شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سرّ مهنة التعليم
بسم الله رب العلم
والصلاة والسلام على مُعَلِّم الإنسانية الأعظم
وتحية إلى ورثة الأنبياء في كل مكان
وبعد:
لا أريد أن أتحدث عن ديننا الحنيف وكيف أنه كان دعوة حارة وصادقة وملحة إلى العلم وشيوعه حين كان العلم حكراً في بعض المجتمعات على طبقة وحين كانت السلطة الدينية والسلطة الإدارية حرباً على العلم في المجتمعات وكيف نادى بالعلم وأعلن أن خير الناس العلماء والمتعلمون ورفعه ميزاناً لتفاضل الناس به لا باختلاف الطبقات والأنساب وأوصى بنشر العلم والرحلة في طلبه وقرر أن خير ما يخلف الرجل من بعده العلم. نجد هذه الدعوة مما يزخر به كتاب الله لا تخلو من ذلك سورة. على أي نحو من الإشارة أو الإشادة أو التوجيه ونجد كل ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفرد المُحَدِّثون في كتبهم فصلاً بعنوان "كتاب العلم" باب فضله والحث عليه وباب آداب العلم والسؤال والقياس والفتيا والكتابة وأبواب أخرى عنه.
لقد أصبح الكلام عن ذلك كله من نافلة القول لبداهة العلم به ومكرور الحديث عنه.
ولكني أريد أن أقول... إذا أعجبتنا مدنية الغرب وعلمه ومناهجه في العلم والتعليم فإن ديننا الحنيف قد أعطانا الأسس الصحيحة في كل ذلك وأعطانا كذلك الأساس القويم في الأخذ بالحسن من كل جديد فيه.
فحين نجد أحدث دعوات التعليم الدعوة إلى "محو الأمية" نجد الرسول الأعظم يرتقي فوق ذلك فيجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم لا تقف عند حد محو الأمية وإنما تمتد امتداد طلبه.
وحين نجد أسمى صور المجتمع الحديث أن يجعل الجامعة حرماً مصوناً يختص بأنظمته وقوانينه وحرمته. نجد الرسول العظيم يرتقي فوق ذلك فيجعل كل دور العلم وكل مجالس العلماء "رياض الجنة" إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا.. يا رسول الله وما رياض الجنة قال.. مجالس العلماء.
وإذا كانت مجانية التعليم بل منح المكافأة على طلب العلم هما أرقى مراحل الحركة التعليمية في العالم فإن الرسول العظيم قد سبق إلى ذلك حين قال سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا مرحباً بوصية رسول الله وأقنوهم والتعبير النبوي "سيأتيكم" يشمل غير المواطنين مما يسمى الآن "بالمنح الدراسية" طبعاً فهو للمواطنين أشمل وحين يخص أرقى المجتمعات الحديثة أستاذ الجامعة بحصانة تكريمية نجد الرسول العظيم يرتقي فوق ذلك فيقول.. ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط وفي حديث طويل وأصح يجعل العلماء ورثة الأنبياء.
وأما في أصول التدريس والتربية التعليمية فنجد القواعد العشرين التالية..
1 - الترحيب بطالب العلم أو العلاقة بين المعلم والتلميذ..
يقول أبو هارون العبدري... كنا نأتي أبا سعيد فيقول.. مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال.. إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً.
ونلاحظ مرة أخرى عبارة من أقطار الأرض.
وفي الحديث الآخر سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم مرحباً بوصية رسول الله وأقنوهم. وفسر الرواة "اقنوهم" يعلموهم وهو تفسير دون روعة التعبير الذي يعني الإغناء بأسمى وأحسن وأكرم العطاء من النفس والفكر والمادة أيضاً مما يشمل الإمداد بالعلم والأدب وحسن الضيافة وذلك هو وثاق العلاقة الروحية المطلوب أن تكون رباطاً بين المعلم وطالب العلم فبنسبة ما يكون العطاء الكريم من المعلم تكون قدرة التلميذ على الأخذ منه منسوبة إلى قدرته الذاتية بدون شك. ثم لنتدبر هذه اللفتة النبوية الكريمة في تسمية طالب العلم بوصية رسول الله وكأنه أعطى كل طالب علم إلى الأبد بطاقة توصية إلى المسؤولين عن التعليم في كل زمان ومكان. وأول كل ذلك الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة، والذوق الرفيع، وسعة الصدر.
2 - العمل بالعلم أو القدوة الحسنة في الريادة المعلمة..
في الحديث السابق "إن الناس لكم تبع" إشارة بليغة في وجوب العمل بالعلم والتبصير بمسؤولية الريادة وواجب الأسوة الحسنة في الريادة المعلمة.
وقال يزيد بن سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. يا رسول الله إني سمعت منك حديثاً كثيراً أخاف أن ينسيني أوله آخره فحدثني بكلمة تكون جماعاً. قال.. اتق الله فيما تعلم واعمل به. وقال عمر رضي الله عنه.. لا ينبغي لمن عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه. كأنه يعني أنه بعدم عمله لن يفيد نفسه فضلاً عن أن يفيد غيره فأولى بالمعلم الذي يضيع نفسه أن يضيع تلاميذه.
3 – عدم كتم العلم أو طاقة المعلم..
يقول الرسول العظيم.. من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من النار وذلك يعني إخلاص المعلم في أداء العلم إخلاصاً يقيه الشح بطاقة من طاقات نفسه وبقدر ما يتأتى إخلاص المعلم يتأتى إخلاص التلميذ. فالإخلاص طاقة متعدية تتجاوز ذات صاحبها إلى غيره.
4 - أخذ العلم من أهله أو كفاءة المعلم..
قال ابن مسعود رضي الله عنه ما يزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم فإذا أتاهم من أصغرهم هلكوا وهو لا يعني الطبقية في المجتمع أو السن فذلك ما ينفيه الإسلام ولكنه يعني كبار العلم والشخصية وبتعبير آخر يعني كفاءة المعلم فكفاءة المعلم هي ميزان ارتفاع مستوى التعليم أو انخفاضه.
5 - الفهم والتدبر أو حسن الشرح وحسن الاستماع..
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا خير في علم لا فهم فيه ولا خير في قراءة لا تدبر فيها وفي ذلك صورة واضحة الدلالة على وجوب حسن الشرح من المعلم وحسن الاستماع من طالب العلم.
6 - عدم الإملال بالعلم أو التشويق إلى العلم..
كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كُلّ يوم قال.. أما أنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أَمِلَكم وإني أتخولكم بموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا.
وقال ابن عباس رضي الله عنه لا تُمِلَّ الناس هذا القرآن ولا ألفينَّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقصَّ عليهم فتقطعَ حديثهم لكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهون.
ومع الفارق بين المعلم الواعظ وبين المعلم في المدرسة فإن قاعدة التشويق تظل قانوناً في العلاقة بين المعلم والمستمع.
7 - الأمانة في العلم أو تحضير المعلم لدرسه..
يقول الرسول العظيم.. ناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله وأن الله سائلكم يوم القيامة. ومن غير شك فإن الخيانة في المال لا تعدو المتعاملين في حين تعدو الخيانة في العلم إلى بعيد إلى جانب مساسها بأصل من أصول الإنسانية ثم أي تعبير عن وجوب تحضير المعلم لدرسه والعناية بإعداده أقوى وألزم من هذا التعبير.
8 - سعة الاطلاع أو المطالعة الحرة..
قال رجل يا رسول الله أي الناس أعلم قال.. من جمع علم الناس إلى علمه وهل بعد هذا الجواب من دعوة إلى سعة الإطلاع ومداومة القراءة أو المطالعة الحرة بالاصطلاح الحديث وهل شيء يدوم مع طالب العلم ويعطيه استمرارية وفي مستواه الفكري غير ذلك. فعلى المعلم أن يكون هذا شأنه وهذا وعيه يلهمه لتلاميذه ويوحي به إليهم.
9 - إخلاص النية في المعلم أو المحافظة على قيم العلم..
قال صلى الله عليه وسلم من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار كأن ذلك لأن النية المبيتة في الجدال والمغالبة ستكون عاملاً ملحاً على ضياع الحقيقة في مثل هذه النفس التي ستكون بدورها عاملاً على ضياع الحقيقة في نفوس آخرين وهو انحراف بالعلم إلى غير الوجهة التي تنبغي له مما يؤدي إلى انحراف في القيم السامية للعلم في خدمة الإنسانية والارتفاع بمعانيها وهل أضر بالبشرية شيء أضر من تسخير العلم لغير قيمه الصحيحة؟.
10 - مسؤولية العالم وتجريم العبث بالعلم أو كرامة العلم والمعلم..
قال صلى الله عليه وسلم يكون في آخر الزمان رجال يَخْتُلُون الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى.. (أبي تغترون أم على الله تجترئون فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيران) وأي تعبير أقسى وأبلغ في استنكار المتاجرة بالعلم من هذا الوعيد والنكير ولا تفسد المجتمعات إلا حين يتاجر العلماء ولا يفقد العلماء أثرهم في النفوس إلا حين يتاجر العلماء بالعلم ولا يسقط سلطان العلم في المجتمع إلا إذا سقط سلطانه في نفوس العلماء فكرامة المعلم وكرامة العلم في نفسه هما اللتان تغرسان بذور الكرامة للعلم والذات في قلوب طلبة العلم وفي المجتمع من حولهم لتكون للعلم رسالته فيهم وفيه.
11 - نهاية الغرور بالعلم أو ضلال العالم..
يقول الرسول العظيم يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحار وحتى تخوض الخيل في سبيل الله ثم يظهر قوم يقرأون القرآن يقولون من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ثم قال لأصحابه هل في أولئك من خير؟
قالوا.. الله ورسوله أعلم.
قال أولئك منكم من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار.
كأنما أولئك جاحدون بما قرأوا في كتاب الله وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (يوسف: 76) ومن الملاحظة أنه على حد قول مأثور ما يزال العالم عالماً حتى يظن أنه قد علم فإذا ظن أنه لا علم فوق علمه فقد جهل. جهل على نفسه وجهل نفسه وعندئذ يختل توازنه وهو في معارج جبل وقد يسقط في أية لحظة إلى السفح ليس هذا فحسب وإنما يكمن خطره في غروره يكون خطراً على العلم حين يهيء له هذا الغرور أن لا يعبأ بكل الأصول والقواعد في العلم وحين يأخذ به حب الإغراب إلى حد العبث بهذه الأصول والقواعد ويكون خطراً على المجتمع كلما كان ذا قدرة على هذا التلاعب يستحوذ على بعض القلوب الضعيفة أو العقول الفارغة فإذا برىء المعلم من هذه الخصلة بَرَّأ منها بإذن الله- طلبة العلم على يديه.
12 - تحرّي الحقيقة العلمية أو البحث العلمي..
يقول الرسول العظيم أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار دعوة صارخة إلى تحري الحقيقة ونذير من الوقوع في إثم التساهل في ذلك لما يجر على العلم من خلخلة في ضوابطه واضطراب الناس بين الخطأ والصواب فيه ثم على المجتمع حين تمس الفوضى أصل حياته وقوام مستقبله وهو العلم ومن مأثوراتنا المشهورة..
نصف العلم لا أدري ومن قال لا أدري فقد أفتى.
تلك سجية العلماء في حرصهم على حقائق العلم وحرصهم على أنفسهم من الضلال وهي في الوقت نفسه دعوة إلى البحث العلمي الدقيق والصحيح فإذا كان هذا المعنى بشطريه ديدن المعلم أغرى به طلبته ورَوَّض عليه نفوسهم.
13 - منهج التعليم ومراحله أو العناية بوضع المناهج التعليمية..
يقول الرسول العظيم مانع الحديث أهله كمحدث غير أهله. وقال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يأخذون عنه صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا بما في هذه من العلم والعمل قال فتعلمنا العلم والعمل.
وقال كثير بن مره لا تمنع العلم أهله فتأثم ولا تضعه في غير أهله فتجهل إن عليك في علمك حقاً كما عليك في مالك حقاً.
وقال ابن مسعود ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
فالعناية بمناهج التعليم وحسن وضعها مسؤولية كبرى في أعناق المسؤولين من رجاله. فإذا بسطنا العلم بالشرح والأمثلة والتكرار والصورة للطفل فعلينا أن لا نفجعه بضخامة الكتاب.
وإذا درسنا الفقه للفتيات فعلينا مراعاة سنهن في بعض الموضوعات ولا ينبغي أن نتقيد في أبوابه بكل ما في الباب ويصح جداً أن نعاود في سنوات تالية بعض ما أعفيناهن منه في بعض الأبواب في سنوات مضت وهناك تفاصيل ينبغي أن تكون لمرحلة التخصص ويشمل ذلك البنين والبنات ولكني تحريت الأولى بالرعاية والدقة. وعلينا أن نعيد الصياغة في بعض المواد بما لا يخرج عن الأصل في معناه ولكن يواكب قدرة الطالب اليوم على الفهم بما ألف من التعبير إن الذين أَلَّفُوا الكتب الجديدة لهذه المقررات لم يخرجوا عن حرفية نصوص الكتب القديمة مع الأسف ولكنهم جمعوا فقط في كتبهم أبواب المقرر وهذا ليس تأليفاً أصلاً. فضلاً عن أنه يكون صياغة.
وعلينا أن نعالج بعض مشاكل التناقض في المناهج ونبرئ أطفالنا من عوامل ازدواج الشخصية.
وعلينا مراجعة برامجنا في بعض المواد. إن البساطة في هذه المواد خير من التعقيد فلماذا نعلم الناس في سنوات بل نعلمهم طوال عمرهم ما كان يعلمه الرسول في بعض الأوقات وفي كلمات. إن بعض التفاصيل في هذه المواد ينبغي أن تترك لمرحلة الدراسات المتخصصة ولا داع لأن نثير مشاكل ميتة في نفوس الأحياء إنما ينبغي أن نواجه بقوة واهتمام وحكمة المشاكل الحية كما واجه سلفنا الصالح زمانه. ومع ذلك فليس المجال هنا للبحث في مناهج التعليم فله حديث آخر إن شاء الله.
14 - أهمية التجربة في العلم أو الاستعانة بالوسائل العلمية.
يقول الرسول العظيم.. ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت. ولقد فهم رجال الحديث هذا النص على ما يدل عليه من إمكان الاستعانة بوسائل المرئيات والتجارب في سبيل تعزيز النظريات العلمية وليس أدل على حساسية الفهم المبكر لهذا المعنى من وضعهم لهذا النص في كتاب العلم. كأنه تَأَثُّر موسى عليه السلام بمشاهدة الواقع أو المعاينة كان أشدّ وقعاً في نفسه من تَأَثُّرِهِ بالخبر على تصديقه.
15 - أثر السن في التعليم..
يقول الرسول العظيم مثل الذي تعلم العلم في صغره كالنقش على الحجر ومثل الذي تعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء. وهي مسألة في غير حاجة إلى التعليق.
16 - عدم حياء الأحداث سناً من الكلام في العلم واستحسان الاستماع إليهم أو التشجيع على حسن الاستنتاج.
قال ابن عمر.. كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أين من الشجر شجرة لها بركة كبركة المسلم فظننت أنه يعني النخلة فأردت أن أقول فنظرت فرأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئاً قال صلى الله عليه وسلم "هي النخلة" فلما قمنا قلت لعمر.. يا أبتاه والله لقد وقع في نفسي أنها النخلة. قال ما منعك أن تتكلّم، قلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أقول شيئاً، فقال عمر لأن كنت قلتها أحب إليّ من كذا وكذا..
وكذلك فعل عمر مع عبد الله بن الزبير حين كان هذا طفلاً يلعب مع زملائه فلما جاء عمر هربوا إلا عبد الله بن الزبير فسأله عمر ما أبقاك بعد أصحابك قال لست ظالماً فأخافك ولست مذنباً فأخاف فاستحسنه وتنبأ له بخير.
فعلى المعلم أن يفسح المجال لطلبته بتناول البحث والحديث ويحسن الإصغاء إليهم ليشجعهم على حسن الاستنتاج.
17 - حق السؤال وحسنه أو حب الاستطلاع..
يقول الرسول العظيم حسن السؤال نصف العلم. فعلى المعلم أن يعين تلاميذه ويستمع إليهم ويحسن الجواب فإنه فاتحة البحث ويثير حب الاستطلاع فيهم فإن من لا يسأل لا يبحث ومن لا يستطلع لا يطلع ومن لا يطلع ولا يبحث لن يعلم.
18 - الجري وراء المعرفة..
يقول الرسول العظيم الكلمة الحكمة ضالة المؤمن. حيث وجدها فهو أحق بها و اطلبوا العلم ولو بالصين فعلى المعلم أن يجري بتلاميذه وراء المعرفة. يجري هو ويُجَرِّيهم خلفه إليها حتى إذا تركهم كان قد رَوَّضهم على هذا الجري.
19 - العلم لا نهاية له..
يقول الرسول العظيم.. كل طالب علم غرثان أي جائع و كل صاحب علم غرثان إلى علم ويقول لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة فعلى المعلم أن يثير بحلاوة العلم ظمأ الطلبة إليه ولكنه إن لم يجد هذه الحلاوة في نفسه فلن يطعمها لهم ولْيُثَبِّت في قلوبهم أن طلب العلم من المهد إلى اللحد.
20 - العلم نور القلوب..
يقول الرسول العظيم.. إن لقمان قال لابنه يا بني عليك بمجالسة العلماء واستمع كلام الحكماء فإن الله يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر.
فأسأل الله أن يحيي قلوب المعلمين بنور الحكمة، فإن القلب المظلم الميت (عازل) لا يوصل تيار النور إلى غيره من القلوب.
هاته القواعد العشرون التي تضمنتها كتب السنة النبوية ولم أعتمد من الأقوال إلا ما ورد في هذه الكتب وليس لي فيها من جديد إلا هذا التبويب والتنسيق والتعليق هي الأسس الصحيحة للعلم والتعليم التي تنبثق عنها كل النظريات والآراء السليمة في أصول التدريس. وهي نفسها التي فتحت قلوب وعقول سلفنا الصالح على مدى أجيال العصور الذهبية في تاريخنا الإسلامي الطويل والتي ليس من همي هنا أن أؤرخ لتَطَوّر التعليم والعلم وأساليبهما خلالها وإنما أردت أن أشير إلى الأسس الدينية التي كانت قاعدة منطلق الحضارة الإسلامية المبدعة. بل إن فيها من الضوابط الروحية والنفسية لصيانة العلم من اضطراب المقاييس الفكرية واختلال النوازع الذاتية وفساد المجتمعات ما لم تأتِ له بمقابل كل الاتجاهات والأبحاث الحديثة في مجال التربية والتعليم.
وإذا كانت نظرة بعض المجتمعات إلى العلم والتعليم نظرة مادية باعتبار ذلك تكليفاً من متطلبات الحياة وإرهاقاً للأحاسيس البشرية وتعطيلاً للعوامل الإنسانية.
وإذا كانت نظرة مجتمعات أخرى إلى العلم والتعليم باعتبار ذلك تشريفاً لذوي اليسار أو تأهيلاً للمناصب مفسدة للحياة ومضيعة للأعمار وإهداراً للأعمال.
فإن نظرة ديننا الحنيف إلى العلم والتعلّم والتعليم قد جمعت التكليف على صورة كريمة بنحو ما رأينا إلى التشريف على صورة من تحريك المعاني الإنسانية والدوافع الخيرة بنحو مما يقول الرسول العظيم من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع و من طلب علماً فأدركه كتب الله له كِفْلَيْن من الأجر ومن طلب علماً فلم يدركه كتب الله له كِفْلاً من الأجر و من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان له أجر حاج تاماً حجته والمسجد يومئذ مدرسة المجتمع المسلم وما يزال و من عَلّم علماً فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل و الله لأن يُهْدى بهداك رجل واحد خير من حمر النعم.
ذلك هو أسلوب الإسلام في التربية الدينية والتعليمية والاجتماعية. يجمع دائماً بين التكليف والتشريف جمعاً -تلتقي عليه - في آن واحد- الواقعية والمثالية في الإنسان والحياة.
وإذا كانت النظرة الحديثة إلى المعلمين ورجال الفكر أنهم كالشموع تضيء وتحترق فإن الرسول العظيم يرتقي بهم عن ذلك فيقول مثل العالم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة أما الشموع التي تضيء وتحترق فأولئك الذين لا يعملون بما يعلمون وفيهم يقول الرسول العظيم مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه. وهؤلاء ما كان لهم أن يعلموا الناس الخير إلا أن يستعملهم الله أداة غير مأجورة وإلا فلن يعلم الناس الخير فيدخل إلى النفوس ويبلغ منهم مبلغه إلا أهل الخير. ومن الواجب هنا أن نتأمل الفرق بين الصورتين إكراماً وإسفافاً تصورنا الإسلامي لرجال العلم كالنجوم وتصورهم لهم كالشموع تضيء وتحترق وهو تصور خاص لدينا بالمنحرفين منهم وإن من لطف أسرار التعبير الإلهي في القرآن الكريم -كما أحس هنا- أنه في موضعين حين أراد الشمس سماها سراجاً وحين أراد القمر سماه نوراً مرة ومنيراً مرة أخرى وحين أراد الإطلاق مرة ثالثة قال وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (النبأ: 13) لأن الشمس كوكب مشتعل ولأن القمر كوكب يأتيه النور ثم ينقله هو إلى غيره فهو نور بإعتباره مستنيراً بغيره وهو منير باعتباره ناقلاً للنور إلى غيره. أما حين أراد أن يصف الرسول العظيم فقد قال يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ (الأحزاب: 45 - 46) تقريراً لحق الله في عدم الحاجة إلى من يدعو إليه، وتكريماً للنبي بالإذن له في ذلك وَسِرَاجاً مُّنِيراً (الأحزاب: 46) بعد كل الأوصاف السابقة جمعاً بين أن يكون نوراً في ذاته بالنبوة والوحي ومنيراً بالرسالة ينقل هذا النور إلى العالمين.
وليس صحيحاً أبداً الظن بأن هذا الحض على العلم والتكليف به والأجر عليه خاصاً بالفقه في الدين. وإن كان الفقه في الدين ألزم ما ينبغي أن يعلم وأن من التفقه في الدين علم كل ما ينبغي أن يعلم لتحقيق العزة للإسلام والمسلمين.
بل إن الحديث الذي يقول العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل.. آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة يتضمن أشمل معاني العلم فإن أخذنا الآية المحكمة على أنها كتاب الله والسنة القائمة على أنها حديث رسوله وعمله والفريضة العادلة على أنها الفقه فذلك أصل كل علم. لأنها حوت كل ما ينبغي أن يؤخذ من شؤون الحياة والدنيا حلالاً وما ينبغي أن يترك منها حراماً وإن أخذنا المعنى الواسع كانت الآية المحكمة كل ما أحكم الله من صنع (فكل علم بهذه المحكمات من خلق الله أو موصل إلى العلم بها فهو من هذا العلم) وكانت السنة القائمة كل سنة من سنن الكائنات القائمة في هذا العالم الذي خلقه الله. فكل علم بهذه السنن في خلق الله أو موصل إلى العلم بها فهو من العلم. وكانت الفريضة العادلة كل علم يشرع للعدالة والخير العام. فأي علم في الدنيا لم يدخل تحت هذا المعنى إلا بعض الفنون التي هي من ترف المعرفة فالنص لم يرفضها ولكنه اعتبرها زيادة بأجمل ألفاظ التعبير عن معنى الزيادة كلمة فضل.
بل لعله تعبير فيه حض أيضاً وفيه إلزام أما الإلزام فبأصول المعرفة التي حددها أما الحض فبغيرها فذلك فضل من زيادة الفضل لا من الفضول.
بل إنه ليؤكد هذا المعنى تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم للعالم على العابد حتى قال.. فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها والحيتان في البحر يصلون على معلم الناس الخير ومن المفهوم طبعاً أن المقارنة تعني العالم المؤمن المؤدي حق إيمانه. لأن العالم ذو فضل متعد إلى غيره والعابد فضله يلزمه والإيجابية الخيرة فوق السلبية الخيرة حتى المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم وبهذه الفلسفة تكون القوة الخيرة خيراً من الضعف الخير المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير.
بل إننا نجد أن العلم في أي المجالات كان يتكشف له وبه ما هو أعظم مقومات الإيمان ونحن نجد أن معظم كبار العلماء العالميين حتى الماديين منهم أبعد الناس عن الإلحاد وأقربهم إلى الإيمان مهما كانت أحوال مجتمعاتهم ولا تجد أغلب الملحدين إلا من عامة المجتمعات المنحرفة أو أنصاف المتعلمين (وهذه من الأمور التي نظر إليها الرسول العظيم بعين بصيرته الملهمة).
ثم إن القدرة على صيانة عزّ الإسلام والمسلمين من أعظم مقومات الدعوة إلى الله. وهذه القدرة تقوم على مستلزماتها من العلوم ووسائلها. وذلك امتداد للنظرية النبوية الملهمة إلى العلم.
ثم يطالعنا بكل هذه المعاني والصور التعبير النبوي الرائع "معلم الناس الخير" على امتداد معنى الخير وصوره وأساليبه.
ولذلك -وفي مقابلة هذا التفضيل- كان زيغ العالم وضلال الأديب وفتنة الفنان أشد النكرات في الدين تجريماً وعقوبة. لأن ذلك أضر الأشياء على المجتمع حين يكون العلم سلاحاً للفساد فهو -حينذاك- فساد مُعَلَّم، وهو أنكى إساءة وأبلغ إغراء من الفساد الجاهل.. وما كان ذلك ليغيب عن فطنة نبي العلم حين سئل أي الناس شر؟ فقال.. العلماء إذا فسدوا بل إن انحراف العلماء في بعض المجتمعات كان من أشد أسباب الرِّدة بين بعض أفرادها.
ولهذا كانت مسؤولية رجال التعليم والفكر وكلهم معلمون عظيمة عند الله وعند الناس. وعليهم أن يكونوا حرباً على الزيغ والضلال والفتنة لا بألسنتهم دون أفعالهم وإلا كانوا لها سلاحاً تقيم الحجة منهم وتهاجمنا من جوانب النقص فيهم. ولقد أدرك أعداؤنا أهمية هذا العالم في تقويض الأمم فأرادوا أن يشيعوا بيننا نظرية اللاأخلاقية في الفنون والأدب والفكر والجدل حول الالتزام وعدم الالتزام في حين يطالبون بالأخلاقية في التجارة والطب والهندسة ونحو ذلك إما مادية تفكير وحيوانية وإما عَمْد هدم وتخريب ولكن هذه السهوم سترتد إلى نحورهم وسيقوضون بها بنيانهم بأيديهم ولهذا حديث وحده إن شاء الله.
وهنا أتساءل.. هل سيكون طلبة العلم جميعاً مدرسين وإلى الأبد؟ ثم هلا سيكون منهم الأدباء والشعراء والعاملون في مختلف مجالات الفكر؟.
بالطبع سيكون منهم كل أولئك وسيكون بعضهم غير مدرسين إما منذ البداية أو من بعدها. ولكن طبيعة المعلم ينبغي أن تكون طبيعة كل طالب علم وكل متعلم في أي ميادين العمل كان. إن شيوع هذه الطبيعة ثروة في سلوك المجتمع وثروة لحساب الفكر.
بل ونحن نعرف في تاريخ التربية الإسلامية أن الخلفاء كانوا معلمين لأنهم كانوا في الأغلب وتبعاً للعصر رقياً وتخلفاً علماء وطلبة علم فكانوا يتعقبون العلماء ويجهدون في مجالستهم وفي الإفادة منهم ومناقشتهم ومداولة الرأي معهم وجمع شمل العلماء يتدارسون المسائل في حضورهم وكانوا يقيمون القاعات الخاصة بذلك في قصورهم.
وكان وزراء الخلفاء والأمراء من الأدباء (وزير الدولة يومئذ بمعنى رئيس الوزراء اليوم) لأن الخلفاء وهم العلماء يعرفون أن الأديب أليق الناس بهذه المناصب لأن الأديب الحقيقي هو -كما كانت تعرفه تلك الأجيال- من أخذ من كل علم بطرف ثم كان الأدباء يتعمقون في كل طرف حتى يكادوا أن يكونوا علماء فيه فهم بذلك فوق التخصص على ما كان بينهم من تفاوت في التعمق واختلاف العناية بمختلف الأطراف. وكيف يكون رجل فكر من لم يلم بسعة بكل جوانب الفكر في الحياة؟ وكان هؤلاء الوزراء شداة العلم ودعاته ورعاته من حول الخلفاء لهم مجالسهم الحفية بذلك والحفيلة به وليس ثمة ما يدعو للحديث -بعد ذلك- عن مجالس حكام الأمصار والولاة ورجال الدولة فالناس على دين ملوكهم، ولا عن مجالس القضاة والعلماء ومدارس العلم والمساجد فأولئك أصحاب الحق وذووه -وكما يقول ابن مسعود- صانوا العلم فسادوا به أهل زمانهم. فلما بذل العلماء علمهم لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم هانوا عليهم. وبذل العلم من العلماء حق عليهم وهو رسالتهم ولكن ما يهونهم على أهل الدنيا أن يكون بذل العلم لهم لينالوا من دنياهم.
وهكذا كانت مجتمعات سلفنا الصالح (رياض جنات) تمتد على أرضنا الطيبة من المساجد إلى دور الخلافة. ولقد ظلت عادة مؤسس هذه الدولة الملك عبد العزيز أن يستمع إلى درس ينتهي به مجلسه من الليل كل يوم. ويأنس فيه بمجالسة العلماء والاستماع إليهم.
إن من واجب العلماء حين يؤدون النصيحة حقها إلى الولاة أن يحمدوا لهم الحسنة كذلك ويعلنوها.
وكما يكون الخلفاء معلمين فتكون بهم القيادة الرشيدة عند الرأس في قمة الهرم من طبقات الأمة. فإن معلمي الابتدائية وإن كانت كوادر الدول قاصرة عن حقهم حتى الآن- حرّيون بأن يكونوا من ذوي الثقافة الغزيرة والعلم المستنير والأفق الواسع والإطلاع الوافر لأن على أيديهم تبدأ الحياة العقلية للطفل وتتكون القدرة في الرغبة إلى العلم والاجتهاد فيه والنمو الفكري. وتكون بهم الريادة الرشيدة على مستوى القاعدة من الهرم الاجتماعي للأمة. وكلما ارتفع مستوى التعليم في أي مجتمع ارتفع بمستوى التعليم الابتدائي ومعلميه مؤهلاً ورعاية. وتحضرني في هذا المجال كلمة بهذا المعنى للدكتور (أو الدكاترة) زكي مبارك قال فيها أنه لو كان له من الأمر شيء لاختار الأستاذ علي الجارم مدرساً للغة العربية في المدارس الابتدائية يقولها إجلالاً له ولكفاءته وتقديراً لأهمية مدرس الابتدائية ومسؤوليته في بناء مستقبل التعليم كله إن قدرة كل بناء مادي أو معنوي على الارتفاع إلى أعلى منسوية دائماً إلى قدرة أسسه على الاحتمال.
وإذا كانت الحرية العلمية والبحث العلمي هما دعوتا التعليم الجامعي الحديث وقليل من جامعات العالم من بلغ المبلغ الصحيح لهاتين الدعوتين. فإن الفقه الإسلامي لم يخصب هذه الثروة الفكرية التي مونت كل التشريعات العالمية المعاصرة بصرف النظر عن بعض ما خلطوه بها إلا في ظل حرية سخية بالثقة والفهم والتقدير ولم يتوقف عبر مسيرته العظيمة إلا في عصر الجمود والعصبية الفكرية وهي آخر العصبيات.
إن التعليم الجامعي في مفهومي -ليس في التقيد بكتاب وإن تقيد بمقرر في المادة غير محجور وراشد إلى كتاب أو كتب وليس في التقيد برأي وإن كان في الإحاطة بكل رأي يمكن العلم به. وليس في الأخذ برأي الأستاذ وإن كان في الأخذ برأي تبرز قدرة الطالب في التدليل عليه. فإذا لم يكن التعليم الجامعي كذلك كان مدرسة ذات مقررات أعلى فقط. فإن مقابل هذه الصورة من صور القديم في جيلنا الماضي صورة رائعة حين كان طالب العلم قلماً يعرض نفسه لطلب الحصول على شهادة إجازة التدريس في المسجد وإنما يرشحه لذلك أساتذته أو أستاذه المشرف حين يبلغ عندهم هذا المبلغ، وكانت الصورة الرائعة لاختباره إما بتلاوته لصفحات من كتاب من الكتب التي يعلمون قيمتها وصعوبتها العلمية فقد يكون مجرد قراءته لها قراءة صحيحة دلالة كافية على فهمه المعاني تغني عن الأسئلة والاستفهام ليعطي الإجازة وأما بإعطائه مسائل يطلب إليه الجواب عليها ويحق له الرجوع إلى المكتبة على مشهد منهم ومرأى.
أليست هذه الصورة للامتحانات العالية يومئذ أرق من صورة اليوم وأدل على روح العلم؟.
نعم إن هناك فوارق بين الظروف وبين الإعداد من الدارسين ولكن الروح العلمية العالية هي التي ينبغي أن تظل واحدة تهيمن على مختلف الاجراءات. إن التعليم الجامعي اليوم يكاد يحقق روح الحرية العلمية والبحث العلمي في مرحلة واحدة هي الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) ومعنى هذا أن خريج الجامعة قبل هذه المرحلة لم يتمتع بالروح العلمية التي تؤهله للإستمرار والتفوق الذاتي وهم الذين يمثلون أغلبية الطبقة التي تسمى (بالمثقفين) وهنا يكمن سر مشكلات الثقافة والتعليم.
إن مهمة التعليم ليست حشو المقررات واستظهار النصوص وأداء الواجبات بل ينبغي أن تكون..
(أ) توليد الطاقة العلمية في النفوس بالتشويق والإيحاء والإغراء.
(ب) تنمية هذه الطاقة بالتعويد على المطالعة والتكريم على الإنتاج والتيسير في أسباب المعرفة.
(ج) تغذية هذه الطاقة بالتعريف والتدريب على وسائل التعامل مع المراجع والمعاجم ومصادر المعرفة.
(د) ترويض هذه الطاقة على العمل منطلقة من قواعد الإيمان وأصول المعرفة إلى آفاق التجديد والابتكار بمعناها العلمي الصحيح.
هذا من الناحية العلمية إلى جانب تكوين الشخصية بنواحيها الأخلاقية والاجتماعية والصحية كما هو معلوم. وفي كل هذه النواحي فإن شخصية المعلم ذات أثر عميق وعظيم في بناء شخصيات تلاميذه وذلك هو موضوع تالي الحديث أما الناحية الصحية فلي عنها حديثان بعنوان "الرياضة والهدف" و "الرياضة تربية ومنهاجاً".
فإذا كان المتبع في أرقى مراحل التعليم الجامعي (الدكتوراه) أن يكون لمقدم الرسالة أستاذ مشرف يشاركه العمل ويحفظ له ويوجهه فإن هذه السمة كانت سمة دراستنا الإسلامية السابقة. وكل النابغين من عهد الرسول العظيم إلى يومنا هذا من الدارسين كانوا أولئك الصحابة الذين عاشوا إلى جواره معلماً وأستاذاً مشرفاً وكانوا أولئك الذين جاءوا من بعدهم فبعدهم إلى أمسنا القريب يعيشون إلى جوار معلم وأستاذ مشرف منذ البداية أو ممن يستحسن الشيخ التزامه لحسن ظن فيه أو يلتصق هو بشيخه ثقة به فكان الأستاذ المشرف أباً روحياً له من التلميذ أكثر من نصيب أبيه فيه فكان هذا الأستاذ يوجهه في مختلف العلوم إلى مدرسين مختصين في مختلف المواد وربما قام هو بتدريسه مادة أو مادتين أو أكثر ولكنه يرعى حركته العلمية في كافة العلوم.
ولقد كان شيوع هذه الأبوة الروحية سمة تلك العصور وكان في طبيعتها الشمول حتى كان الأستاذ الواحد يشمل بها أكبر عدد أهْلٍ لها من تلاميذه. وكان التلميذ يتعامل بها مع أكثر من أستاذ وإن كان من بينهم الأثير عليه. وتمتد هذه الأبوة الروحية من مرحلة الدرس إلى مرحلة الحياة.
فإذا حرص معلمو اليوم على أن يكونوا آباء روحيين لتلامذتهم وأن تمتد بهم هذه العلاقة من مرحلة الدرس إلى مرحلة الحياة ما استطاعوا فذلك مفتاح "سر المهنة".
إن أبوة الآباء بالنسب مع كل الاحترام والتقدير لها معنى عامٌ في مشاعر المجتمع ومعنى خاصٌّ في نفوس الأبناء- أبوة ممتدة إلى مدى قصير ومحدود في أبنائهم. ولكن أبوة المعلمين حين يكونون آباء روحيين أبوة ممتدة إلى بعيد وكثيراً ما يجد فيها المعلم ذاته مُشَرِّقة في أنحاء الأرض ومغربة. ومتعددة النواحي والمسالك والحياة. وهي بعد ذلك – تكون أساساً متيناً لرابطة العالم الإسلامي.
وهذا ما كان من أمر علماء المسلمين ذات يوم وكانت بلادنا المقدسة حلقة الاتصال في هذه المرحلة.
كتبت مرة إلى أحد أبنائي وهو يدرس في الخارج أقول له.. إذا تمنيت لك ولأخوتك أن تكونوا خيراً مني فتلك أمنية كل أب يجد فيها امتداد ذاته على نحو ما ولكني -كطالب علم- أتمنى لكل فرد من أبناء هذه الأمة في جيلك أن يكون خيراً مني ومن كل جيلي لأن ذلك هو الامتداد لأمنيتي تبلغون منها بجيلكم إن شاء الله- ما لم يبلغه جيلنا من أبناء هذا الوطن وآماله.
كنت أشعر وأنا أكتب تلك الرسالة بروح المعلم تتقمصني فإن الأب يرى في أبنائه امتداد ذاته ولكن المعلم يرى في تلاميذه امتداد معانيه وكنانة آماله والمعلم هو من يتفوق بمعانيه على ذاتيته.
لقد كانت طبيعة المعلم تتقمصني كلما تذكرت شيخاً طالب علم من أفريقيا السوداء كان ابن سلطان في بلده هاجمه الاستعمار فهاجر بدينه إلى دارَىْ الهجرة هنا وأبى أن يكون له السلطان تحت سلطان الاستعمار بعد أبيه وكان من صحابة أبي -رحمهما الله- اسمه الشيخ محمد بنو كان يُذكِّرني حين صرت إلى وزارة المالية والاقتصاد فيهز رأسه يمنة ويسرة ويقول.. أتذكر يا إبراهيم حين كنت أسألك وأنت صغير ماذا تريد أن تكون فكنت تتمنى أن تكون شيخاً في المسجد الحرام أين أنت الآن من ذلك؟ فأجيبه.. كل ميسر لما خلق له.. وقد يسرت لما ترى فإن لم يكن ما تمنيت حظي في البداية فلعله يكون حسن الخاتمة.
لقد ولدت في أحضان عالم ودرجت بين أدراج كتبه، وعشت رفيق حياته وتلميذه. فتعشقت فيه العلم وعشقت العالم فظلّت روحه تهيمن عليَّ بطبيعة المعلم وإن كنت لم أمارسها في فصول المدارس. فتتكيف بها مشاعري وتحكم تصرفاتي في كل عمل واتجاه. ولا أنكر أنني زاولت في أحايين نادرة صرامة المعلم وحاولت ما ينبغي له. من الرزانة طول الوقت.
وإذا كان الحديث عن النفس كريهاً إلى العقلاء فإنه في معرض التجارب أحد الطرق العلمية التقريرية قصدت أن أعبر بها عن شعور وطبيعة طالب العلم حتى خارج حدوده الرسمية وأعتقد أن طالب العلم يستطيع أن يكون معلماً حيثما كان وفي كل مجال بل هو لا يستطيع إلا أن يكون كذلك. ولقد تصطدم بعض الصور لهذه الطبيعة في بعض طلبة العلم ببعض الصور اللازمة لبعض الأعمال وهذا ينجم عن نقص الصورة الأصلية لا كمالها.
ومدرسة الحياة مفتحة الأبواب ليل نهار لا ينتهي لها دوام ولا يكمل لها مقرر وإن كانت -ككل مدرسة- تختلف فيها طاقات المعلمين وطاقات المتعلمين وعلى نسبة هذا الاختلاف تتفاوت حصيلة الأخذ والعطاء. وتتغاير بعض جوانب الشخصية بين المعلمين والمتعلمين. وهنا يطيب لي أن أعترف بأستاذية واحدة عليّ في فن الإدارة لمعالي الشيخ محمد سرور الصبان -رحمه الله- أسجل هذه الحقيقة بامتنان. وهو في غيبة عن عالمنا.
فماذا نريد من المعلمين أن يفعلوا لتخريج أجيال من الشباب تحمل رسالة العلم بقوة ووعي وأمانة ورضا؟ ذلك هو سر "المهنة" يكمن في ذات المعلم ثم ينتقل به إلى طلبة العلم على يديه. لذا أعرض في إيجاز صوراً من تجربتي مع أستاذي المشرف فإن مثل هذه التجارب هي التي بنى عليها علماء التربية نظرياتهم وهي قبل سُنَّة سلفنا الصالح التي أخذوا بها العلم خلفاً عن سلف وأحب أن أشير مقدماً إلى أن أستاذي قد لقي ربه قبل ثمانية وعشرين عاماً ليكون لبعض هذه الصور مفهومها الكامل إلى زمانها وسأحلل على ضوء هذه الصور "إكسير سر المهنة" لأحوله إلى مواده الأوليه.
1- العلم غاية.
لقد كان رحمه الله يواظب أشد من مواظبة التلميذ الذي سيدخل الامتحان على التزود من العلم.. يبدأ صباح كل يوم فيتلو عن ظهر قلب ما تيسر له من القرآن الكريم وهو له حافظ على رواياته المتعددة. بإجازة عن أبيه ثم يقرأ تفسير ما تلا في كتاب من كتب التفسير.
ثم يقرأ ما تيسر له من الحديث الشريف في كتاب من كتبه ثم يقرأ ما تيسر له من الفقه في كتاب من كتبه فإذا أكمل كتاباً في التفسير أخذ بغيره.. أو كتاباً في الحديث أخذ بغيره.. أو كتاباً في الفقه أخذ بغيره.. وربما أعاد بعض الكتب مرة بعد مرة.
فكان يقرأ المطولات كالمراجعة ويعاود المختصرات كالمذاكرة.. حتى صار فهرست العلماء يرجع إليه منهم أصدقاؤه وزملاؤه أحياناً عند البحث عن مسألة يودون مراجعتها لأن في بعض أبواب الفقه بعض التداخل في مسائل قد يرد ذكرها في غير مظانها.. فكان يرشدهم إلى مظانها وجاءه مرة العلامة الشيخ محمد بن مانع رحمه الله ودار الحديث حتى قال الشيخ ابن مانع أن كتاب "الزاد" خالف الأرجح في المذهب الحنبلي في مواضع فقال له أستاذي نعم.. في مواضع كذا وكذا أظنه قال أنها سبعة.. فخرج الشيخ يلوم زملاءه من علماء الحنابلة يقول..
تقولون حنابلة وهذا الشيخ المالكي أحدثه فيقول كذا أين أنتم من ذلك..
ما رأيته تخلف عن هذه الدروس الأربعة ذات صباح حتى مات..
فعلمني أن العلم غاية لا تنتهي بنهاية.. وأن طالب العلم لا يشبع منه ولا يمل.
2- العلم هواية..
ثم كان إذا صحا من العصر يجلس إلى نفسه فيقرأ في موضوعين مختلفين كتاباً في كل موضوع يناسب بينهما.. فإذا الفلك والهندسة مرة وإذا الفلسفة والمنطق مرة.. وإذا الشعر وتاريخ الأدب مرة.. وإذا علما النفس والتربية مرة وإذا الطب والأحياء مرة.. وإذا الطبيعة والزراعة مرة.. وكذا لا يدع علماً أو فناً لا يقرأ فيه.. يخصص لكل كتاباً حتى يكمله. يخصص دروس الصباح لتخصصه ودروس العصر لإطلاعه.
وبعد استكمال الدورة الأولى على مختلف الفنون والعلوم يعاود الدورة من جديد يجهد أن يأخذ في بعضها كالفلسفة.. والمنطق.. والنفس والتربية.. بمثل قدر المتخصصين.. ويجهد أن يأخذ في بعضها كالطب والزراعة ونحوهما بما ينبغي للأديب أن يعلم بطرف.. ويجهد أن يأخذ من بعضها كالفلك والجبر بقدر أكثر من ذلك لا يستنكر علماً أو فناً. وهو إلى جانب ذلك يقول الشعر وذو بيان رشيق.
وكنت أقرأ عليه في بعض الكتب فألحن فيقول.. (هو) فأعلم أنني أخطأت وما كنت أحب النحو والصرف من دروس المدرسة ووجدتني أضطر أن أحاول استقامة لساني.. فإذا قومته وعلم أني فهمت الحكم مضينا في القراءة وإن وجدني لا أفهم الصواب شرحه لي بإيجاز كاف وشاف وكان لا يتكلم إلا الفصحى.. الرقيقة الهينة اللينة دون تكلف ولا تصنع ولا إغراب فتعودتها منه ارتجالاً واستقامة أداء أكثر من أن أكون قد أفدت فيها من الكتب.. وعلى نحو من هذه الطريقة تعلمت قواعد الإملاء وكان يغريني أن أقرأ عليه ما استحسن مما أقرأ وأن يقرأ لي بعض ما يستحسن مما يقرأ.. إثارة لحب الإطلاع ومعاشرة الكتاب.
فعلمني أن العلم هواية طالب العلم يجد فيه متعته وراحة نفسه ويتلذذ به كرياضة ولا يستغني عن القراءة كعادة.
3- العلم رواية ودراية..
ورأيته يحدثني حديث الند للند.. حتى بلغ بي من أمره أن كان يتحدث أحياناً في مجلسه.. فيكاد يشعرني أنني أكثر الناس له فهماً.. ويثيرني إلى المسألة فيستمع إلى رأيي ويستحسن استنتاجي.. ويشعرني أني كأني عالم حتى ظننت حسناً بنفسي وأنا صغير السن ثم وجدتني أجلس على جيزة الشاطئ ولولا ذلك لما جلست لا يحجر على رأي ولا يمنع عني كتاباً.. ولا يمنعني أن أقرأ أي كتاب.. ولا يرى منع كتابٍ منعاً لنشره وإنما كان يرى مقارعة الحجة بالحجة وبأصول المناظرة وآدابها أبين للحقيقة.. وأثبت لها في النفوس.
وكان يعجب بشيخ من مشائخه هو العلامة الشيخ عمر باجنيد -رحمه الله- فيقول عنه إذا سألته في شيء فقال لك فيه قولاً فلا ترجع بعده إلى كتاب وإذا سألته فقال لك أظن المسألة كذا.. لكن دعني أراجع فأعلم أن ذلك الظن هو الصواب.. ولكنه يجب أن يراجع لأن الفتيا عنده غير العلم.. فأوقر في نفسي هذه القاعدة أن الفتيا غير العلم فالعلم مسألة تخص الذات أما الفتيا فلا بد لها من معاودة التثبيت والبينات.. وهذا لا يعني أني ما وهمت قط..
وكنت أسأل أستاذي.. لماذا لا تؤلف كتاباً يقرأه الناس من بعدك ويجدونك فيه.. فيقول يا بني - إن لم يقل الإنسان جديداً فلا يكتب.. كل ما أرى أني سأقوله موجودٌ في الكتب فليت الناس يقرأون على كثرة ما وجدت عنده خلال أحاديثنا من جديد ينبغي أن يكتب.
فعودني أن أقرأ أكثر مما أكتب حتى كدت لا أكتب إلا إلزاماً تحت نظرية ماذا أقول من جديد.. وإن لم أستطع أن آتي بجديد وكان لا يقف عند هذا الحد الذي يقف عنده بعض الفقهاء من المسائل بل يمشي بها على حياة العصر وظروفه وله من أمثلة ذلك في القضاء روائع لا أحب أن أذكر منها شيئاً فأدخل في شؤون الناس ولو بالإشارة والتلميح وله أمثله من ذلك في مسائل الفقه ليس الحديث مجالها.. من ذلك أنه لا يرى هذا الوقف الشائع بين الناس مؤدياً لمعناه الشرعيَ في الأصل وهو حبس المال على خير. فإن لم يكن كذلك مباشرة منذ البداية وكان على ورثة من بعد ورثة حتى ينقرضوا.. كان تحبيساً للملكية أما الوقفية الأخيرة التي لا تحدث إلا حين يكون مرد الوقف إلى بيت مال المسلمين فحيلة على تحبيس الملكية.. أو حيلة على الله كالذي يعتق عبداً آبقاً يئس من عودته إلى جانب ما قد يكون من تلاعب بقواعد المواريث وما قد يكون من تهرب من حقوق للناس وقد أشرت إلى هذه المسألة فقط -لأنها تشغل المصلحين الآن- ولأن لي فيها مبحثاً أعترف أنه صاحب نظريته فعلمني أن العلم رواية ودراية وإلا كان كحمل الكتب.
4- العلم هداية..
وكنا في زيارة للمدينة المنورة.. وكان له فيها صديق فاضل وعالم وبينما هما يسيران إلى دعوة ثالث - رأى صديقه جماعة يلعبون "السيجة بالبعر" على قارعة الطريق فزجرهم صاحبه.. فسكت أستاذي حتى دخلا بيت مضيفهما.. فإذا فيه تماثيل على نافورة ماء.. فإذا الصديق الشيخ لم يتكلم.. بل يستأذن نيابة عن المضيف في أن يستمعوا إلى اسطوانات غناء.. فقال له أستاذي.. ألعبة الفقراء بالبعر حرام يثيرك وهذا الذي ترى لا تنتقده؟ أما الذي تريد أن تسمع فإذا خرجت أنا فلكم ما تشاؤون.
واشترينا أول ما اشترى الناس - أقولها تصويراً لاستعداده للإفادة من كل جديد مذياعاً فلحظت أنه يستمع فيه إلى القرآن والحديث والأخبار فإذا كان الغناء قام من مجلسنا. وظننت مرة وثانية أنه قام لبعض أمره وفي الثالثة أحسست عمده.. فسألته هل الغناء حرام؟ فقال لا أريد أن أقول ذلك - ولكني أسألك هل يليق بي في مجلسي حيث أستقبل الناس أن أستمع إليه؟ قلت.. ربما لا.. قال فما أستحي من الناس فيه.. أولى أن أستحي فيه من ربي.. فعلمني أن العلم هداية.. كما تكون في العلن تكون في السر.
5- العلم أمانة..
ورغبت إلى أستاذي أن أقرأ عليه صحيح البخاري.. فرحب.. وقرأته عليه كاملاً يشرح.. وأسال ويجيب ثم طلبت إليه وأنا أعلم أنه ذو إجازات في الحديث أن يجيزني فيه فسألني هل حفظته بأسانيده عن ظهر قلب.. قلت لا.. قال.. ولا حفظت نصوص الحديث منه. قلت لا.. قال.. يا بني إن الإجازة في الأصل هكذا.. حفظ كامل يغني عن الكتاب وبذلك حُفِظَتْ السنة حتى كانت الكتب والمطابع.. وأن الإجازات التي تعلمها لدي لم أَرْوِ بها قط لأني أعتبرها إجازات مهداه فأنا كغيري من المعاصرين لا أحفظ كل كتب الحديث التي أجزت فيها ولا أعترف بإجازات هذا العصر.. فليس في العصر محدثون.. فكيف أجيزك؟.
وحضرت مع أستاذي -كبعض العادة- مجلساً كان يستقبل فيه الفيصل المُسَلِّمين عليه عقب كل صلاة جمعة بالطائف.. فقال الفيصل يخاطب الناس إنني لا أحب الذلة لشعبي فأحب أن يعف الناس عن عادة تقبيل اليد - فإذا بمهدي بك مدير الأمن العام يومذاك يقول.. يا سيدي إن الأبناء يقبلون أيدي آبائهم وإن الصحابة كانوا يقبلون يد النبي.. فإذا أستاذي يلتفت إليه في هدوء قائلاً يا مهدي بك تحدثت عن الآباء والأبناء فسكتنا أما عن النبي والصحابة فلست الذي يتحدث وإن صح ما قلت.. وهو غير صحيح كعادة فلا مجال للمقارنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي أحد مهما عظم وجل..
فإذا الفيصل يقول لمهدي بك اسكت.. اسكت يا مهدي أستغفر الله أين نحن من تراب أقدام النبي.
فعلمني أن العلم أمانة تؤدي في العلن وتصان في السر.
6- العلم كرامة..
وحين أراد أستاذي أن يزفني إلى عروسي فكتب لأصدقائه وتلاميذه يقول إن فلاناً يتشرف بدعوتكم لتناول طعام الغداء بعد ظهر يوم كذا في داره.. ودون أن يذكر السبب كالمعتاد في المناسبة لئلا يستقبل وفود الرافدين ومع ذلك كان لا بد من بعض هذا.. وكان البعض كثيراً لصداقاته وتلاميذه.. فوجدته يراجع كل رفد ليعلم مرسله.. وموقفه منه.. فإذا به يقول لي عن واحد منها أعيدوا هذا إلى صاحبه وكان صاحبه رجلاً مسناً من أعيان مكة ومن أصدقائه المترددين عليه كثيراً فسألته أَلَهُ لديك قضية.. قال لا.. قلت هل كانت له قضية يوماً ما قال لا قلت إذاً لماذا وهو من أصدقائك.. قال هذا تاجر ومن ذوي الأملاك.. ولعل أن تكون له قضية فلا أحب أن أعتذر عن النظر فيها يومئذ لسابق مِنَّةِ له علي.. فأعدنا الرفد ورفض احتجاج صاحبه في أدب واعتذار..
وما رأيته يتردد على زيارة ذوي السلطان.. ولا رغب إلى أحد قط في شيء لنفسه.
وكما كان يحافظ على كرامته.. كان يكرم غيره.. يأبى على أحد أن يقبل يده.. كما تعود الناس أن يقبلوا أيدي العلماء ويضيق عندي. بحب فلان وفلان وكانا من خاصة تلاميذه ومحبيه لأنهما قويّا البنية ويستعملان القوة التي لا يطيق الإفلات منها في الإمساك بيده وكان يأبى على ابنه أن يحمل نعله إذا دخل المسجد وكنت معه في زيارة رجل ذي منصب ديني كبير فلمحته يومئ إلي فقبلت يد الشيخ طاعة له.. ثم لما خرجنا قلت له.. لماذا أردتني على ما تكره لنفسك من الناس؟ قال.. يا بني نظرت إلى سنك وسنه.. فهو في سن جدك وإلى منزلته لا ذاته. قلت إذاً فاسمح لي أن لا أعاود زيارته قال لا ولكن لك ما أردت.
فعلمني أن العلم كرامة.. كرامة للعالم في ذاته وكرامة منه إلى الناس.
7- العلم فضيلة..
وكان نظيف النفس ما أحسست له هوى.. نظيف العشرة ما رأيته في البيت إلا كأكرم الرجال.. نظيف الوجه لا يستقبل أحداً بما يكره.. نظيف اللسان ما شتمني.. ولا شتم أحداً قط ولا ذكر أحداً بسوء فإذا جاء ذكر حادثة لا يرضى عن موقف صاحبها مر به مراً سريعاً.. أو جاء ذكر من ليس له فيه رأي حسن تغافل عنه أو أسرع إلى الحديث في غيره حتى علمت معنى ذلك بكثرة ما كان يكون بيننا من حديث نظيف المشاعر ما أحسسته كارهاً لأحد ولا حاسداً لأحد ولا عائباً في أحد.
فعلمني أن العلم فضيلة.. والفضيلة في كل شيء.
8- العلم سلوك حياة..
وكان لطيف النكتة على قلة يختص بها أهله وزملاءه من العلماء، طلق المحيا في وقار واستحياء نظيفاً في يده نظيفاً في أوراقه وكتبه منظماً في أوقاته ورياضته.. يقوم بحركات سويدية خفيفة كل صباح ويخرج للنزهة كل عصر ويمشي مائة خطوة على الأقل في غرفة نومه كل مساء بعد العشاء. وما كان جسمه في حاجة إلى رياضة شاقة.
وما أسرف قط.. ولا شح قط -ولا أعرف أنه استدان قط- وكان يزور أصدقاءه المتواضعين وكان له منهم طلبة علم يسكنون الأربطة فما رأيته أكثر بشاشة منه في زيارتهم -وسكنا منزلنا في أجياد فكان من عادة أهل محلتنا "بئر بليلة" أن يجتمعوا ثاني يوم عيد الفطر في دار جار لنا.. ويبدأوا بزيارة أستاذي ثم يمشون مجموعة واحدة إلى بيوت بعضهم فكان يخرج مع مجموعتهم من بيتنا ليزور في مجموعتهم كل بيت منهم.
فعلمني أن العلم سلوك حياة، سلوك في كل جوانب الحياة.
9- العلم رسالة..
وكان أستاذاً في مدرسة الرشدية -المدرسة الوحيدة- في الحجاز يومذاك التي أنشأتها الحكومة التركية بمكة فإني لا أدري أكان للدولة مثلها في المدينة يومئذ؟ فلم يمنعه ما يظن من تعصب أستاذ المسجد الحرام من قبول تدريس اللغة العربية فيها على ما كان من تدريس كل العلوم فيها باللغة التركية.. حتى اللغة العربية فقبل أن يدرسها على هذا النحو وكان يجيد التركية ثم صار أستاذاً بمدرسة الفلاح وجعل مؤسسها الكبير محمد علي زينل الإدارة فيها قرعة بين أربعة من الشيوخ هم.. أستاذي والسيد محمد طاهر الدباغ والطيب المراكشي وعبد الله حموده -يرحمهم الله جميعاً- فروى لي أن القرعة كانت تصيب كل عام الشيخ عبد الله حمودة وهو في نظره أصلحهم لها ولزمانه وإن كان ليس أعلمهم ولكنه كشأن العلماء لا يستحي أن يتلقى دروساً خاصة على بعض مشائخها ومنهم أستاذي وأن القرعة أصابت مرة الشيخ محمد طاهر الدباغ فكانت إدارته تسبق زمانه.. وأصابت الشيخ الطيب المراكشي فكانت إدارته لا تلاحق زمانه.. أما هو فيحمد الله باسماً وراضياً من كل قلبه على أن القرعة لم تصبه أبداً وظل هذا الأمر بين هؤلاء المشايخ الكبار الكرام سراً لا يعلمه الناس حتى لا يهتز به شأن الإدارة.
ثم لما صار إلى إدارة المعارف رأيت الحاج محمد علي زينل في زيارته ومعه الأستاذ عبد القادر عثمان وسمعته يقول لأستاذي.. كنت أحب أن تظل مدرسة الفلاح مستقلة في إدارتها دائماً أما وقد صار أمر المعارف إليك فإني أحب أن أضيفها إليها فقال له أستاذي.. ولكني أحب لها أن تظل مستقلة تخليداً لجهدك وفضلك على العلم..
وشارك أحد بناة نهضتنا المرحوم الشيخ حافظ وهبه أول الأمر في إدارة المعارف ثم استقل بها فصار يجمع الكتاتيب في مكة ليكون منها المدارس التحضيرية -الابتدائية بتسمية اليوم- ويجعل أصحابها مدرسين فيها. وهكذا بقية المدن ويحرص على تشجيع المدرسين والناشئين من المواطنين وحسن توجيههم ويذكر له ذلك منهم كثير.
وقبل إدارة المعارف رشحه أحد العلماء الذين تعتز بهم بلادنا وهو في الوقت نفسه أحد الرجال الكبار الذين كانوا من حول مؤسس هذه الدولة العبقري هو الشيخ عبد الله بن بليهد -رحمه الله- رشحه ليكون وكيلاً له كرئيس للقضاة بعد أن استمع كعادته إلى المدرسين بالمسجد الحرام ومن ذلك عرفه.
وانتقل أستاذي من منصب إلى منصب ومن راتب إلى راتب فما حاول قط أن يطالب بحق مكتسب ولا بعلاوة شخصية ولا تخلف عن عمل ولا استجاز لراحة إلا في مرض موته أعطيت له دون أن يطلبها ولم تطل الإجازة.
بل لقد اعتذر عن رئاسة المحكمة الكبرى بمكة لأعبائها وصحته فأحدث الملك عبد العزيز وظيفة معاون رئيس المحكمة وطلب إليه القيام بها لأنه يريده للقضاء لا للإدارة فقبلها غير مستنكف ولم ينقص ذلك من قدره لدى من عين رئيسها وكان من أفاضل أقرانه علماً وأدباً هو العلامة الشيخ أحمد قاري -رحمه الله- بل عامله معاملة المرؤوس لرئيسه على طريقة الكبار في تبادل طبائع الكبار وكرّمه الملك عبد العزيز على ذلك فعينه إلى جانب هذا رئيساً للجنة العليا للترقية والتأديب لكبار الموظفين وكان أعضاؤها المديرون العامون للمعارف والأوقاف والمواصلات والمالية وغيرها.
واهتم الفيصل بالطائف وأراد له أن يكون مدينة كبيرة على نحو ما نرى الآن فبدأ مشاريعه فيه بالعناية بقضائه ووجه إلى أستاذي كتاباً كريماً يثني عليه فيه أعطر الثناء ويشرح له وجهة نظره هذه ويختاره -على ضوء هذه النظرة- رئيساً لمحكمة الطائف فانتقل إليها راضياً على فرق الأوضاع الإدارية.. فأكرمه الفيصل على عادته معه إكراماً أدبياً فلم يكن لأستاذي بالمادة صلة غير راتبه الذي يتقاضاه ولا يفكر فيه زاد أو نقص بما لا داعي لذكره حتى لا أنتقل من التجربة العلمية في شخصه إلى الاعتزاز بذاتيته وأثابه عالم السرائر فجعل الطائف شفاءه من أمراض الربو والروماتيزم.
وما رأيته ساخطاً قط. ولا متبرماً قط، ولا ضائق النفس بشيء.. دائم التفاؤل بمستقبل الحياة للوطن وأن السبيل إلى ذلك عنده نشر العلم والمعرفة والتوعية ولكنه لم يكن ينتظر لنفسه جديداً أبداً.. ولم يختلف شعوره بنفسه ولا شعور ولاة الأمر والناس به على اختلاف المناصب والظروف كان هو هو في نفسه وكان ذلك الشيخ الذي يعرفون في نفوسهم.
وقد روى لي ضاحكاً من نفسه قال.. كنت أطلب العلم على مذهب أبي وهو مذهب المالكية ونظرت فرأيت مذهب الدولة والقضاء وأعيان المجتمع هو المذهب الحنفي فرأيت أن أدرسه فدرسته ثم رأيتني أَلُوم نفسي أن يدخل شيء من شؤون الدنيا إليها في الدين فرجعت إلى مذهب المالكية وظللت أنتسب إليه فلما وليت القضاء كان على مذهب الحنابلة ولكن ذلك ساعد على الإحاطة بالمذاهب الأربعة إلى جانب ما تعلم من حرصي على الإطلاع على غيرها. وظللت أنتسب للمالكية ومفتياً لهم حتى أخلص نفسي من الشائبة الأولى على ما آخذ به نفسي من الاجتهاد.
وأقام أحدهم دعوى على أخي الأعز الأثير الأستاذ حمزة بصنوي فلم يتنحَ أستاذي عن نظر الدعوى لمنزلة أخي لديه كابن وحكم عليه حين اعتقد الحق في ما حكم وبعد أن تلا الحكم قال لكاتب الجلسة ولدى تلاوة الحكم على المدعي عليه قرر عدم اقتناعه به وطلب رفعه للتمييز إعفاء له من الاستحياء من مزاولة حقه هذا أمامه.
وما سمعته قط يحدث أحداً بما كان منه في ماضي حياته أو حاضرها ولا ينقل حديثاً قاله في مجلس أو سمعه إلى أحد ولكنه كان يفضي إليّ بما قد يجر إليه حديثنا الخاص من تاريخه معلماً ومؤرخاً وهو الأقل مما شهدته وأطلعت عليه من أمره.
فعلمني أن رسالة العلم يؤديها المعلم في كل مجال ويسعى إلى أدائها على كل نحو مشرف ولا يستحي في أدائها من قريب أو صغير أو كبير وبعيد. ولكنه كان يقول الحق ويفعله بحق الحق من الأدب وبحقه من إخلاص النية فيه فعلمني أن لا تقال الكلمة ليقال من ذا قالها فإذا ساقني الحديث عنه إلى الحديث عن غيره فما أردت أن أعمد إلى ذلك ولكنها الحقيقة تفرض نفسها حيث تكون.
هذه صورة موجزة في كل جانب مما يمكن أن يقال من تجربتي مع معلمي وأستاذي المشرف فحياته كانت مليئة بالأمثال وهو في الوقت نفسه كان واحداً من أساتيذ الجيل الشيخ في بلادنا وقد جهدت طوال حياتي أن أكون صورة مصغرة عنه في كل جوانبه فلم أفلح لأن ذلك فوق الطاقة بين الرجال ولكنه -بحمد الله- استطاع بقدرة المعلم فيه أن يصنعني شيئاً منه في بعض جوانبه ومعذرة أن أقول ذلك بلا تواضع وإلا كان تواضعي اتهاماً له بالعجز وضعف الأثر وسقوطاً لحجة التمستها من حياته.. ولولا أنه ليس من حقي أن أقرر اعتراف أحد بأستاذية أحد عليه لالتمست الحجة الأفضل لأثره في كثيرٍ هم مني أفضل ولكني أترك الحديث عن ذلك لهم.
ولئن كان من حظي أن يكون أبي الروحي هو أبي بالنسب فذلك مصادفة أحمد الله عليها ولكن حقه عليّ يحتم أن لا أستحي من الحق له وذلك هو حق الحق مجرداً عن هذه الرابطة الذاتية.
إن القدوة الحسنة صور من الحياة يتتلمذ عليها طلبة العلم وهي كما قلت طريقة أسلافنا التي أخذوا بها العلم وهي بعد - أحدث الطرق النفسية والتربوية التي دعم بها أمثال ديل كارنيجي كتبه المشوقة.
فسر المهنة في حياة المعلم:
أن يكون العلم في ذات المعلم وعلى يديه غاية.
أن يكون العلم في ذات المعلم وعلى يديه هواية.
أن يكون العلم في ذات المعلم وعلى يديه رواية ودراية.
ليتحقق بذلك معنى العلم في حياته الفكرية.
ثم
أن يكون العلم في ذات المعلم وعلى يديه هداية.
أن يكون العلم في ذات المعلم وعلى يديه أمانة.
أن يكون العلم في ذات المعلم وعلى يديه كرامة.
ليتحقق بذلك معنى العلم في حياته الذاتية.
ثم
أن يكون العلم في ذات المعلم وعلى يديه فضيلة.
أن يكون العلم في ذات المعلم وعلى يديه رسالة.
ليتحقق بذلك معنى العلم في حياته العامة.
ومن ثمّ
ليستطيع أن يجعل العلم في حياة طلبة العلم وذواتهم. غاية. وهواية، ورواية، ودراية، وهداية، وأمانة، وكرامة، وفضيلة، وسلوك حياة، ورسالة.
ليتحقق بكل ذلك معنى العلم في حيواتهم الفكرية والذاتية والعامة.
هكذا ينبغي أن يكون العلم حياة للمعاني وأمثلة رائعة للنظريات وتطبيقاً قويماً للقواعد حتى تتوالد الأجيال فالأمة التي تعود بنا سيرتنا الأولى نوراً يمشي على الأرض وإنساناً يشرف حقيقة الإنسان.
أما حين يكون العلم مادة بلا روح وقواعد بلا تطبيق ونظريات معطلّة فلن يلد إلا أمماً ضعيفة أو فاجرة أو أسوأ من ذلك حين تكون صورة مزدوجة من الضعف والفجور.
من أجل ذلك.
كان على الدولة أن توفر لرجال التعليم أرقى المراتب والدرجات وأن تحقق لهم الرفاهية في أنفسهم وفي مجال عملهم عاملاً مساعداً على التفرغ وصفاء النفس من أكدار الظروف وخلوصها لمهمتها السامية في المجتمع وإذا كان الفقهاء قد نصوا على ما يعني ذلك في حق القضاة رعاية لحقوق المجتمع بين أيديهم فإن صانعي الرجال أهل لذلك الحق رعاية لحق الأمة عليهم وتقديراً لمسؤولياتهم تجاه هذا الحق.
ومن حق الدولة أن نعترف لها اليوم - إنها قد عملت من أجل الفريقين الشيء الكثير ولكن الطموح إلى أعلى والتطلع إلى أحسن حق الناس من الحياة وقادة الحياة.
ومن أجل ذلك أيضاً..
كان لزاماً على الأمة وهي تضع أماناتها في أعناق هؤلاء الرجال أن تمنحهم من الثقة القدر الكفيل بهذه الأمانات وأن تخفض لهم أجنحة الحب من التكريم (كما تضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم) كتعبير الرسول العظيم وأن يأخذوا من صفوفهم المقدِّمة لأنهم المعلمون.
وعلى المعلمين.. مدرّسين وقضاة ورجال فكر..
أن يحملوا من المسؤولية بقدر ما يريدون لأنفسهم من الصلاحية.
وأن يحملوا من العبء بقدر ما يريدون لأنفسهم من التقدير.
وأن يعطوا من أنفسهم بقدر ما يحبون أن يأخذوا من قلوب الناس.
وأن يكونوا فوق ذلك الكرماء.
فإن كرامة الرسالة بقدر ما تعطي لا بقدر ما تأخذ.
وإذا كنت قصرت حديثي في معرض التجربة الشخصية على أستاذي المشرف فما أتناسى بذلك حقوق معلمي في التحضيرية والابتدائية والمعهد العلمي السعودي وتحضير البعثات فأغتنم هذه الفرصة التي كنت أتمنى أن أجدها فأكرم في هذا الحديث عن العلم والتعليم أساتذتي ومعلمي وأعلن في اعتزاز أسماء لها في النفس مخلفاتٌ ثمينة. مصطفى يغمور.. السيد علي جعفر، عبد الله خوجه، محمد عبد المولى، أحمد إبراهيم فوده، إبراهيم وهبي، محمود مرزا، عبد الله الساسي، صدقة منصوري، أحمد زهر الليالي، إبراهيم الهويش، محمود قاري، محمد حلمي، محمد شيخ بابصيل، السيد أحمد العربي، السيد إسحاق عزوز، عبد الله عبد الجبار، أحمد سليمان رشوان، السيد محمد أحمد، حسين الحوت، فلقد كانت لهم جميعاً صور رائعة من التوجيه والإخلاص.
فتحيتي إلى الذين افتقدناهم في مراقدهم.. دعوات بالرحمة والرضا والغفران. وتحيتي إلى الأحياء في مقاعدهم.. دعوات بالصحة والتوفيق وطول البقاء.
مصحوبة إلى الفريقين.. بالتقدير والحب والعرفان.
وإلى معلمي الجيل الصاعد.
وإلى معلمي الأجيال المقبلة.
أسوق الحديث: ليكن همهم صناعة الرجال فإن الثقافة لا تعرف حدوداً قد تقف بحامل شهادة الدكتوراه حتى ينتهي إلى الخلف فان من لم يتقدم يتأخر كما يقول المثل الإنكليزي لأن العالم والعلم لا ينتظرانه. لا يقفان حيث تركاه. لا يجمدان على كل ما قرراه بالأمس واليوم. لا ينتهي تاريخهما عند يوم إلا في يوم مجهول علمه عند ربه وقد تصعد الثقافة بحامل شهادة الابتدائية إلى ما فوق الدكتوراه.
وأمثلة ذلك رأيناها من قبل وستطالعنا في كثير من بعد.
فليكن همهم صناعة الرجال الذين لا تصنعهم أوراق هذه الشهادات ولا تحدهم وإنما يصنعون في ذواتهم وحيواتهم "الشهادة للعلم".
إنني بهذا لا أجحد جهود أصحاب هذه الشهادات ولكني أقرر معناها الحقيقي أنها البداية المتفاوتة من طريق المعرفة الطويل وليست الغاية مهما علت بل إنها تكون كذلك عند صاحبها كلما علا.
فليكن همّ المعلمين صناعة الرجال. فإن صناعة الرجال هي إكسير سر المهنة في حياة المعلم الذي مجَّده صانع الأجيال صانع المعلمين. معلم الإنسانية الأعظم صلى الله عليه وسلم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1761  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 1253 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج