بعد هذا كله- أردف كل موسم من مواسم الرياضة بفرحة وجعل للمواسم الضخمة أعياداً مناسبة لضخامة هذه المواسم. فالجمعة فرحة الأسبوع.
وعيد الفطر فرحة الصيام. وعيد الأضحى فرحة الحج.
وعيد الجهاد فرحة النصر لم يحددها لأنه لكل نصر قيمته الخاصة به والغنائم الناتجة عنه أو فرحة اللقاء والشهادة.
وهو -بعد هذا- قد مسّ بهذا النحو الكريم كل تحركات الإنسان حتى إماطة الأذى عن الطريق وحتى لقاء الزوجين سماه فضلاً ومودة ورحمة ولباساً ربطاً بالنفس ولم يسمه ولداً ولا عشرة ولا شركة حياة فهو أكبر من كل هذه المسميات، على كرامتها وأعطى عليه المثوبة ربطاً بالإيمان ولم يعتبره شهوة ولا قضاء حاجة وإنما استجابة لإرادة الله فيه.
ومع أن في هذه الرياضات الحد الكافي للإنسان فإن الإسلام لم يحجر عليه ولم يمنعه من غيرها. بل هو يعلم ميله إلى التنويع ورغبته في الحرية فإن ذلك من الغرائز التي أوجدها الله فيه أداة للعمل والإنتاج ووسيلة لطلب الحياة الأفضل - فلا يجعل الحد الذي فرضه من العبادات تعطيلاً عن المزيد.
فلم يحجر عليه المزيد من نفس النوع تعطيلاً للاختيار بل أغراه بالنسبة والنوافل وأثاب عليها. ولم يمنعه من غيرها من أنواع الرياضة: العقلية والروحية والبدنية. بل حضه على ذلك التنويع والمزيد منه. فحضّ العقل على العلم وحضّ النفس على حرية التنظيمات الإدارية والاجتماعية بما يتناسب مع كل زمان ومكان بما يحقق "المصلحة المرسلة" كما يقول الفقهاء. وحضّ الجسم على الرماية والسباحة وركوب الخيل وغير ذلك مما لا شرّ فيه. ولست في حاجة -أيضاً- إلى الاستدلال على هذه المعاني بشواهد من نصوص الدين فهي من البدهيات عند كل متعلم بل وكل مسلم.
فإذا كنا الآن بصدد الرياضة البدنية فلنذكر قوله صلى الله عليه وسلم روحوا القلوب ساعة فساعة ووجدته في بعض الكتب هكذا روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت ولكن لم أجد هذا النص الأخير بحرفه في كتب الحديث ونسبه بعضهم للإمام علي رضي الله عنه ربما كان تفسيراً منه وما روته السيدة عائشة من أنه صلى الله عليه وسلم قد سابقها فسبقته ثم سابقها فسبقها وقال: هذه بتيك.
وأنه صلى الله عليه وسلم صارع بعض شباب قريش قبل الإسلام وبعده. بل قيل إن ركانة بن يزيد وكان مصارعاً ماهراً وقوياً لم يقدر أحد من العرب أن يصرعه تحدّى الرسول صلى الله عليه وسلم فصارعه فصرعه صلى الله عليه وسلم مرة وثانية وثالثة وقيل ذلك كان سبباً في إسلام ركانة.
وأنه صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيول المضمرة في موضع يسمى الحيفاء إلى ثنية الوداع خارج المدينة المنورة وبينهما خمسة أميال أو ستة؛ وسابق الخيل التي لا تضمر فيما بين ثنية الوداع ومسجد بني زُريق وبينهما ميل واحد، وسابق بين الخيل مرة على حلل آتية من اليمن فأعطى السابق الأول ثلاث حلل والثاني حلتين والثالث حلّة والرابع درهمين والخامس درهماً والسادس والسابع مكافأة.
فإن أخذنا الرياضة بالمأخذ الإسلامي وفي ضوء الهدف الذي يريده الإسلام لأهله ولأهل الأرض جميعاً وهو: الحق والعدل والنور والسلام. كان الذي نريده من الرياضة ولها هو:
(أ) أن لا تكون القوة المجردة هي هدفنا من الرياضة ولا وسيلتنا فيها. بل القوة المؤمنة والقوة العالمة والقوة العاملة والقوة العادلة هي الهدف وهي الوسيلة. فالقوة المجردة شر على المجتمع من الضعف لأنها تكون عندئذٍ: ضعفاً في العقل وضعفاً في النفس وضعفاً في الجسم.
تكون عندئذٍ الترف في العقل والترف في النفس والترف في الجسم على نحو ما تحدثت عن كل ذلك في ما سبق.
فالقوي المنحرف أشد ضرراً على المجتمع من الضعيف المنحرف.
ومن ثمّ نعرف لماذا كانت أهمية دور القيادة لأنها تتمتع بأقوى الإمكانات فانحرافها شر على المجتمع بسلطتها وسلطانها، وبتقليد الناس لها، وبتوسل الناس إليها بأسباب الانحراف.
فانحراف الضعيف لازم بالتعبير النحوي - لأنه يلزم صاحبه فقط. وانحراف القوي متعد لأنه أبلغ في الضرر وأكثر شيوعاً للانحراف على نحو ما ذكرت. واستقامة القيادة فيه أكبر الخير على المجتمع بسلطتها على التقويم وسلطانها في الحق، وتقليد الناس لها في الاستقامة وتوسل الناس إليها بأسباب الاستقامة. فحين يكون هدفنا من الرياضة ووسيلتنا إليها هو القوة المؤمنة والقوة العالمة والقوة العاملة والقوة العادلة؛ تكون قوتنا تابعة لإيماننا بـ (العدل).
(ب) أن لا تكون الغلبة والانتصار المجرد هو الهدف بل أن يكون هدفنا الانتصار على أساس من الطرق الشريفة المشروعة (كما عبر قدماء الإغريق) والانتصار للمبدأ وللحق وللأهمية كما علمنا من الجهاد في شريعتنا. وهذا هو سبيلنا إلى: الإحسان في العمل والتجويد في الفن.
وبذلك نرتفع بالفن نفسه ونبلغ القمة منه بالوسائل الصحيحة وأساليبها المشروعة. حتى إذا هزمنا كان شرفنا في الهزيمة غير مجروح بالنقص فلا تكون هزيمتنا هزيمتين: هزيمة نتيجة وهزيمة أسباب.
وأن يكون اعتبارنا للهزيمة -حين تكون- درساً نعي منه أسبابها ونستدرك تصويبها ونعمل على تلافيها.
وكل ذلك هو (النور) الذي ينبغي أن يملأ قلوبنا وعقولنا وعواطفنا.
(ج) أن يكون تقديرنا للفن يأتي من أنفسنا أو يأتي من غيرنا زميلاً كمشاهدين، ومنافساً كمتبارين تقديراً نابعاً من إيماننا بـ (الحق).
وهذا هو الميزان الذي يحدد ويقرر ويقر المعايير الصحيحة للفن.
(د) أن يكون تعاملنا مع أنفسنا وتعاملنا مع الآخرين في حال النصر وحال الانهزام تعاملاً شريفاً.
لا تصدر منا مع الانتصار نفثات الغرور وفلتات الصغار وشرور الكبار - لئلا نتعدى بذلك حدود الحق. حدود الحق الذي أخذنا وبالحق. وحدود الحق الذي لنا على غيرنا. وحدود الحق الذي لغيرنا علينا. ولئلا يكون هذا العدوان سبباً في ضياع النصر: إما في مشاعر الناس من حولنا لو كان هو النهاية. وإما في تسبيب هزيمة قبل النهاية إن كان نصرنا قد حدث قبل النهاية. وإما تسبيب هزيمة تالية. كيوم أحد حين ظنوا انتصارهم نهاية طمعوا بعدها في الغنائم فخالفوا القيادة وتعليماتها. وكيوم حنين حين أعجبتهم كثرتهم فظنوها سبب الانتصار. وكان الله قادراً على نصر نبيّه في كل وقت ومكان ولكنه أراد أن يعلمنا في بعض المواقف أسباب الهزيمة.
كما علمنا آداب النصر في أقسى حالات الخصومة فلا نمثّل بقتيل ولا نعيّر جريحاً ولا نعذب أسيراً. ولا نعتدي على امرأة وطفل وعجوز وشيخ.
فكيف بنا حين تكون مباريات فنية أو مناظرات علمية والمباريات ليست إلا مناظرات سبيلها الموحّد العقل والعلم واختلافهما أن تكون هذه باللسان وتلك باليد والرجل وغيرهما من الأعضاء.
بل إن هذا التنافس العلمي الذي نجده بين الدول الكبرى منها حتى على "القمر" ليس إلا مناظرات علمية. وليس التقابل العيني شرطاً في المناظرة.
ونحن نجد الدول الكبرى -على ما بينها مما هو أشد من العداوة- يهنئ بعضها بعضاً على ما تحرز من تقدم علمي في مختلف الميادين. وهذا دليل الفهم لحقائق الأمور وحسن تقييمها لا ينفي العداوة لأنها تقوم على تعارض المصلحة ولكنه ينفي الجهل فكيف بنا حين تكون المباريات بين شعب واحد أجدر بها أن تكون صلة قربى لا قطيعة رحم ووشيجة قوة لا دعوة تفكك.
ذلك يكون خيراً على أنفسنا كما نكون خيراً على غيرنا فلا نجلب على أنفسنا الانكسار ولا نحقّرها ولا نتضاءل أمام التجربة ولا ندع لليأس منفذاً يلج منه إلى أعماقنا في حال الهزيمة فإما أن نكون أحسنّا في أداء فننا على الوجه المطلوب أو نحو منه. فلا عبرة بالنتيجة كنصر بالأهداف - بمعناها الفني في لغة المباريات. بل أن أداءنا الحسن وجه من وجوه النصر.
وإما أن نكون لم نحسن فغاية أمرنا من الهزيمة أن نتعلم كيف نحسن.
وذلك هو (السلام) الذي ينبغي أن يكون شعارنا في التعامل مع أنفسنا وفي التعامل مع الآخرين. ذلك هو هدفنا وطريقنا إلى الهدف في الرياضة. كما هو هدفنا وطريقنا إلى الهدف في كل نواحي الحياة يحقق ويشيع: العدل والنور والحق والسلام.
وكما قلت مرة من قبل -في حديثي عن "المهمة الصعبة" بمقر رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة- أن هذه المسميات معان متداخلة تعني كلها معنى واحداً:
فالعدل هو النور والحق والسلام، والنور هو العدل والحق والسلام، والحق هو العدل والنور والسلام، والسلام هو العدل والنور والحق.
وأن هذه هي الأسماء الأربعة الوحيدة التي سمى الله نفسه فيها باسم المصدر -كما يقول علماء اللغة- وباسم المعنى -كما يمكن أن نقول- وأن بقية أسمائه تعالى أسماء صفات لاسم الجلالة.
وأنها -هذه الأسماء الأربعة- هي هدف المسلم ومثله الأعلى وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ (النحل: 60). وهذا الرأي قلته بصرف النظر عن تفصيله وطريقة تصوره وتصويره هو ما وصل إليه جهد العقل البشري في أسمى مراحله. لأن العقل البشري صنيعة من صنائع الله. وكلما استكمل أسباب عمله وكماله كلما حقق إرادة الله به وفيه.
فنحن نجد:
في الماضي: وقد قرأنا حال الإغريق والرومان مع الرياضة إبان سمو حضارتيهما وتعريف الإنجليز والألمان لها وتعريف علماء اللغة العربية.
وفي الحاضر: الذي صنع الأمم المتحدة ومنظماتها وما شابهها من تقارب الأمم وتعاونها ولقاء عقولها وتقديسها لمبادئ العدل والحق والنور والسلام.
نجد الدعاة إلى الرياضة يحاولون أن يصلوا بالمستوى الرياضي إلى هذه الصورة المشرقة التي تصورها لنا شريعتنا في كل مجال.
بل إن كل فنون الرياضة والألعاب لها من القواعد والأنظمة ما يرجى فيه أن يعطي هذه الصورة المشرقة.
بل إنه عندما تخرج الرياضة والألعاب عن هذه الصورة وتنفلت من ضوابط القواعد والأنظمة يسمي التاريخ ويسمي الناس ما يشاهدون من ألوانها "أعمالاً بربرية" ويسمون ما يشاهدون على هذا النحو منها "مسخرة". هراء.
بل إن واحدنا حين يجد منافسة في لعبة "البلوت" أو "الدامة" أو "الطاولة" أو "الشطرنج" أو غير ذلك يحاول أن يغش ويتكرر منه الغش بحيث ينفي السهو والخطأ وحسن النية يقول لمنافسه فعلاً (بلا مسخرة) هزء هراء. ولكن الفرق بين أن تنبع هذه المعاني من عقيدتنا وبين أن تنبع من القوانين هو الفرق بين طبيعة العقيدة وطبيعة القانون.
طبيعة العقيدة تؤمن بوجود رقيب لا يغيب عن علمه شيء ولا يتخلف وجوده عن مكان ولا زمان ولا تغفل عينه ولا يتشابه الأمر عليه بل هو في ضمير كل إنسان وقلبه.
وطبيعة القانون تفترض وجود حكم أو حُكّام تضل عيونهم وتسهى قلوبهم وقد يبدو لهم الأمر في شكله بغير ما هو في حقيقته.
فتابع القانون قد يخالف القاعدة ومقتضاها النظامي ما غافل الحكَم والنَّظَّارة، وقد يرتكب المخالفة ما دامت وسيلة للنصر أو التعويق وقد يتطاول على الحق ما سلم من طائلة القانون وقد يفعل الخير يخادع به الناس وقد يتصنع الرضى حين لا مفرّ له منه.
أما صاحب العقيدة فإنه يطيع الحق لأنه حق ويلتزمه لأنه واجب ويأبى الباطل لأنه باطل ولا يرتكبه لأنه شر ويملأ الرضى قلبه لأنه طبيعته ويتأدّب مع نفسه ومع الناس لأن ذلك سلوكه.
وليس معنى ما قلت: جمود الحركة أو جمود الحس.
ليس معنى ما قلت أن يكون معوّقاً لمهارة الرياضي وحذقه وفنون حركاته ومصاولاته مدبراً ومقبلاً فإن من المسموح له به في هذا الباب ما يغنيه عن الممنوع كلما جوّد فنه وحسّن أداءه ولا أحب أن أتحذلق فأعدد نواحي المهارة وفنونها في الرياضة والألعاب ولا الأخطاء ومسمياتها فإن المستمعين من الرياضيين أعرف مني بذلك والمستمعين من غيرهم في غير حاجة إليه.
وليس معنى ما قلت أيضاً أن يكون ذلك معوّقاً لأحاسيس الرياضي كإنسان من حقه أن يفرح ومن حقه أن يداعب والرسول صلى الله عليه وسلم قال لعائشة -رضي الله عنها- كما سمعنا: هذه بتيك. ولكن في الحلال من ألوان الفرح وفي التعبير عنه وسائل شريفة ما يغني عن الحرام الذي يقطع الأواصر وينبت البغضاء.
وليس معنى ما قلت كذلك أن يكون ما قلته منافياً للطبيعة البشرية فلا يتألم المهزوم فلست أعني اللامبالاة ولكني أعني تقبّل الحقائق بشجاعة ومواجهتها بالصواب ولقد يسأل سائل:
ولماذا نحمّل الرياضة أكثر مما ينبغي ونطالب النفس فيها بالتمسك بالنظام الدقيق والمثل العالية ونتخلق لها بأكرم الأخلاق وكأننا في (عبادة)؟!
ولا أريد أن أردّ على هذا التساؤل رداً نظرياً فأعيد المتسائل إلى مراجعة ما مضى من الحديث. ولكن أجيبه على نحو من التفكير العملي المادي الذي يفكر به من يتساءل هذا السؤال ويصدر فيه عنه. فأقول:
إن الآثار التي تترتب على مزاولة الرياضي للرياضة تنعكس على جانبين:
جانب حياته في الملعب والنادي وزملائه الرياضيين والأندية الأخرى.
وجانب حياته العامة خارج الملعب والنادي ومحيط الرياضة.
ففي الجانب الأول:
(أ) فإن التمسك بالنظام والحرص عليه يرفع من المستوى الفني للفرد لأنه سيحاول النصر أو التفوق بالوسائل الشريفة المشروعة.
(ب) بالتالي يرتفع المستوى الفني للرياضة في كل ناد وفي مجموع الأندية وفي الرياضة ذاتها كفن.
(ج) وبالتالي يرتفع مفهوم الرياضة فيما حول الوسط الفني الممارس ويبتدىء إلى الوسط الرياضي المشجع.
(د) وبالتالي تأخذ الرياضة صورتها المشرقة في نفوس الجماهير مما يكون أفضل جاذب للجميع إليها وأفضل دعاية لها ولانتشارها في الأمة فكرة وممارسة.
(هـ) وأن التمسك بالنظام وإن فوت على اللاعب فرصة غلبته بالخروج عنه لو سمحت له تلك الفرصة في غفلة من الحكم والنظارة. على ما في ذلك من تحقير قيمة ما ظنه نصراً في نفسه ونفس غيره - فإن يعفيه من الألم المرير الذي قد يعانيه حين يستخدم الأسلوب نفسه في موقف ضده.
(ز) وكذلك فإن انحراف سلوك الرياضي الشخصي داخل الملعب وفي النادي يؤكّد الكراهية والبغضاء ويشيع التفرقة والضغينة ويقطع الأواصر بين الرياضيين وبين من حولهم من المشجعين.
(ح) وبالمقابل فإن التخلق بمكارم الأخلاق هو الحب الذي يولّد الحب ويوثق الصلات ويجمع القلوب.
(ط) وذلك كله أقوى أداة لتحقيق أهداف الرياضة ورسالتها في المجتمع.
وأما في الجانب الثاني - في الحياة العامة:
(أ) فإن تعوّد الرياضي على النظام في هواية ينعكس فيه طبعاً يلازمه ويلزمه في كل جوانب شؤون حياته العامة ما يخصه منها وما له علاقة منها بالآخرين في:
(ب) مجتمعيه الصغير في البيت والكبير في المجتمع العام. إن هذا الطبع في الرياضة -بالتعود على النظام- ينعكس على كل من حوله في بيته ومن يرعى شؤونهم من أهل وولد.
(ج) وبالتالي فقد يتعدّى هذا الطبع في الرياضي -في عمله وحياته- إلى كل من يشاركه العمل والحياة العامة فالخير يعدي والشر يعدي. وكلما كان في مركز القوة -كرب أسرة أو رئيس عمل- كلما كانت عَدْواه بالخير أسرع وأوسع على نحو مما ذكرت آنفاً.
(د) وحب الرياضي لفنّه وتجويده فيه يعوّده على حب عمله أياً كان والتجويد فيه والارتفاع بمستوى المسئولية ومستوى الأداء مما يرتد على ذاته وعلى مجتمعه بالفائدة الكبرى.
(هـ) والتخلق بمكارم الأخلاق في جانب الهواية يلزم صاحبه بها في حياته الخاصة وحياته العامة.
(ز) وبالتالي تحدث العدوى الخيرة إلى كل من يصاحبه في الحياتين الخاصة والعامة.
(ح) وبالتالي فهذا يشيع الحب والسلام في كل ما حوله وبالتالي في أوسع مجال من حياة الناس كلما كثر عدد الرياضيين الملتزمين.
(ط) والتزام الرياضي بالقواعد والقوانين في جانب هوايته يعوّده على التزام البحث العلمي والتخطيط العلمي في كل جوانب الحياة الخاصة والعامة.
وبعد: فإن عدوى الرأي وعدوى السلوك أوسع وأسرع من عدوى الداء وهذه العدوى أوسع وأسرع من مركز القوة كما قلت.
لكن العدوى من مركز القاعدة أقوى أنواع العدوى كلما امتدت القاعدة واتسعت. ولهذا فنحن حين نطلب من الرياضيين التمسك بالنظام والتخلق بأكرم الأخلاق فإنما نريد أن نبني الأمة من مركز القاعدة. تتسع دائرتها وتمتد.
ألا تكفي كل هذه النتائج مادياً جواباً على وجوب التزام وتعويد الرياضي على التمسك بالنظام ومكارم الأخلاق؟!
هذا إذا كنا ما زلنا في حاجة إلى تبرير مثل هذا الالتزام الذي فرغت البشرية منذ عهد بعيد من تقريره كمبدأ؟!
ذلك بصرف النظر عن مدى تمسك الأمم في الماضي وفي الحاضر بهذا الالتزام. فإن هذا التمسك وليد التربية أكثر من أن يكون وليد "النظرية".
ولهذا أردت أن ينبع من "العقيدة" لتكون القوة الكامنة "والقوة الدافعة" التي تحقق فينا ومنا. القدرة على هذا الالتزام.
ولذلك تكون مهمتنا في التربية:
كيف نعد الرياضي المسلم عقلياً، وعلمياً، وجسمياً، وخلقياً واجتماعياً؟
وكيف تحقق الأندية الرياضية ذلك: إدارة ووسيلة؟
وكيف نشيع الروح الرياضية بين الشباب المسلم ونشمل بها أكبر عدد ممن سواهم؟.
وكيف نوحّد بين الشباب الرياضي المسلم في كل آفاق الأرض؟.
وكيف يكون للشباب الرياضي المسلم شخصيته المميزة؟.
وكيف يجوز للشباب الرياضي المسلم وعلى أي نحو ولأي مدى التعاون مع الشباب الرياضي في كل أنحاء العالم؟ فالإسلام يريد لغير أهله ما يريد لأهله من: العدل والنور والحق والسلام.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1353  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 1261 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج