شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الصّلاح في دهليز بيتنا
بينما كان الحج عبد الرحيم، يُضجِع خاتون على الطُّوّالة، كانت الصغيرة (ماشاء الله) تقف وهي تدعك عينها بحُمع يدها، واليد الأخرى في يد (بيبي روحية) العجوز، وأمي تهمس كلاما بالتركية لم أفهم منه شيئا، ولكنّي رأيت منكشة تسرع باللمبة العّلاقي تشيّع الخالة فاطمة بدرية إلى الدهليز،... تابعت بدرية وهي تودّع أمي، وقد انتشرت على ملامحها مسحة الارتباك أو هو الخوف من كل الذي سمعته من منكشة، ثم من الحج عبد الرحيم الذي استطاع أن يفرض وجودَه مع أسرته في المجلس، لتنام فيه هذه المجموعة من أهل بيته. وقبل أن تأخذ طريقها في نزول السلالم، التفتت بدرية إليّ.. وقالت:
:ـ. لا تنس يا عزيز... انت رجّال البيت...
وكانت تلك هي الكلمة التي سمعتها لأول مرة من أمّها الخالة فاطمة، وأصبحتُ بعدها التمس كل تصرف يؤكد أني هذا الرجّال...
وقبل أن نعود أنا وأمي إلى المجلس، كان الحج عبد الرحيم يتعجّل الهبوط إلى الدهليز وقد حمل تحت إبطه أحد المساند، من المجلس، وهو يقول:
:ـ. هادا المسند كفاية... ما في لزوم شيء تاني أبدا...
ثم قبل أن يرى منكشة تصعد، وفي يدها اللمبة، رفع صوته عاليا يقول:
:ـ. ممكن يا بنت شيخ افندي، هادي اللمبة في الدهليز؟؟؟
وتكفّلت منكشة بالرد العاجل اذ قالت:
:ـ. مِسْرجة... مِسْرجة موجود حج عبد الرحيم.
ولم تعلّق أمي بشيء... بل دخلنا المجلس، لنرى الصغيرة (ماشاء الله) مضطجعة بطولها في وسط المجلس، و (البيبي روحية) منكفئة على خاتون، تحاول تفويقها من حالة الاغماء التي ما زالت تلازمها... بدتْ أمي مرتبكة ومتضايقة من الظرف الجديد الذي وجدتنا فيه... تقدمت من الصغيرة (ماشاء الله)، وحملتها لتضعها جانبا... ثم اتجهت إلى خاتون.. ويبدو أن أمي لم تر (بيبي روحية)، أو تتعرف بها من قبل... وهذه (البيبي) من جانبها بدَتْ مشغولة بايقاظ خاتون من غفوتها أو هو اغماؤها فلم تلتفت إلى أمي وهي تراها تجلس إلى جانبها... وبدأت أمي تنادي خاتون بصوتٍ أقرب إلى الهمس، وتربت خدّها بيدها.
:ـ. خاتون... خاتون...؟؟؟
فإذا بـ (البيبي) تلتفت لأرى أنا وجهها لأول مرة... كانت عجوزا حادّة السمرة وقد تلفّعت بالحجاب الهندي الذي يسمونه (الجامة)... إلا وجهها الأسمر الذي ازاحت عنه ما يحجبه، وقد تناثر عليه، شعرها متهدلا على الصدغين إلى العنق... كانت عيناها واسعتين جاحظتين، تحت حاجبين مقرونين بالغي الكثافة... ويبدو كأنها لم تَرتحْ لوجود أمي إلى جانبها، ولا إلى نداءتها الهامسة المتكررة... فلم يطل بها الأمر حتى أمسكت بيد أمي تمنعها أو توقفها عن أن تربت وجه خاتون.... وكانت حركةً لم تخل من عنف وتوتّر.
رأيت ملامح أمي يغشاها ذلك التعبير الذي أعرفه حين تتوتّر وتغضب... حتى لقد خشيت أن لا تتردد في صفع العجوز، أو دفعها إلى الوراء... ولكنهّا تذرّعت بالصبر.. وابتعدت ثم نهضت، وأخذت يدي في يدها ـ وتلك هي عادتها ـ واتجهت بي إلى الجانب الذي فيه النافذة التي تواجه شبّاك منزل الخالة فاطمة... وجلست ثم أجلستني إلى جانبها... بينما كانت الدادة منكشة تجمع أطباق التعتيمة، وأكواب وبرّاد الشاهي... ولأول مرة منذ عرفت الدنيا سمعت صوت خروج الريح طويلا آتيا من حيث انكفأت العجوز على خاتون... صوت لا أدري حتى اليوم ان كان من المغمى عليها خاتون، أم من الـ (بيبي) العجوز... وما هي إلا لحظات حتى امتلأ جو المجلس برائحة بالغة العفونة، مما اضطرنا ـ أمي وأنا ـ أن نمسك أنفينا بأيدينا وراح كل منا ينظر إلى الآخر... ولا أشك اليوم، أن أمي في تلك اللحظة، كانت تفكر، كيف سيطيب لنا النوم إذا تكرر خروج مثل هذا الريح، وانتشار هذه الرائحة الكريهة في المجلس.. وليس هناك مكان آخر يمكن أن ننام فيه نحن، أو ننقل إليه هؤلاء. ولكن ما أكثر وأشد ما زحمنا الضحك حين رأينا منكشة لاتكاد تخطو في الغرفة خطوتين حتى بدا عليها الاشمئزاز، وتجعّد أنفها تعبيرا عن ضيقها بالرائحة... ولم تسكت بل سرعان ما قالت بالتركية كلاما معناه:
:ـ. ما هذا... ماذا في الغرفة؟؟؟
ضحكنا... وأدركت منكشة من نظراتنا في اتجاه الـ (بيبي) وخاتون، أن احداهما مصدر الرائحة... كما أدركت أن أمي متضايقة جدا... فأسرعت تقول بالتركية ما معناه:
:ـ. ما دام الحج عبد الرحيم ينام في الدهليز... فلماذا لا ينام هؤلاء أيضا معه؟؟؟؟
ولكن أمي رفعت اصبع السبابة إلى فمها تحذّرها مما تقول... فالتزمت منكشة الصمت وهي تردد بعربيّتها المكسرّة:
: لاحول ولا قوة الا بالله.
وأخيرا استيقظت خاتون من غفوتها أو هو اغماؤها الطويل... وسمعناها تتحدث إلى (البيبي) باللغة الهندية، لتلتفت العجوز وهي تقول:
:ـ. باني... باني...
ولا أدري كيف فهمتْ أمي أن (باني) هذه التي رددتها العجوز بعصبية واستعجال، تعني (الماء)... اي أن خاتون تريد أن تشرب ماء... وأسرعت مَنَكْشة... وجاءت بكأس الماء. ولأول مرة رأيت خاتون، تجلس حيث هي، وتدير نظراتها حولها، بينما تناولت كأس الماء وأخذت تشربه بلهفة عبّر عمّا كانت تعانيه من الظمأ... ولكن قبل أن يفرغ ما في الكأس... فتحت كفّها ودلقت ما بقي فيه، ولطمت به وجهها... وهي تقول:
:ـ. اشهد ان لا إله إلا الله...
وكأن العجوز، وقد سعدت باستيقاظ خاتون، قد حققت إنجازاً كبيرا، لم تجد ما تعبّر به عن سعادتها إلا بأن ترفع كفّيها ورأسها إلى سقف الغرفة، وأن ترفع صوتها بأدعية (منغّمة).
ولكن خاتون قاطعتها، حين التفتت إلى أمّي تسألها عن حالها، وبطبيعة الحال بدأت الأخبار عن الموتى من أهلنا، واحداً بعد الآخر... والتعقيب، على خبر كل منهم هو كالمعتاد
:ـ رحمة الله عليه... رحمة الله عليه.
وعقبت بعد ذلك خاتون تقول:
:ـ. يعني دحّين ما بقي منهم أحد؟؟؟ غيرك انتي وهادا الولد.؟؟؟
:ـ. ايو.. ما بقي منهم أحد... كلهم... كلهم راحو..
وعن أخبار خاتون، لم يكن هناك موتى... فزوجُها أبو ابنتها (ما شاء الله).. مايزال في الهند... والحج عبد الرحيم أبوها، تزوّج في الهند... وزوجته سوف تجيء مع زوجها بعد أسابيع... أما هذه الـ (بيبي روحية) فهي خالتها أخت أمها... وقد جاءت لأداء فريضة الحج، وزيارة الرسول... ثم يمكن أن تعود إلى الهند...
كل هذه الأخبار، لم تكن ذات بال بالنسبة للأهم، والأكثر اثارة وغموضا، وهو حكاية (الصُّلاّح... المشايخ)، الذين قال الحج عبد الرحيم، ان (خاتون شافتهم) و (طاحت ما تدري عن نفسها...) و (زيّها كمان ((ماشاء الله)))... وأنّه هو (ماشافهم... ولكن سمعهم كلّهم يقرأون دلائل الخيرات)..
أنا من جانبي، لم يكن قد بقي في ذاكرتي شيء من هذه الأخبار... ربّما لأني بطبيعة سنّي لم أكن أفهم ماهم أو مَنْ هم هؤلاء (الصلاح) !! وكيف يتواجدون في البيت المهجور؟؟ ثم كلمة (مشايخ) هذه... تُلمح قليلا إلى أنهم رجال يرتفقون على رؤوسهم عمائم كتلك التي كان يرتفقها جدي أحمد صفا... أو كتلك التي رأيتهُا على رؤوس كثير من الرجال يوم ذهبت مع أمي إلى المسجد النبوي الشريف... فما الذي يخيف الحج عبد الرحيم، وقبله خاتون منهم؟؟؟ ما هي (دلائل الخيرات) التي سمعهم الحج عبد الرحيم يقرأونها؟؟؟ وبينما كانت أمي تسأل خاتون عن مواضيع مختلفة انتهت بعدها إلى حكاية (الصلاّح...)، كنت أنا مشغول الذهن بحكايات الأموات... الموتى... وليس الذين تحدّثت عنهم منكشة في المدينة، بل عن جميع الموتى الذين اختزنت ذاكرتي عنهم اعدادا كبيرة، رأيتهم ينقلون مكدّسين في تلك العربات الطويلة التي تجرّها البغال، ليدفنوا هناك في تلك المقبرة، وراء أو في محاذاة الرابية الخضراء التي جمعت منها الخبيزة، مرة، وتلك الأزهار الصفراء والحمراء التي قدّمتها إلى خالتي مرة أخرى... وقبل هؤلاء أو معهم، خالتي خديجة وقبلها ابنها الرضيع عبد المعين وقبلهما أخي عبد الغفور... واخيرا جدي (الشيخ احمد صفا)... الذي اسمع دائما انه (الشيخ افندي...)... كل هؤلاء موتى... دفنوا في المقابر..؟؟؟ في حلب، وفي غيرها من الدنيا فإذا كانت أرواحهم، موجودة، كما قالت الخالة فاطمة.. وانها لا تموت... وانهم (لازم يكونوا حايمين حوالينا... البيت والزقاق، وحتى المدينة كلها مليانة بأرواح الناس اللي ماتوا..)... اذا كانت أرواحهم جميعا موجودة وتحوم حولنا، في الزقاق، أو في غيره، فلماذا لا نراها؟؟؟ لماذا لا نشعر بوجودها؟؟؟ تسمعنا صوتها على الأقل... ومع اني احسست بأن حكاية أرواح الموتى هذه محيّرة، يعجز عقلي عن استيعابها، فقد تذكّرت قول الحج عبد الرحيم، أنه سمع أصواتهم وهم يقرأون (دلائل الخيرات)... ومع اني لا أعرف ما هي دلائل الخيرات هذه... فقد عوّلت بيني وبين نفسي أن أجعل الحج عبد الرحيم يأخذني معه إلى حيث سمعها؟؟؟ لأسمعها معه، ومن يدري فقد اسمع بينهم صوت، جدّي، اذا كانت روحه من الأرواح التي أصبحت تحوم حولنا، ومن الذين سمعهم الرجل يقرأون (دلائل الخيرات).
أمّا حكاية (الصُّلاّح) الذين تحدث عنهم، الحج عبد الرحيم وكانوا السبب في الاغماء الذي أصيبت به خاتون... فكانت خلاصتها ـ ولابد لها من خلاصة إذ هي طويلة ـ خلاصتها أنهم دخلوا بيتهم، ومعهم (المشعل)، وبعض الأفرشة، اذ تركوا بقية امتعتهم عند مدخل الزقاق، وبدأوا يفتحون أبواب القاعة والديوان وغيرهما، ليناموا إلى الصباح... ولكن فجأة انطفأ المشعل... وحاول الحج عبد الرحيم اشعاله، بالكبريت، فكان يشتعل بعض الوقت ثم يعود فينطفي مع أن رزمة الفتيلة مشبعة بالزيت... واخيرا، وهم يشعلونه... سمعوا صوت (نفخة)... كأن مخلوقا ينفخ في الشعلة... فانطفأت... وفي الظلام الدامس، أحسّوا بحركة مخلوقات تجري في الديوان... كأنها تتسابق... ثم أخيرا تقول (خاتون) انها رأت على ضوء (الجلا)، رجالا في ثياب بيضاء وعلى رؤوسهم عمائم كبيرة بيضاء أيضا... يخرجون من باب القاعة... ويدورون في دكة الديوان، ويتحركون حركة (الذكر).... فغابت عن صوابها... أغمى عليها... ولم تصح إلا وهي في هذا المجلس.
كان وجه أمي وهي تصغي إلى كلام خاتون، رغم مسحة الرعب لخفيفة، لا يخلو من نوع من التفكير المتشكك، ليس في صحة أقوال خاتون... وانما في أن ما تقول أنها رأته فعلا، هو رجال، في ثياب بيضاء وعلى رؤوسهم عمائم كبيرة بيضاء أيضا.... التزمت الصمت هنيهة ثم قالت:
:ـ. طيّب يا خاتون... ما دام انتي شفتي هادول اللي بتقول عليهم... ليه ما شافهم ابوكي... والبيبي... ما كانوا معاكي في الديوان؟؟؟
:ـ. كانوا كلّهم معايا... لكن ما أدري... أنا شفت، وهمّا ما شافوا..
ثم التفتت إلى الـ (بيبي)... وكلّمتها بالهندية، تسألها: كيف لم تر هي ايضا الرجال في الثياب البيضاء والعمائم الكبيرة... وأخذت العجوز، تقول كلاماً طويلا وتشير بيديها اشارات معينة... وتمسح برؤوسها أصابعها عينيها.. واخيرا قالت خاتون:
:ـ. تقول بيبي روحية... انها لم ترهم.. ولكنها سمعت الحركة.. حركة المخلوقات التي تجري في الديوان.
تريثت أمي لحظات لتقول:
:ـ. اللي شفتيهم انتي ما أقدر اقول شيء... لكن الجري اللي سمعتوه.. يمكن يا خاتون يكون فيران... أو بساس... البيت مهجور من زمان... ولازم الفيران كتروا فيه.. وكانوا خايفين منكم ومن النور...
كانت منكشة، جالسة إلى جانبي.. ويدها تداعب شعري في حركة تدليل وتحبّب.. عندما سمعنا صوت الحج عبد الرحيم يرتفع من الدهليز شبه مخنوق... وهو يقول:
:ـ. هنا... هنا كمان... هنا كمان مشايخ.. صُلاّح.. الدنيا ظلام.. المسرجة ما في زيت..
امتلأنا رعبا ساحقا... كلّنا، صُعقنا تقريبا... وأخذ كل منا ينظر إلى الآخر... إلاّ الدادة منكشة... فقد رأيناها تكاد تضحك... وهي تقول:
:ـ. حج عبد الرحيم خوف... خوف... من ضلام... مسرجة ما في... خوف كتير..
ونهضت، وهي تتناول اللمبة العلاقي... واتجهت إلى الباب... ولكن قبل ان تخرج رأينا الحج عبد الرحيم يندفع... ووجهه في صفرة الأموات... وهويقول:
:ـ. صُلاّح... مشايخ... شيخ أفندي احمد صفا... كلّهم في الدهليز.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :898  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 41 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.