شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأدب والأيديولوجيا
لم تكن المتعة في الأدب بجميع فنونه هي الهدف الأول والأخير، كما يتصور بعض المنظرين للأدب والنقد في عالمنا العربي وعلى وجه أخص (الحداثيون) منهم، نعم لم تكن هي الهدف عند كثير من أولئك الأدباء الغربيين الذين يعجب بهم دعاة التجديد ضمن دائرة الأدب العربي، ولم يكن القول - لمجرد القول - ودون أن يكون له ذلك الارتباط القوي بتوجه صاحبه أو منطلقه العقائدي والفكري، لم يكن الأمر كذلك إلا في أذهان من لم يعرفوا من الأدب الغربي إلا صوره وأشكاله الخارجية، وإذا أردنا أن ندلل على ذلك فلن تعوزنا الأدلة أو ينقصنا البرهان. فالمرحلة الثانية من الحياة الفنية لشاعر الإِنجليزية الأول (ت. س. إليوت) وهي ما يطلق عليها النقاد مرحلة الغَضَب واليأس والحزن، وهي مرحلة الدعوة للعقيدة عند هذا الشاعر، فلقد اعتنق أليوت الكاثوليكية على طريقة الإِنجليز لا على طريقة روما، وتنازل عن جنسيته الأمريكية وتجنس بالجنسية الإِنجليزية، وأعلن في الناس أنه لا يقر المبادئ الجمهورية التي تسير عليها الولايات المتحدة وجهر بأنه محافظ يحافظ على التراث الإِنساني من التجارب الخطيرة الجديدة. وفي عام 1930م طلع على الناس بمجموعة جديدة من القصائد هي (أربعاء أيوب) وحْيُها مُسْتَمدٌ من الرُّوحُ الكاثوليكية، ومن بعدها مسرحية شعرية هي (جريمة قتل في الكاتدرائية) تصوِّرُ مَقْتَل القدِّيس (توماس بيكيتو) في العصور الوسطى.
وهو أي (إليوت) - له أيديولوجيته الدينية التي ينطلق منها في كثير من أعماله وخصوصاً في عمله المعروف (الأرض الخراب) لذلك هاجمه بعض الشيوعيين والليبراليين العرب الذين يتصورون الحياة دوماً من دون عقيدة ومنهاج، فهذا لويس عوض يقول معلقاً على كتاب إليوت المعروف (مقالات مختارة): فهو - أي إليوت - ينظر إلى الكنيسة نظر الماركسي إلى الدولة الشيوعية أي يعدها غاية الحضارة ودعامتها الأولى، وهو يخلط بين قيم الدنيا وقيم الدين، حتى ليقحم الكنيسة في أخص شؤون الحياة الشخصية والاجتماعية كضبط النسل مثلاً فيقول في ((مقالات مختارة)): ((إن في هذه المسألة قبل سواها لا مفر للإِنسان من أن يستهدي بالمشتغلين بالشؤون الروحية، فنداء الضمير والحكم الشخصي لا يعوّل عليهما، كذلك ينبغي أن نقدم مشورة القساوسة على مشورة الأطباء بصفة قاطعة لأن مشورة الأطباء مضطربة)).
هذه آراء من اتخذه الحداثيون العرب إماماً لهم في تجاربهم الشعرية وعدّوا قصيدته (الأرض اليباب) دستوراً لا يحيدون عنه، فإما أن يكونوا لم يقرأوه أصلاً، وإما أن يكونوا قد قرأوه ولم تمكنهم وسائلهم من كشف ومعرفة ما ترمي إليه قصائده. ونحن هنا لا نحاكم إليوت على ولائه لتراثه، وتمسكه بعقيدته ودعوته الآخرين للاقتداء به، ولكننا نشعر بحسرة وأسى كبيرين على التفريط الذي نجده عند الفئة الحداثية في عالمنا العربي، تفريطها في تراثها، وخجلها من كل ما يمت بصلة لدينها ورموزها التاريخية، ونتعجب من قول بعضهم إن الشعر الذي يتضمن مسحات دينية ويستمد تعابيره من عقيدة الإِسلام الصافية مكانه هو منابر الوعظ والإِرشاد. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نعتبر إنتاج (إليوت) وخصوصاً قصيدته (الأرض الخراب) وهي مملوءة بالتراث الكاثوليكي المسيحي، لماذا لا نعدها وعظاً وإرشاداً؟ ولماذا هذه الجلبة والضوضاء؟ ولماذا نحتفي بروايات الكاتب اليهودي العقيدة - الألماني الأصل - فرانز كافكا وهي روايات كتب بعضها أصلاً باللغة اليهودية القديمة ((اليدشية)) وهي في بنائها تدور على التبشير بميلاد دولة صهيونية دينية؟ نعم، لماذا نحتفي بهذا الإِنتاج الغربي كل الاحتفاء برغم وضوح الروح الدينية فيه، وتشبعه بالأيديولوجيا الخاصة، ثم نهاجم كل عمل روائي في أدبنا تشم فيه رائحة العقيدة والدين؟
ألا يكون الأولى بنا أن نحتفي بما نجد في ثنايا حقيقة أنفسنا ونستطيع من خلاله الوقوف على هويتنا الشخصية ورموزنا العظيمة التي لا تستطيع الرموز الأخرى أن تشابهها أو حتى مجرد الدنو منها؟
محوران للأدب:
يقول الناقد الإنجليزي جورج واتسون في كتابه المعروف ((الفكر الأدبي المعاصر)): إن البنيوية في أوج ازدهارها ادعت أنها تفسر جميع الحقائق البشرية، أو على الأصح أنها على وشك أن تفسر كل شيء ثم جاءت بعد ذلك أفكار شمولية أخرى مماثلة، أفكار ((يونج)) و ((تياردي شاردان))، و ((مارشال مكلوان)) و ((نورثروب فراي)).
فمنذ أن حاد العقل الأدبي عن طريقه المعهود نتيجة لانهيار الإيمان بالدين منذ أكثر من قرن مضى حتى الآن وهو يسعى طوال الوقت باحثاً عما يستعيض به عن ذلك ((الإِيمان المفقود)) هذه هي عبارات واحد من أعمدة النقد الأدبي في الغرب، ولا يستطيع أحد أن يوجه إليه تهمة القصور في فهم التيارات الأدبية الغربية وما تنطوي عليه من إيديولوجيات، كما لا يمكن أن يصمه أحد بتهمة التحامل على الفكر الأدبي الغربي، لأنه ينتمي إلى تلك البيئة الفكرية وهو أحرص ما يكون على دفع التخرّصات حول القضايا المتصلة بها إن وجد نقداً لا يتصل بسبب من الأسباب الموضوعية العلمية المتوخاة في عملية النقد هذه.
نحن إذن إزاء محورين هامين يمكن من خلالهما النظر إلى الأدب الغربي وما يتصل به من إيديولوجية لم ينكرها عليه النقاد من أبنائه أو المنتمين إلى دوائره انتماءً حقيقياً.
المحور الأول هو (( الدين )) حيث كان له حضور قوي وبارز في الآثار الأدبية المشهورة عالمياً كما دللنا عليه من خلال أعمال الأديب الإِنجليزي المؤمن بمسيحيته إيماناً قوياً وهو (ت.س. إليوت).
أما المحور الثاني فهو المتصل بالمذاهب الأدبية الغربية التي دعاها الناقد الإِنجليزي جورج واتسون بالأفكار الشمولية، وعزا تتابع ظهور هذه المذاهب إلى سبب هام وجوهري وهو انهيار الإِيمان بالدين، وبعبارة أخرى أن هذه المذاهب لا يمكن تجريدها من الأيديولوجية كما يدعي البعض في عالمنا العربي، بل هي تحمل الأيديولوجيا مما جعل ((واتسون)) يؤكد أن أنصار هذه المذاهب زعموا أنها قادرة على تفسير كل شيء، والذي يفسر كل شيء هو الفكر الأيديولوجي وليس الفكر الأدبي.
إن الذي ينقص رواد الحداثة في عالمنا العربي هو قدرتهم على الاعتراف بأن هذه المذاهب الأدبية الغربية ((كالبنيوية مثلاً)) ليست منهجاً أدبياً خالصاً، بل هي تحمل من الفكر الذي انبثقت عنه في البيئة الغربية والأيديولوجية التي ارتبطت بها وتحاول التعبير عنها، هي تحمل من ذلك كله أضعاف ما تحمله من قدرة على تفسير الأعمال الأدبية ومحاولة فهم أسرارها، أو توضيح جوانب المتعة الفنية فيها. كما ينقص هؤلاء أيضاً تلك الشجاعة على الاعتراف بجوانب الضعف التي تعتري هذه المذاهب، فهي وليدة الفكر البشري وليست وحياً إلهياً منزّلاً، ولكن بدلاً من أن يوضح المتحمسون لهذه المذاهب - وهو يبدو في كثير من الأحيان، حماساً ناتجاً من الصدمة الحضارية، أو العقد النفسية أكثر من أي شيء آخر - بدلاً من أن يوضحوا كل الجوانب المتعلقة بتلك السياقات الحضارية والاجتماعية التي نتجت منها وتسببت في بروزها في حقبة معينة ثم في اختفائها أو تلاشيها في حقبة أخرى، بدلاً من ذلك فإنهم أحاطوها بهالة من التقديس، وأقاموا حولها الحصون والمتاريس وكأن هذه النظريات الغربية هي من نتاج أنفسهم وإبداعات أفكارهم، وهو الأمر الذي يجعل الإِنسان يشعر بكثير من الشفقة والعطف عليهم، فخيالاتهم جامحة، وأوهامهم متعددة، وعقولهم منغلقة، وهم أبعد ما يكونون عن الواقع الذي تعيشه أمتهم في تراثها وفكرها وأدبها.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :999  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 204 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.